منذ انتقل الرئيس هواري بو مدين إلى رحاب الله كنت في مقدمة من يحرصون على تخليد ذكراه، سواء في نهاية ديسمبر من كل عام، أو في أي مناسبة تعطى لي الفرصة فيها لأعطر المجالس بذكراه، أو لأفند التفاهات الحاقدة التي برع فيها البعض، ومنهم من كان لا يجرؤ على التدخين في حضوره أو النظر في عينيه أو رفع الرأس أمامه.
كانت لي عشرات المقالات والمداخلات الإذاعية والمتلفزة عبر العقود الأربعة الماضية، برغم أن البعض حاول تعقيدي بالقول عني، وعن كل من كان يساهم في التذكير بمسيرة باني الجزائر الحديثة، بأننا نرتزق من سيرة الهواري، وهو أمر كان من الممكن أن يتقبله من يسمعه لو كان بو مدين قائما في المرادية، أو كان ممن يستجيب للمديح ويكافئ من يقوم به، وهو الذي كنت، بتوجيه منه، أحذف من برامج الاحتفالات كل القصائد التي كان يتقدم بها شعراء محليون كانوا، بكل محبة وحسن نية، يتغنون بمسيرته.
وكان الشباب في الجزائر منذ التسعينيات في طليعة من حاربوا التعتيم الجبان على رجل أحب الجزائر وأحبته، لكن من رفعهم إلى قمة الأحداث تخلوا عنه، وتركوا سيرته نهبا للضباع الجائعة، تنتقم من الرجل الذي حرمها من محاولة احتكار ثوابت الأمة، إسلاما أو عروبة أو أمازيغية أو وطنية أو نضالية.
ولقد قلت يوما بأن أحدا ممن كانوا يتدافعون لتصدر مسيرة الثورة الزراعية أمام كاميرات التلفزة وعدسات مصوري الصحف وميكروفونات الإذاعة لم ينطق بكلمة واحدة دفاعا عن واحدة من أهم الإنجازات التي تميّزت بها مسيرة الرئيس الراحل، والتي لا يصمد الادعاء بأنها كانت مجموعة من السيئات والعثرات، ولم يكن لها، على الأقل، ميزة واحدة تستحق التنويه أو فائدة ما، كم واجب أي عاقل أن يذكر بها، حرصا على مصداقيته.
وكان ذلك قمة الجبن والتخاذل والانتهازية.
هذا العام قررت ألا أشارك في أي احتفالية تقام في ذكرى الرئيس الراحل، وكان هذا لسببين، أولهما أنني أعيش فترة نقاهة بعد وعكة صحية حادة أصابتني في نوفمبر الماضي، لكن أهمهما هو أنني أردت القول للشباب بأن الوقت قد حان ليتسلموا منا، نحن الشيوخ والكهول، مسؤولية حملناها طويلا، وتحمّلنا في سبيلها الكثير، ومعظمه معروف.
وهكذا لا يظل تعبير استلام المشعل عبارة بلاغية تتردّد بخلفية واحدة ووحيدة، هي اللهفة على انتزاع مناصب الدولة أو الحصول على مكاسب معينة في مجال نشاطاتها، بل يصبح تسلما فعليا لمهام وطنية، فيها أعباؤها ولها تداعياتها وقد تتسبب في الكثير من المشاكل والمضايقات.
ويجب أن يكون تزايد أعداد الجامعيين والمتخصصين في التاريخ فرصة لاستعراض حياة كل رجالات الجزائر، تحليلا لمسيرتهم ودراسة لتجاربهم واستنطاقا لممارساتهم، وهكذا نخرج من مرحلة اجترار وقائع أصبحت أكثر من معروفة أو تكرار لرسم معالم شخصية الراحلين، وهو ما يجب أن يصبح جانبا ضئيلا من احتفاليات الذكرى، التي تتحوّل إلى حلقات دراسية كبرى تؤكد أن رجالات الجزائر هم فعلا جيل يجب أن يعتز به الوطن وتخلده الأمة.
ولعلي أذكر بما كنت كتبته يوما.
الأمة التي تتجاهل أفضل أبنائها، ممن لم يبخلوا عليها بعطاء أيا كان حجمه، يمكن أن تكون، في لحظة ما، فريسة لأسوإ أبنائها، ممن أخذوا دائما ولم يعطوا أبدا، اللهم إلا إفرازات الاستهلاك التي لا تختلف عن الغازات السامة لعادم السيارة.
رحم الله الهواري بومدين ولا قرت أعين الجبناء.