جاهزيــة دائمة ومواكبـة مستمـرّة لمقتضيـات العمل القتــالي وتطــوّره
مساهمة نوعيـة في مسـيرة تنمية اقتصادية لجزائر الاستقلال
تقترن كلمة “السليل” بالجيش الوطني الشعبي، والتي تعني منبت الأصل المقرون بالشرف، ولهذا المصطلح، أساس معنوي وتاريخي وأيضا دستوري وقانوني، منذ فجر الاستقلال، وحين جرى ضبط التوجّه نحو تحويل جيش التحرير الوطني، إلى جيش وطني شعبي.
يحوز الجيش الوطني الشعبي، على تاريخ حافل ومشروف، في أداء واجباته وتحمّل مسؤولياته الدستورية، منذ فجر الاستقلال. وتمكّن على مرّ السنوات، من بلوغ أعلى مراتب التطوّر والعصرنة وإثبات الجاهزية العملياتية، ما وضعه ضمن أقوى الجيوش بعقيدة عسكرية دفاعية مستلهمة من إرث جيش التحرير الوطني.
وعليه، فإنّ الجيش الوطني الشعبي، هو سليل جيش التحرير الوطني، الذي أنشأ كذراع عسكري لجبهة التحرير الوطني ليلة الفاتح نوفمبر 1954، تاريخ إعلان انطلاق الثورة التحريرية ضدّ الاستعمار الفرنسي.
وفكرة الكفاح المسلّح، كخيار حاسم ووحيد ضدّ المستعمر، تجسّدت لأول مرة، بإنشاء المنظمة السرية، سنة 1947، من قبل نخبة من الثوريين الأحرار الذي قاموا بتأسيس فرق عسكرية منظمة أنجزت عمليات نوعية ضدّ الاحتلال قبل اكتشافها من قبل المحتلّ سنة 1950.
لكنّ إرادة قتال الاستعمار والتضحية بأغلى شيء وهو النفس، استمرّت واستقرّت، ضمن الزخم الثوري الذي قاده جيش التحرير الوطني، عند اندلاع الكفاح المسلّح بمعارك بطولية لم تهدأ إلى غاية عيد النصر في 19 مارس 1962، ثم استمرّ بعد هذا التاريخ في مجابهة المنظمة الخاصّة للإرهابيين المعمّرين والتصدّي لجرائمها.
المراجع التاريخية، تشير إلى أنّ عملية تحوير جيش التحرير الوطني التي أنجزت رسميا في 04 أوت 1962، كانت ضمن أجندة مؤتمر طرابلس أواخر ماي 1962، حيث تمّ التأكيد على أنّ الجيش الوطني الشعبي، سيتولّى “مهام الدفاع عن استقلال الوطن وسلامة التراب الوطني”.
واعتبر أنّ جيش التحرير الوطني هو “النواة الأولى “ التي يبنى عليها الجيش الوطني الشعبي، إلى جانب التأكيد على مشاركة الجيش الوطني الشعبي في عملية البناء والتشييد عبر الاضطلاع بمهام اقتصادية واجتماعية.
وعليه، فمنذ استرجاع السيادة الوطنية، حمل الجيش الوطني الشعبي أمانة الشهداء، والتزم بصون وديعتهم واحترام تضحياتهم إلى الأبد، وتولّى على مرّ السنين، حماية الاستقلال الوطني والدفاع عن الأمة وعن حرمة التراب الوطني.
والخلفية الثورية، منصوص عليها في الذاكرة المعنوية للجيش وأيضا في المرجعية القانونية التي يستند عليها، ففي دستور 1976، نجد المادة 82 تنصّ صراحة على أنّه “درع الثورة” وأيضا “أداة الثورة” في إشارة إلى حماية الاستقلال الوطني، والمساهمة في مسيرة البناء.
وفي السياق، يعتبر الجيش الوطني الشعبي، جيشا جمهوريا، تؤطّر مهامّه نصوص صريحة تضمّنتها جميع الدساتير (عددها 5) بداية بدستور سبتمبر 1963 وصولا إلى دستور نوفمبر 2020.
وتؤكّد كلّها على انتظام الطاقة الدفاعية للأمة حول الجيش الوطني الشعبي، باعتباره دائم الاستعداد للدفاع عن “حدود الوطن وحماية وحدته الترابية وفقا لمهامه الدستورية، مستمدّا قوّته من إرادة الشعب”.
ويمارس الجيش الوطني الشعبي، كافّة مهامه سواء القتالية أو الإنسانية أو الاقتصادية في إطار قانوني واضح، ينظّم واجباته تجاه الوطن، وضمن عقيدة دفاعية واضحة الأهداف، والمسؤوليات التي تحملها جميعها في كلّ المراحل الدقيقة التي مرّت بها البلاد.
جيــش مهــاب
في 25 جوان 2023، أشرف رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلّحة وزير الدفاع الوطني، عبد المجيد تبّون، رفقة الفريق أول، السعيد شنقريحة رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، بالناحية العسكرية الأولى، وتحديدا بولاية الجلفة، على التمرين التكتيكي بالذخيرة الحية “فجر 2023”.
عقب هذا التمرين الذي نفّذته وحدات الفرقة 12 للمشاة الميكانيكية مدعومة بوحدات من مختلف القوات المسلّحة، أشاد رئيس الجمهورية، بالاحترافية والدقّة التي ميّزت مجرياته، قائلا “إنّ الجيش الوطني الشعبي، من الجيوش القليلة في العالم الثالث التي تجري تمارين مماثلة بالذخيرة الحيّة”.
كانت تلك لحظة من اللحظات التي تبرز مدى تقدّم الجيش الوطني الشعبي، وامتلاكه معايير الجاهزية الدائمة ومواكبته لمقتضيات العمل القتالي وتطوّره.ومثل هذه التمارين، تجريها وحدات الجيش الوطني الشعبي، دوريا، في مختلف الظروف، في البرّ والبحر والجوّ، وفي الليل، وبأساليب تكتيكية مدمجة، تعتمد التنسيق والتعاون بين مختلف القوات، وبأحدث أنواع الأسلحة مع دقّة فائقة في الرمي واستظهار القوّة الشديدة.وعلى مدى سنوات، واصل الجيش الوطني الشعبي إثبات تفوّقه القتالي، وأيضا تفوّقه في العمل الإنساني وفي المساهمة النوعية في مسيرة التنمية الاقتصادية، والتفرّد بعقيدة دفاعية مميّزة، لا يمكن فكّ تركيبتها إلا بالعودة إلى التاريخ العسكري لهذا الجيش.
أســود الوغـــى
المكانة التي وصل إليها الجيش الوطني الشعبي، تجسّدها الجاهزية العملياتية التي تظهر في الرمال المشتعلة بقذائف المدفعية أو القنابل الفتاكة التي يلقيها صقور الجوّ في التمارين والمناورات التي تستخدم فيها أسلحة بالغة التطوّر.
ولكنّ للجيش الوطني الشعبي، أمجاد صنعها في حروب حقيقية ضدّ جيوش كلاسيكية، وضدّ آفة الإرهاب، وكلّها مراحل بصم فيها أسوده من أفراد وضباط صف وضباط، على أداء قتالي ملحمي، انتهى بالنصر والبطولة.
وبينما لازالت دماء الجزائريين، لم تجفّ بعد الاستقلال، تصدّى الجيش الوطني الشعبي، لمحاولة المغرب غزو أراض جزائرية، سنة 1963، وحمى أرض الوطن بروح عالية من التضحية وبالقدرات القتالية المتاحة رغن أنّه خرج لتوّه من قتال شرس ضدّ الجيش الفرنسي وقوات الحلف الأطلسي دام أزيد من 7 سنوات.
وفي حروب الشرق الأوسط، سطّر الجيش الوطني الشعبي، عبر أولوية المشاة المحمولة والقوات الجوية واللواء الثامن مدرع، بطولات خالدة ضدّ الاحتلال الصهيوني من سنة 1967 إلى غاية 1970 ثم سنة 1973.
وجسّدت الجزائر، آنذاك من خلال الجيش الوطني مبدأي “التضامن العربي والدفاع عن القضايا العادلة”، وتحمّلت الأعباء القتالية والمادية لتلك الحروب، وقدّمت 150 شهيدا، ولم تتعرّض لأيّة هزيمة في مواقعها القتالية.
ومن هذه المنطلقات، تدرك الجزائر خلفيات كلّ السياقات الإقليمية والدولية، وكلّ الخطط التي تحاك ضدّ المنطقة مثلما صرح رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبّون، خلال زيارته الأخيرة إلى مصر.
وسبق للرئيس تبّون التأكيد على أنّ “السياقات الجيوسياسية الاستثنائية العالمية والإقليمية تزيد من عزمنا على مواصلة تطوير وعصرنة منظومة الدفاع الوطني، سواء تعلّق الأمر بامتلاك أحدث التكنولوجيات العسكرية والأسلحة والمعدّات والتحكّم فيها، أو بتأهيل العنصر البشري، لمسايرة هذه التكنولوجيات المتطوّرة والتحكّم في تقنياتها، بهدف حماية أمننا ومصالحنا الوطنية الحيوية، والدفاع عن حدودنا البرية والبحرية ومجالنا الجوّي”.
وانطلاقا من واجباته الدستورية، تصدّى الجيش الوطني الشعبي، لآفة الإرهاب في تسعينيات القرن الماضي، ومنع انهيار أركان الدولة، رغم حجم العنف والتخريب الذي أنتجته تلك الجماعات الدموية.
تحمّل الجيش يومها مسؤوليته، وأنقذ الدولة وطابعها الجمهوري، وكان يفعل ذلك وحيدا دون دعم من أيّ طرف خارجي، بل إنّ الخارج كان يطرح نقاشا مستفزّا، إلى أن اكتشف العالم حقيقة ما عانته الجزائر في هجمات 11 سبتمبر 2001.
وانتصر الجيش الوطني الشعبي على الإرهاب، كما انتصر في جميع الحروب التي خاضها في السابق ومثلما انتصر جيش التحرير الوطني على الجيش الفرنسي إبّان الثورة التحريرية.
وأثبت قدرته الفائقة على ضمان حرمة التراب الوطني، عن طريق التصدّي لكلّ محاولات اختراق الحدود الوطنية، واعتداء تيقنتورين سنة 2013، شاهد على طريقة تعامل الجيش الجزائري مع كلّ من تطال يده الجزائر.
إرادة دائمـــــة
الجيش الوطني الشعبي، ومن مقاربة استباقية واستشرافية، لا يتوقّف في جهده على الجاهزية القتالية العملياتية فحسب، بل إنّه على استعداد دائم لكلّ الحروب بشتّى أنواعها، خاصّة ما بات يطلق عليها “بحرب العقول” التي تستهدف وعي الشعوب، وكذلك حروب الجيل الرابع عبر الوسائط الرقمية وأعمال التخريب التي تستخدم الخلايا النائمة.وبلغ مرتبة رائدة في كلّ هذه المجالات، مستندا إلى تجاربه الرائدة في الحروب الشرسة بشتّى أنواعها، ومعتمدا على الجاهزية الدائمة والتكوين وعلى شمولية المهام، خاصّة ما تعلّق بامتلاك ناصية الصناعة العسكرية.
ويفصل رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أول السعيد شنقريحة، في نهج تطوّر الجيش وامتلاكه مقوّمات المواجهة والمساهمة في صناعة الجهد الوطني في مختلف الميادين، حينما تحدّث في كلمته له بالناحية العسكرية الثانية شهر ماي الماضي، عن “المقاربة الشاملة”.
وقال “لقد سعينا جاهدين إلى إعمال مقاربة شاملة ترمي إلى الرفع المستمر من القدرات القتالية لقوام المعركة لدينا، وتعزيز أداءاتنا الدفاعية لاسيما فيما يتعلّق بالتدريب المتواصل لمستخدمينا والتحضير القتالي والتحسين المستمرّ لقدراتنا البشرية وتمكينها من كلّ الشروط وأدوات التميّز”.
رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، كشف أنّ القيادة العليا للجيش، تحذوها إرادة قويّة ودائمة للارتقاء بالجيش إلى أعلى المراتب “لأنّنا نؤمن بأنّ العنصر البشري المؤهّل والمحترف والقادر على تطويع السلاح وأداء مهامه على الوجه الأمثل سيظلّ على الدوام حجر الزاوية لكلّ مسعى تطويري جادّ والقاعدة الصلبة لتطلّعاتنا في بناء جيش قويّ مهاب الجانب”.
ويتجلّى الاعتناء بالعنصر البشري، في المؤسّسة العسكرية، من خلال التكوين الذي تتيح مدارس عسكرية رائدة ومرموقة، تتيح التكوين والتطوير العلمي والبحث التكنولوجي والتدريب القتالي عالي المستوى، تبدأ من أشبال الأمة وتنتهي عند المدارس والأكاديميات المتخصّصة.
وأيضا عبر توفير أدوات التميّز، حيث يحوز الجيش خبرة طويلة في الصناعة العسكرية واكتسب مهارات الصناعة الحديثة في بعض الميادين “كالآليات المدرعة، والردارات والمنظومة الالكترونية للدفاع والأسلحة الفردية والجماعية والمعدات والقذائف والمواد المتفجّرة”.
ومن جيش التحرير الذي قارع الاستعمار الفرنسي (أقوى جيش في العالم آنذاك) بالبندقية إلى الجيش الوطني الشعبي، الذي يصنع السفن الحربية ويحوز على أسلحة القوّة الغاشمة، من أساطيل بحرية استعادت أمجاد البحرية الجزائرية وأساطيل جوية أظهرت فعّالية قصوى في جميع المهام الموكلة إليها، خاصّة زمن الوباء القاتل “كوفيد 19”، حيث اقتنت الأدوية المضادّة واللّقاحات والمستلزمات الطبية من الصين والهند في وقت قياسي.
وإضافة إلى كونه جيشا مهابا، يحوز الجيش الوطني الشعبي على سمعة دولية مرموقة للغاية، تتضح من خلال التعاون الدولي مع دول شقيقة وصديقة، تشهد له بالالتزام وامتلاك كلّ صفات العسكري الشجاع والشريف.كما تضعه تصنيفات المراكز والمعاهد الدولية المتخصّصة، دائما في المراتب الأولى إفريقيا وعربيا.
ولا يقصّر الجيش الوطني الشعبي في تقاسم تجربته في مكافحة الإرهاب وتقديم التكوين النوعي لجيوش الدول الصديقة والشقيقة، خاصّة دول الجوار والساحل الإفريقي، إذ يحرص تمام الحرص على المساعدة في مجابهة التحدّيات الأمنية والتهديدات المتزايدة عبر التنسيق والتعاون.
وفي الداخل، لا يمكن فصل الجيش عن عمقه الشعبي، من حيث المكوّن الأساسي والواجب، ومن حيث المساهمة في مواجهة الكوارث الطبيعية عبر أداء فعّال للمهام الإنسانية في الأوقات الصّعبة.
وفي كلّ مرّة تتقوّى رابطة “جيش-أمة” إلى درجة أن استحال على الطابور الخامس، والجماعات التخريبية ضرب هذه العلاقة عبر الدسائس وحروب الجيل الرابع، وتجسّد ذلك في فترة الحراك الشعبي سنة 2019، حيث صدحت المسيرات السلمية كلّ جمعة بشعار “جيش -شعب.. خاوة خاوة”.
وأظهر الجيش الوطني الشعبي، احتراما كبيرا للإرادة الشعبية، التي توّجت بتنظيم انتخابات رئاسية في 12 ديسمبر 2019، مكّنت البلاد من تفادي فخّ الفترة الانتقالية، وعبرت إلى برّ الأمان وتتطلّع اليوم إلى نهضة اقتصادية شاملة يساهم فيها الجيش عبر مؤسّساته الرائدة.