رئيس الجمهورية شخّص بدقّة الإختلالات في العلاقات الدولية

إصلاح المنظومة المالية وإعادة التوازن إلى علاقات الشمال والجنوب

علي مجالدي

 القارة الإفريقية ما تزال عرضة لسياسـات ماليـة غير منصفة

 تحـــرير الدول الإفريقية من قبضة وكالات التصنيف التقليدية

 تقليص فجوة التنمية بين الشمـال والجنوب..بيئة دولية أكثر استقرارًا

منصوري: مبادرات الجزائر تتجاوز منطق المطالبة إلى الشراكة الندّية

حملت كلمة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، خلال الجلسة العامة للمؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية بإشبيلية، رؤية واضحة للعالم الجديد الذي تنشده الجزائر، مستندًا إلى خطاب عقلاني وهادئ يعكس تمسك الجزائر بالمبادئ الدولية العادلة وتطلعها لدور ريادي في إفريقيا والعالم النامي، ولم تكن الكلمة مجرد مشاركة دبلوماسية رمزية، بل مثلت منصة لتشخيص دقيق للاختلالات العميقة التي تعاني منها المنظومة المالية الدولية، مع تقديم طرح بديل يستند إلى الإنصاف والتعددية القطبية كمدخل لإصلاح شامل.

وفي كلمته، ركّز رئيس الجمهورية على التحديات الكبرى التي تضعف قدرة الدول النامية على بلوغ أهداف التنمية المستدامة، وعلى رأسها اختلالات النظام المالي العالمي، وعبء المديونية، واختلالات التصنيف الائتماني، إلى جانب تأثير النزاعات الدولية وتغير المناخ على اقتصادات الجنوب. غير أن ما ميّز كلمة رئيس الجمهورية في هذا المحفل الأممي، لم يكن التوصيف التقليدي لهذه المعضلات، بل السعي إلى تأطيرها ضمن منظور أشمل يعيد طرح إشكالية العدالة المالية والتمثيل المتوازن في هياكل صنع القرار الدولي.
وفي السياق، دعا رئيس الجمهورية إلى ضرورة إصلاح عميق للمنظومة المالية متعددة الأطراف، يراعي التحولات الجارية في ميزان القوى العالمي، ويمنح للدول النامية، خاصة الإفريقية منها، موقعًا فاعلًا في صياغة سياسات التمويل واتخاذ القرار، مؤكدا أن استمرار الهيمنة غير المتوازنة في بنية المؤسسات المالية، يكرس التهميش البنيوي ويقوّض فرص الاستقرار الاقتصادي للدول الأكثر هشاشة. وهذا الطرح لا ينفصل عن توجه الجزائر في السنوات الأخيرة نحو تكريس مبدأ التعددية القطبية في العلاقات الدولية، ومناهضة النزعات الأحادية التي سادت لعقود.
علاوة على ذلك، شكّل الملف الإفريقي محورًا جوهريًا في الكلمة، حيث أوضح الرئيس تبون أن القارة الإفريقية ما تزال عرضة لسياسات مالية غير منصفة، خاصة ما تعلق بكلفة خدمة الدين والفوائد المرتفعة التي تتجاوز بكثير ما يُمنح لها من مؤسسات التمويل متعددة الأطراف. كما شدّد على أن أي مسعى أممي لتمويل التنمية ينبغي أن ينطلق من الاعتراف بالمظلومية المالية التاريخية التي تعرضت لها القارة، وبضرورة إطلاق مبادرات ملموسة لتخفيف أعباء المديونية، بل والإعفاء منها لبعض الدول.
وفي سياق متصل، انتقد رئيس الجمهورية الشروط الجامدة والإملاءات المرافقة للمساعدات التنموية، معتبرًا أنها تمثل عائقًا أمام تنفيذ الأولويات الوطنية، وتقوّض فعالية التعاون الدولي. وقد جاءت هذه الإشارة في توقيت حساس، حيث تتعالى الأصوات في دول الجنوب الرافضة لما يُعرف بـ»اشتراطات الإصلاح مقابل التمويل»، خصوصًا من قبل بعض المؤسسات المانحة التي لا تراعي السياقات المحلية.
كذلك، طرح الرئيس تبون بديلًا عمليًا للتصنيفات الائتمانية المجحفة، من خلال الإشادة بإنشاء وكالة إفريقية مستقلة للتصنيف الائتماني، في مسعى يهدف إلى تحرير الدول الإفريقية من قبضة وكالات التصنيف التقليدية التي كثيرًا ما توظف مقاييس لا تتوافق مع الواقع الموضوعي للبلدان النامية، وتؤثر سلبًا على قدرتها في الوصول إلى أسواق التمويل الدولية بكلفة معقولة.
ويرى العديد من المتابعين أن خطاب الرئيس تبون لم يكن مجرد تعبير عن موقف سيادي، بل حمل في طياته مقترحات ملموسة تؤكد على ضرورة بناء شراكة مالية جديدة بين الشمال والجنوب، تقوم على الإنصاف والاحترام المتبادل، لا على منطق الوصاية أو التبعية. كما أن الإشارة إلى الدور المحوري للقطاع العام والمساعدات التنموية العمومية في دعم الدول الهشة، يمثل ردا مباشرا على النزعة المتزايدة لتكليف القطاع الخاص وحده بمهام التنمية، دون توفير بيئة تمويلية عادلة.
وفي تصريح لجريدة «الشعب»، اعتبر الأستاذ منصوري عبد القادر، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أن كلمة رئيس الجمهورية «جاءت في توقيت بالغ الأهمية، حيث تشهد المنظومة المالية الدولية نقاشات حاسمة بشأن إعادة هيكلتها، وتكمن أهميتها في كونها لم تكتف بتشخيص الإشكالات، بل ذهبت إلى اقتراح بدائل تراعي مصالح الدول النامية دون القطيعة مع النظام الدولي». وأضاف: «ما يلفت الانتباه هو انسجام خطاب الجزائر مع التحولات العميقة في النظام العالمي، وسعيها لترسيخ دورها كفاعل من داخل إفريقيا يدافع عن مصالح القارة في المحافل الكبرى، ويطرح مبادرات تتجاوز منطق المطالبة نحو الشراكة الندّية».
بالإضافة إلى ذلك، شدّد الرئيس تبون على التزامات الجزائر تجاه إفريقيا، مستعرضًا مساهمتها في مشاريع تنموية في قطاعات الصحة والتعليم والطاقة والبنى التحتية، من خلال الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي، مع تخصيص ما لا يقل عن مليار دولار لدعم دول القارة. كما أكد أن خروج الجزائر من دائرة المديونية الخارجية بفضل سياستها المالية المعتمدة على الموارد الذاتية، يتيح لها اليوم لعب دور داعم للدول التي ما تزال ترزح تحت عبء الديون، بما يعزز مصداقيتها كطرف فاعل في المعادلة التنموية الإقليمية.
في المحصلة، يمكن قراءة خطاب رئيس الجمهورية في مؤتمر إشبيلية كجزء من استراتيجية أوسع تسعى الجزائر من خلالها إلى إعادة تعريف موقعها في التوازنات الدولية الجديدة، انطلاقًا من قناعة مفادها أن التنمية ليست معركة أرقام، بل معركة سيادة وعدالة واستقلالية القرار. ومن هذا المنطلق، فإن الرسائل التي حملتها الكلمة تؤكد توجهًا دبلوماسيًا متجددًا يربط بين مبدأ التضامن الدولي، وأولوية العدالة في التمويل، وضرورة تقليص فجوة التنمية بين الشمال والجنوب، بما يسهم في خلق بيئة دولية أكثر توازنًا واستقرارًا.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19811

العدد 19811

الثلاثاء 01 جويلية 2025
العدد 19810

العدد 19810

الإثنين 30 جوان 2025
العدد 19809

العدد 19809

الأحد 29 جوان 2025
العدد 19808

العدد 19808

السبت 28 جوان 2025