ورشة مفتوحة تؤسّس لنموذج حكم أكثر فعالية فـي التسيــير واتخـاذ القــرار
متغيرات دولية جعلت من مفهوم السيادة الوطنية وحماية الأمن القومي رهانا مركزيـــا
في مرحلة مفصلية من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها الجزائر في السنوات الأخيرة، يعيش المجلس الوطني الشعبي، خلال هذا الشهر، ديناميكية تشريعية غير مسبوقة تتجلى في وتيرة مناقشة ومصادقة مكثفة على مشاريع قوانين بالغة الأهمية، تشكل جوهر الإصلاحات التي أقرّها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، وكرّسها في مختلف القطاعات تماشيا مع الدستور الجديد لسنة 2020.
علي مجالدي
ويرى العديد من المتابعين أن البرلمان أصبح اليوم أكثر من أي وقت مضى، بمثابة ورشة مفتوحة تعكس حجم التحديات التي تواجهها البلاد، لا سيما في ظل متغيرات إقليمية ودولية متسارعة تفرض تحديثًا عميقًا للترسانة القانونية لضمان انسجام التشريعات الوطنية مع رؤية الجزائر الجديدة، التي تتبنى التنويع الاقتصادي، تعزيز الحوكمة، وتثبيت العدالة الاجتماعية كمرتكزات للانتقال إلى نموذج تنموي أكثر استدامة وانفتاحًا.
وفي هذا السياق، برزت الدورة البرلمانية الجارية كاستثناء تشريعي حقيقي قياسا إلى عدد مشاريع القوانين المبرمجة في جدول أعمالها، إذ من المرتقب ألا تُختتم في موعدها العادي المقرر في 2 جويلية وفق ما ينص عليه الدستور، لاسيما وأن مجلس الأمة برمج جلسات تمتد إلى غاية السابع جويلية المقبل.
وتكتسي مشاريع القوانين المطروحة، والتي تمس بشكل مباشر جوهر السياسات العامة للبلاد بالغ الأهمية، وتستجيب لمقتضيات الإصلاحات الرئاسية والتزامات الجزائر أمام نفسها وشعبها، وكذا أمام شركائها الدوليين. ويؤشر ذلك على إرادة سياسية عليا تستهدف التأسيس لنموذج حكم أكثر فعالية في اتخاذ القرار، وأسرع استجابة للرهانات المطروحة داخليا وخارجيا، بدءا من التحولات العميقة في الاقتصاد الدولي إلى التحديات الأمنية والاستراتيجية، ومرورًا بالمتغيرات المجتمعية وتطلعات الأجيال الجديدة.
تعزيز السيادة واستشراف المخاطر
من بين أبرز النصوص القانونية التي استأثرت باهتمام الرأي العام، يبرز قانون التعبئة العامة الذي جاء ليعكس وعي الدولة بالتحولات العميقة التي يعرفها النظام الدولي، وما تفرضه من يقظة دائمة واستعداد ممنهج لمواجهة أي طارئ قد يمس الأمن القومي للجزائر.
وفي تصريح خص به «الشعب»، أكد أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية الدكتور منصوري عبد القادر، أن «القانون جاء في توقيت بالغ الحساسية، في ظل ما يشهده العالم من اضطرابات وصراعات مفتوحة، جعلت من مفهوم السيادة الوطنية وحماية الأمن القومي رهانا مركزيا لكل الدول، خاصة تلك ذات الأهمية الجيوسياسية مثل الجزائر».
وأضاف الدكتور منصوري أن «نص القانون ينطوي على بعد استشرافي يكرس مبدأ تعبئة الموارد الوطنية، البشرية والمادية، بطريقة مدروسة ومؤطرة قانونيا، بما يسمح بضمان الجاهزية التامة في مواجهة أي تهديد محتمل، سواء كان عسكريا أو أمنيا أو حتى صحيا، كما حدث في جائحة كوفيد-19. كما أن القانون يؤكد رؤية الدولة الجزائرية وقدرتها على الاستفادة من دروس التاريخ وتجارب الأمم، ويضع الإطار التشريعي المناسب لتفعيل منظومة الدفاع الشامل، ليس فقط عسكريا بل على مختلف الأصعدة، في انسجام مع الدستور الجديد وعمل رئيس الجمهورية على تعزيز عناصر القوة الشاملة للدولة».
رافعة لتنويع الاقتصاد الوطني
وفي سياق موازٍ، شكلت المصادقة على مشروع القانون الجديد المنظم للنشاطات المنجمية محطة بارزة في مسار تحديث الإطار التشريعي الوطني وتكريس فلسفة الإصلاحات الرئاسية الرامية إلى تنويع مصادر الدخل الوطني والتحرر من التبعية لقطاع المحروقات. وقد جاء القانون بعد ثلاث سنوات من المشاورات المعمقة مع جميع الفاعلين في القطاع، وهو يسعى، كما أكد وزير الطاقة والمناجم، إلى تبسيط الإجراءات، وضمان الشفافية في منح السندات المنجمية، وتقليص آجال دراسة الملفات، إضافة إلى تعزيز جاذبية المناخ الاستثماري الوطني، وفتح المجال أمام الشراكات الوطنية والأجنبية.
ويمثل هذا القانون خطوة عملية نحو استغلال عقلاني ومستدام للثروات الطبيعية، وإرساء آليات فعالة لحماية البيئة وتطوير التنمية المحلية من خلال إلزام الشركات المنجمية بتوظيف وتكوين الكفاءات الجزائرية ونقل التكنولوجيا. كما يضع الأولوية للتموين بالسوق الوطنية، ويوفر ضمانات قوية للمستثمرين الوطنيين والأجانب، ليجسد بذلك رؤية الدولة في خلق اقتصاد متنوع، ديناميكي، وقادر على الصمود أمام الأزمات.
ومن ضمن النصوص ذات البعد الاجتماعي، يبرز مشروع القانون الذي يتمم القانون رقم 83-12 المتعلق بالتقاعد، والذي يهدف إلى ملاءمة التشريع الوطني مع التطورات الديمغرافية والاقتصادية للجزائر الجديدة. ويمثل هذا المشروع جزءا من استراتيجية الدولة لضمان استدامة منظومة الحماية الاجتماعية، ومواجهة الضغوط التي يعرفها الصندوق الوطني للتقاعد، وذلك من خلال إدراج آليات جديدة لحوكمة التسيير، وتطوير أدوات تمويل مبتكرة، بما يحفظ حقوق المتقاعدين ويؤمن التوازنات المالية للصندوق على الأمدين المتوسط والبعيد.
ترسانة قانونية تواكب التحولات
إن تزامن هذه المشاريع القانونية مع تمديد الدورة البرلمانية يعكس إدراك السلطات العمومية لحساسية المرحلة التي تعيشها الجزائر، وحتمية تكييف المنظومة التشريعية الوطنية مع متطلبات التنمية المستدامة، التقدم التكنولوجي، والتحولات السوسيو-اقتصادية العميقة.
وفي النهاية، يبقى الدور المحوري لرئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون واضحًا في الدفع نحو إصلاحات جذرية تلامس كل القطاعات الحيوية، وتعكس وعيًا استراتيجيا بحجم الرهانات المستقبلية. فالدولة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مطالبة ببناء مؤسسات قوية، ترسانة قانونية متجددة، وإرادة سياسية راسخة قادرة على استشراف المخاطر واستثمار الفرص، في سياق إقليمي ودولي متغير وسريع التحول.