تمسّك دائم بمبدإ “الحلول الإفريقية للمشاكل الأفريقية“
محرّك لتعاون جنوب- جنوب مبني على الواقعية والتنمية وتكامل المصالح
في زمن تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية، وتعيد فيه الأمم رسم خرائط علاقاتها وفق مقاربات براغماتية ومصالح متبادلة، تبرز الجزائر كفاعل دبلوماسي صاعد ومؤثر يعيد تموضعه في قلب القارة الإفريقية، لا بوصفه طرفاً في منظومة رمزية للتحرر فقط، بل كمحرك لتعاون جنوب- جنوب مبني على الواقعية والتنمية وتكامل المصالح.
آخر فصول الدينامية، كانت زيارة رئيس جمهورية زيمبابوي، إيمرسون منانغاغوا، إلى الجزائر، والتي تأتي بعد أسابيع من استقبال الرئيس الرواندي بول كاغامي، في ما يبدو أنه تحول استراتيجي في الرؤية الجزائرية لعلاقاتها الإفريقية، من الحنين الثوري إلى الفعل التنموي والشراكة الحقيقية.
زيارة الرئيس الزيمبابوي، التي توجت بتوقيع عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم في مجالات حيوية، لم تكن مجرد محطة بروتوكولية. بل عبرت عن إرادة سياسية مشتركة لتعزيز العلاقات الثنائية على قاعدة الندية وتوسيع الشراكة نحو آفاق أكثر واقعية. وفي تصريحاته، أكد رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون على «توافق تام في المواقف تجاه القضايا الإقليمية والدولية، لاسيما دعم الحلول السلمية للنزاعات في إفريقيا، واحترام سيادة الدول ورفض التدخلات الأجنبية»، وهي مرتكزات تشكل جوهر العقيدة الدبلوماسية الجزائرية.
في سياق متصل، أبدت الجزائر خلال هذه الزيارة رغبة صريحة في الدفع بالتكامل الاقتصادي الإفريقي، من خلال الدعوة إلى مشاركة زيمبابوي في معرض التجارة الإفريقية البينية المرتقب في الجزائر، إلى جانب الإعلان عن تأسيس مجلس أعمال مشترك، ما يعكس اتجاها نحو خلق جسور حقيقية بين الفاعلين الاقتصاديين الأفارقة، بعيدًا عن منطق التبعية للدوائر الاقتصادية الغربية أو الآسيوية.
كذلك، فإن التنسيق السياسي بين الجزائر وزيمبابوي حول ملفات إفريقيا والشرق الأوسط، يندرج ضمن استراتيجية أوسع، تقوم على إعادة إفريقيا إلى موقع الفعل في صياغة الحلول، لا موقع التلقي للأزمات. هذا ما تجلى أيضا في المواقف المشتركة حول القضية الفلسطينية، إذ جدد الطرفان إدانتهما للعدوان الصهيوني على غزة، ودعمهما لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة. كما لم تغب قضية الصحراء الغربية عن أجندة اللقاء، حيث أعاد الطرفان التأكيد على دعم مسار تصفية الاستعمار وتمكين الشعب الصحراوي من تقرير مصيره، ما يعكس تقاطعات الرؤى المبدئية بين البلدين.
في نفس السياق، تكتسي زيارة منانغاغوا بعداً رمزيًا مهمًا، كونها تأتي في ظل تصاعد الأزمات المالية العالمية وارتفاع مستويات الديون في الدول الإفريقية، ما يجعل الرهان على التعاون جنوب- جنوب أكثر من ضرورة. والجزائر، انطلاقاً من موقعها الاقتصادي والسياسي، تؤمن بأن بناء شراكات إفريقية خالصة هو السبيل لتقليص التبعية وتعزيز السيادة الاقتصادية لدول القارة.
وقد تجلت هذه الرؤية بوضوح في كلمة رئيس الجمهورية خلال الدورة الرابعة لمؤتمر تمويل التنمية بإشبيلية، حيث حملت كلمته دفاعًا صريحًا عن إفريقيا، مطالبًا بإعادة النظر في آليات التمويل الدولي المجحف، وداعيًا إلى حلول تمويلية أكثر عدالة ومرونة تراعي خصوصية القارة وتحدياتها الهيكلية.
هذا الخطاب ليس استثناء، بل هو امتداد لتوجه سياسي بات سمة واضحة للدبلوماسية الجزائرية، التي تسعى لجعل صوت إفريقيا مسموعًا في المحافل الدولية، انطلاقًا من منطق الشراكة لا الاستجداء، والندية لا الوصاية.
علاوة على ذلك، لا يمكن إغفال الدور الأمني الذي باتت تلعبه الجزائر في إفريقيا، باعتبارها منسق الاتحاد الإفريقي في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف. وقد جدد رئيس الجمهورية خلال استقباله نظيره الزيمبابوي، التأكيد على التزام الجزائر بمواصلة هذا الدور الحيوي، بما يعزز أمن واستقرار القارة ويحصنها من التهديدات العابرة للحدود.
بالإضافة إلى الجانب الأمني، تلعب الجزائر، في السنوات الأخيرة، دورا محوريا في مسار إصلاح الاتحاد الإفريقي، من خلال كونها نموذجا لدولة تؤمن بضرورة إعادة بناء المنظومة الإفريقية على أسس أكثر فاعلية واستقلالية. ويأتي هذا التوجه في ظل تصاعد النقاشات داخل الأطر القارية حول الحاجة الملحّة لإصلاح مؤسسات الاتحاد، وتمكينه من آليات حقيقية لمعالجة النزاعات الداخلية ومواجهة التحديات المتعددة التي تعرقل مسار التنمية المستدامة في القارة، على غرار الأزمات الأمنية والهشاشة الاقتصادية وتأثيرات التغير المناخي.
في هذا الإطار، أكدت الجزائر في أكثر من مناسبة، سواء عبر مداخلات مسؤوليها أو في المحافل القارية والدولية، تمسكها بمبدإ «الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية»، باعتباره خيارًا استراتيجيًا يضمن احترام سيادة الدول الإفريقية، ويعزز روح التضامن والتكامل بين شعوب القارة.
وترى الجزائر أن تدخلات القوى الأجنبية، التي غالبًا ما تتم وفق أجندات خارجية لا تراعي خصوصيات السياقات الإفريقية، تؤدي إلى تعقيد الأزمات بدل الإسهام في حلها، وهو ما يفرض على الاتحاد الإفريقي تبني رؤية إصلاحية شاملة تعزز استقلالية قراره السياسي، وتدعّم قدراته في الوساطة، والإنذار المبكر، وإدارة النزاعات، دون الارتهان للفاعلين الخارجيين.
وتعتبر الجزائر أن بناء إفريقيا قوية وموحدة يتطلب تفعيل مؤسسات الاتحاد، خصوصًا مجلس السلم والأمن الإفريقي، وإصلاح نظام التمويل الذاتي للاتحاد، بما يضمن استقلالية القرار عن المانحين الأجانب، إضافة إلى تعزيز مشاركة الدول الأعضاء في صياغة وتنفيذ السياسات القارية، وفق مبادئ المساواة والعدالة والاحترام المتبادل.
كما أن الزخم الدبلوماسي الذي تشهده الجزائر في علاقاتها الإفريقية هذه السنة، لا يُقرأ فقط من خلال عدد الزيارات الرسمية، بل من خلال نوعيتها ومخرجاتها. فاستقبال رؤساء دول مثل رواندا وزيمبابوي، وما تبعه من اتفاقيات ملموسة ومواقف سياسية متناسقة، يشير إلى انتقال نوعي في الرؤية الجزائرية نحو القارة، من رمزية التضامن التاريخي إلى دينامية الشراكة الإستراتيجية.
وفي المحصلة، يمكن القول إن الجزائر، وهي تعيد تموقعها داخل الفضاء الإفريقي، تفعل ذلك وفق منطق براغماتي مبدئي، يجمع بين الوفاء لتاريخها التحرري، وبين التطلع لدور ريادي في صياغة مستقبل القارة.
وإن كانت الزيارة الأخيرة للرئيس الزيمبابوي محطة من محطات هذا المسار، فإن الأهم هو ما يتبعها من أفعال، واستمرار الجزائر في تجسيد رؤية إفريقية مستقلة، عصرية وآمنة، تملك زمام قرارها وتسعى لتحقيق تنميتها بوسائلها، ومن خلال تضامن حقيقي مع أشقائها في الجنوب.