إعادة تشكيل فلسفة الاستثمار وفق مبدأ “رابح-رابح” يُراعي العدالـــة المناخية والحق في التنميـة
جدّد رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، الاثنين، خلال الدورة 17 لقمة الأعمال الإفريقية-الأمريكية المنعقدة بالعاصمة الأنغولية لواندا، التزام الجزائر بتقوية التعاون الطاقوي الإفريقي، مؤكدا استعدادها لنقل خبراتها التقنية إلى الدول الإفريقية.
جاءت كلمة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون في قمة الأعمال الأمريكية الإفريقية بلواندا كإعلان استراتيجي يتجاوز البُعد الدبلوماسي الظرفي، ليُعيد تأكيد الدور الريادي للجزائر كدولة مركزية في التحول الطاقوي الإفريقي – ليس فقط باعتبارها منتجًا ومصدرًا، بل كصاحبة رؤية سيادية تنموية، تُراكم الإرث التحرري في علاقاتها الخارجية، وتُعيد توجيه معادلة الشراكة مع القوى الكبرى.
وفي نفس السياق، لا يمكن قراءة مشاركة الجزائر في قمة 2025 دون إدراك التحولات الإقليمية والدولية المحيطة بها. فالقارة الإفريقية اليوم تُعد من أغنى المناطق بموارد الطاقة التقليدية والمتجددة، لكنها في المقابل تعاني من أعلى معدلات نقص الكهرباء عالميًا، إذ تشير بيانات البنك الدولي أن قرابة 600 مليون إفريقي ما زالوا يعيشون دون كهرباء. وهذه الفجوة ليست تقنية فقط، بل تُعبّر عن اختلال عميق في نماذج التنمية والتعاون الدولي، وهي ما حاولت الجزائر أن تُعيد تأطيره انطلاقًا من مقاربة واقعية، تؤمن بأن الحلول لا تُفرض من الخارج، بل تُبنى بالشراكة وعلى أسس احترام الخصوصيات السيادية.
علاوة على ذلك، لا تأتي دعوة الجزائر لاعتماد “حلول تمويل مبتكرة” كمجرد مطلب بيروقراطي، بل هي نداء موجّه لإعادة النظر في النماذج التنموية المفروضة على إفريقيا منذ عقود. فالتمويل التقليدي، المرتبط بشروط المؤسسات المالية الدولية، لم يكن أداة لبناء القدرات، بل كثيرًا ما كرس التبعية. ومن هنا، فإن طرح الجزائر لمسألة تمويل مشاريع كأنبوب الغاز العابر للصحراء، أو شبكات الربط الكهربائي الإقليمي، لا يُقصد به فقط تعبئة رأس المال، بل إعادة تشكيل فلسفة الاستثمار نفسها، وفق منطق رابح-رابح، يُراعي العدالة المناخية والحق في التنمية.
كذلك، أكدت الجزائر من خلال هذه الكلمة – الرئيس تبون – أنها لا تعرض مواردها فقط، بل تعرض تجربتها وخبرتها. فالدعوة لنقل التكنولوجيا والتكوين المشترك مع الشركاء الأمريكيين ليست مجرد مطلب من العالم الصناعي، بل هي عرض جزائري لنقل النموذج الوطني في التحكم بالمجال الطاقوي، والذي جعل من الجزائر، رغم التحديات، من بين الدول القليلة في الجنوب العالمي التي تسيطر على كامل حلقات سلسلة الإنتاج الطاقوي.
كما تُعد الجزائر، اليوم، بحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة (IEA)، من أبرز الدول القادرة على تصدير الهيدروجين الأخضر إلى أوروبا بحلول عام 2030، مع إمكانية إنتاج تصل إلى 10 مليون طن سنويًا في الأفق المتوسط، بفضل موقعها الجغرافي وشبكاتها الحالية من خطوط الأنابيب نحو الضفة الشمالية للمتوسط. وهذا ما يمنح المشاريع الاستراتيجية التي ذُكرت في الكلمة بُعدًا يتجاوز السوق الإفريقية، ليضع الجزائر في قلب معادلة الانتقال الطاقوي العالمي، لاسيما مع تصاعد الحاجة الأوروبية إلى بدائل آمنة ومستقرة بعد حرب أوكرانيا.
بالإضافة إلى ذلك، تكتسب مشاركة الجزائر في القمة طابعًا سياديًا خاصًا، كونها جاءت على لسان ممثل لرئيس الجمهورية، بما يعكس الإرادة العليا للدولة في تأطير علاقة الجزائر بالقارة من زاوية المبادرة لا التبعية. فإفريقيا، كما أرادتها الجزائر دومًا، ليست فضاءً للنهب، بل مجالًا للتكامل، وقد أثبتت التجربة التاريخية للجزائر في دعم حركات التحرر الوطني، أنها بلد يُجيد تحويل علاقاته الإفريقية من علاقات رمزية إلى علاقات بنيوية قائمة على المصلحة المشتركة.
في المحصلة، تعكس كلمة الجزائر في قمة لواندا 2025 أكثر من مجرد موقف طاقوي، إنها تعبير عن رؤية استراتيجية ترى في الطاقة وسيلة للتحرر الاقتصادي، وليست مجرد مورد اقتصادي. رؤية تضع الجزائر في قلب الحوار الجنوبي-الجنوبي، ولكن أيضًا في موقع تفاوضي متوازن مع الشمال. وهي دعوة مفتوحة إلى جميع الشركاء: من يريد التعاون مع إفريقيا عليه أن يعيد حساباته، لأن الجزائر اليوم لا تُطالب بالشراكة، بل تُعيد تعريفها.