الاستقـرار العالمي لا يمكن أن يتحقق دون معالجــة القضايا العالقــة
في وقت تشهد فيه الساحة الدولية تحولات سريعة، لم تعد مفاهيم القانون الدولي والعدالة كافية وحدها لضبط سلوك الدول، حيث أصبحت القوة تُمارَس بدون ضوابط، والمصالح تُملى على المؤسسات، وفي الوقت الذي تتراجع فيه فكرة العدالة لصالح توازنات تفرضها الدول الكبرى. ووسط هذا المشهد المعقد، تحاول الجزائر جاهدة، ومن موقعها في مجلس الأمن، إعادة الاعتبار للمبادئ التي تأسست عليها المنظومة الأممية، وعلى رأسها احترام السيادة، ورفض ازدواجية المعايير، والدفاع عن الشعوب التي تواجه الاحتلال أو العدوان.
تندرج تحركات وزير الخارجية أحمد عطاف في هذا السياق، وخاصة كلمته الأخيرة في إسطنبول، كجزء من هذا التوجه، حيث لم تكن مجرد تعبير عن تضامن مع الشعب الفلسطيني، بل جاءت لتعيد طرح أسئلة جوهرية عن طبيعة النظام الدولي اليوم، وعن الصمت الجماعي أمام ما يقوم به الكيان الصهيوني في غزّة والضفة ودول أخرى. كذلك، فإن الربط الذي قدّمه عطاف بين الأزمة الفلسطينية وغياب الإرادة الدولية لتطبيق القانون، ليس جديدًا على الدبلوماسية الجزائرية، لكنه في هذه المرحلة يأخذ طابعًا أكثر حدة بسبب الانفجار غير المسبوق في تجاوزات الاحتلال. علاوة على ذلك، يتقاطع هذا الموقف مع سياسة جزائرية أوسع، ترى أن الدفاع عن القانون الدولي ليس مجرّد انحياز أخلاقي، بل ضرورة استراتيجية في ظل نظام دولي لم يعد متماسكًا. والجزائر، بحكم تجربتها التاريخية، تدرك أن التراجع عن هذه المبادئ يعني فتح الباب أمام مزيد من الفوضى، وهو ما لا يخدم الدول المتوسطة والصغرى، بل يعيدها إلى منطق الهيمنة.
وفي سياق متصل، فإن موقف الجزائر من فلسطين لا يمكن عزله عن إدراكها لدورها داخل تكتلات إقليمية كمنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الإفريقي. هذه المنتديات، رغم محدودية تأثيرها أحيانًا، تبقى أدوات مهمة لصياغة مواقف جماعية ضاغطة. ومن هذا المنطلق، تحاول الجزائر دفع هذه المؤسسات نحو مواقف أكثر صرامة، سواء في إدانة الجرائم المرتكبة أو في المطالبة بمحاسبة فاعليها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الجزائر لا تطرح نفسها فقط كصوت مدافع عن القضية الفلسطينية، بل كدولة ترى أن الاستقرار العالمي لا يمكن أن يتحقق دون معالجة القضايا العالقة على أساس القانون والعدالة، وليس بمنطق القوة والتحالفات الظرفية. ومن هنا، فإن تحركاتها في مجلس الأمن تعكس هذا الفهم. إذ تسعى لإعادة النقاش إلى جذوره: «هل نحن في نظام دولي يخضع لقواعد متفق عليها، أم في مرحلة انتقالية تُرسم فيها القواعد من جديد تحت ضغط الميدان؟» كما أن الموقف الجزائري لا يمكن اختزاله في رد فعل على العدوان، بل هو استمرار لخط دبلوماسي يرى في السكوت على المظالم تشجيعًا لها. وفي حالة فلسطين، لم يعد السكوت مجرد تقاعس، بل مشاركة ضمنية في الجريمة. لهذا السبب، يكرّر الجزائريون، في أكثر من محفل، أن مسألة فلسطين لم تعد تخص الفلسطينيين فقط، بل هي اختبار حقيقي لمصداقية النظام الدولي بأكمله.
وفي المصلحة، لا تطرح الجزائر نفسها كقوة قادرة على حل كل المشاكل بمفردها، لكنها تدرك أن بإمكان الدول ذات المواقف المبدئية أن تخلق فارقًا في صياغة الخطاب، وفي التأثير التدريجي على التوازنات الدولية. والكلمة التي ألقاها الوزير عطاف في إسطنبول، رغم أنها لم تخرج عن الثوابت، إلا أنها جاءت في توقيت حساس، وفي مكان له رمزيته، ما يجعلها أكثر من مجرد خطاب دبلوماسي. بل تعتبر تذكير، لمن يريد أن يتذكر، بأن هناك من لا يزال يتمسك بفكرة القانون، حتى في زمن الطغيان.