دعا، أمس، وزير المالية، كريم جودي، إلى وضع نظام مالي أكثر استقرارا لمواجهة تداعيات الأزمة المالية التي لا تزال تأثيراتها المباشرة تعيق النمو في الكثير من الدول المتقدمة والنامية على حدّ سواء.
وقال وزير المالية في معرض كلمته الافتتاحية في الندوة الرفيعة المستوى حول الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي في البلدان العربية، الذي نظمها بنك الجزائر، بحضور شخصيات وطنية وعربية رفيعة المستوى، أن انعكاسات الأزمة كانت بدرجات مختلفة من دولة إلى أخرى، مذكرا بكافة الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الجزائر قبل سنوات، وكانت بمثابة صمّام الأمان، سمحت بمواجهة أثارها السلبية على النظام الإقتصادي عموما والمصرفي على وجه التحديد.
أبرز الإجراءات التي اعتمدتها الدولة الجزائرية منذ سنة ٢٠٠٤، مسّت المديونية الخارجية وتقليصها المعتبر بفضل التسديد المسبق لها، فضلا على التراكم الكبير للإدخار الذي سمح بتمويل المشاريع التنموية الكبرى، إنطلاقا من القدرات المالية الذاتية، مثل هذه الإجرءات وغيرها، كان لها تأثير مباشر على رفع مستوى النموّ خارج قطاع المحروقات بـ٦٪ في المتوسط خلال سنوات ٢٠٠٠ إلى ٢٠١١.
من جهته، نوّه المدير العام، رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي، جاسم المناعي، بالجهود التي بذلها بنك الجزائر في تحقيق الإستقرار المالي والنقدي من خلال السياسة النقدية المنتهجة سواء من حيث ضبط مستوى السيولة أو امتصاص الفائض منها وتلبية احتياجات برامج التنمية في تمويل الاستثمارات الهامة، كما لم يفوت نفس المتدخل الفرصة للإشادة بقدرة بنك الجزائر على الحفاظ على إستقرار سعر الصرف من خلال سياسة التعويم المُدار، ساهمت في الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين وتأكيد ثقة المستثمرين في استقرار أسعار الصرف على حدّ ما ورد في تدخله.
وإن كان أبرز مؤشر إيجابي يُحسب على القطاع المصرفي عموما وبنك الجزائر خصوصا، يتمثل في تشكيل احتياطي كبير بالعملة الصعبة ناهز ٢٠٠ مليار دولار ومتجاوزا بكثير تغطية احتياجات الواردات، إلا أن التحديات التي لا تزال تواجه الاقتصاد الجزائري تبقى كبيرة، بحسب مدير عام صندوق النقد العربي وتتمثل أساسا في تقليص الإعتماد المفرط على إيرادات المحروقات، لاسيما وأن أسواق النفط في حالة تذبذب مستمر وأسعارها معرضة للتراجع نتيجة ضغط نمو الاقتصاد العالمي، مشيرا أن الرهان الأكبر يكمن في الحدّ الأدنى لسعر البترول المطلوب لتحقيق الموازنة العمومية الذي يعتبر مرتفعا نسبيا، لا يقل عن ١٠٠ دولار للبرميل.
وفي نفس سياق التحديات التي رصدها المسؤول الأول عن الصندوق العربي، قال جاسم المناعي، أن ارتفاع حجم الانفاق العمومي الناجم عن تمويل مشاريع التنمية سيؤدي لا محالة إلى ضغوطات تضخمية وارتفاعات في الأسعار خاصة وأن ظاهرة التضخم لا ترجع بالضرورة إلى عامل السيولة ومدى حجمها فقط، وإنما إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية المستوردة في الأسواق العالمية، والجزائر واحدة من الدول التي تعتمد كثيرا على استيراد المواد الغذائية وخاصة القمح لتلبية احتياجاتها المحلية.
وسجل الدكتور المناعي تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الجزائر على نحو سريع من ٢٣٪ من الناتج الاجمالي المحلي في سنة ٢٠٠٧ إلى نسبية متوقعة لا يتعدى ٥,٤٪ نهاية هذه السنة وهو تحدي آخر لا يقل أهمية عن التحديات الأخرى، شأنه شأن التحدي الخاص بتطوير القطاع المالي والمصرفي الذي من غير الممكن بقاؤه معزولا عن تفاعلات المصارف العالمية والتطورات الحاصلة على الصعيد الخارجي، مشددا على ضرورة تطوير قطاع سوق الأوراق المالية بالنظر إلى الإمكانيات الكبيرة للإقتصاد الجزائري، كما لاحظ نفس المتدخل، أن القطاع المصرفي، على العموم، وعلى الرغم من تبنيه لإجراءات إصلاحية كالسعي إلى تطبيق تصنيف البنوك لتحسين إجراءات الرقابة المصرفية وتعزيز الجدارة الائتمانية، إلا أن استمرار سيطرة الدولة على البنوك يمثل أعباء كبيرة وقد يخلق من وجهة نظر مدير عام صندوق النقد الدولي إشكالات حقيقية للقطاع المصرفي عند منح قروض لمؤسسات القطاع العمومي، ليست دائما في حالة إقتصادية حسنة، مما قد يضع مثل هذه القروض في خانة القروض المتعثرة التي تصبح عبئا ثقيلا وتضعف قدرتها على المساهمة في تمويل المشاريع الإستثمارية.
مداخلات عديدة لخبراء مالية عرب وأجانب، انصبت في مجملها حول البحث عن الطرف والأساليب المؤدية إلى الاستقرار المالي لدعم النمو في البلدان العربية، إنطلاقا من الدروس المستخلصة من الأزمات المالية وخاصة الأخيرة من أجل التوصل إلى وضع نظام مالي أكثر استقرارا.
اللقاء كان مناسبة خاصة لإحياء الذكرى الخمسين لإنشاء البنك المركزي الجزائري المصادف لـ١٣ ديسمبر ١٩٦٢، ثم العملة الوطنية، وكان ذلك بمثابة استرجاع السيادة النقدية بعد استرجاع السيادة السياسية.