تتعامل بهــدوء مع محيطها بعيـدا عن أي أطماع للهيمنة

رسالة الجـزائر وصلت.. لا تسـامح مع من يتخطّى الحــدود

علي عويش

 ميزاب: الجزائر دائمة السّعي إلى بناء شراكات على أساس الشفافية والندّية 

ما تعيشه بعض الأنظمـة اليوم ليس سوى ارتداد لاختياراتهــا

في خضم المشهد المتأزّم بمنطقة الساحل الإفريقي، برزت الجزائر كفاعل عقلاني ومحوري، لتلعب دور «بيضة القبان» في ميزان القوى المترنّح في هذا الجزء من إفريقيا.. تعتمد في عقيدتها على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، لكنها لا تتسامح -في المقابل- مع أي استفزاز يتجاوز حدودها. ومع ذلك، فهي حريصة على طرح مقاربة شاملة تجمع بين الأمن والتنمية لتجاوز معضلات المنطقة.

وجّهت الجزائر في 31 مارس المنقضي رسالة واضحة، حين أسقطت طائرة مسيرة اخترقت حدود البلاد بـ1.6 كلم، وبمسار هجومي استفزازي، لتعلن في وقت لاحق أنها، وقبل هذا الرد الحازم، تعاملت بصبر وبضبط نفس كبيرين أمام تصرفات ظلت غير مبررة من قبل الطغمة الإنقلابية في باماكو.
وبات واضحا الآن، أن الجزائر فعّلت الردع الاستباقي بشكل حازم في التعامل مع كل اختراق لحدودها أو أجوائها، مع إبقائها لمقاربتها الشاملة التي تنظر إلى أزمات منطقة الساحل بمنظور شامل يجمع بين الأمن والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
في هذا السياق، أوضح الخبير الأمني والاستراتيجي، الدكتور أحمد ميزاب، أن الساحل الإفريقي لم يعد مجرّد منطقة اضطرابات هامشية، بل تحوّل اليوم إلى مسرح يُدار على حلبته صراع استراتيجي تتقاطع فيه مصالح كبرى وتتنازع فيه قوى إقليمية ودولية.
وأشار ميزاب إلى أن الجزائر قد برزت في هذا المشهد المتقلّب كلاعب محوري، نأت بنفسها عن الخطابات الشعبوية والتحرّكات الانفعالية، لتسلك طريقاً خاصّا نحو تجسيد رؤية استراتيجية متماسكة «تنطلق من الواقع، وتستند إلى التاريخ، وتستشرف المستقبل».
وجدّد الخبير في الشؤون الأمنية، التأكيد على أن التحوّلات الجارية في منطقة الساحل لم تعد تُقرأ بمنطق الصراعات التقليدية، «فنحن اليوم أمام تفكّك تدريجي لبنية الدولة لحساب تصاعد دور الفاعلين غير الحكوميين وانسحاب واضح للقوى الغربية في المنطقة».
وتابع قائلاً: «إن الجزائر تتحرّك بهدوء في المنطقة بعيدا عن أطماع الهيمنة أو السيطرة»، رغم ما يعيش الساحل من اندفاع متسارع لقوى بديلة تحاول بسط نفوذها على شعوب مقهورة أنهكتها الحروب والأزمات الداخلية. ولفت المتحدث إلى أن الجزائر تسير في هذا الفراغ بمنطق الرافض للتبعية المقيتة، وبفكر مقاومٍ للتبسيط.. يقول: «الجزائر لا تسعى إلى السيطرة ولا تقايض الشرعية بالتحالفات، بل تطمح إلى بناء مشترك من منطق سيادي واضح».
واستطرد ميزاب قائلاً، إن الجزائر لم تحاول يوماً فرض نموذج على شعوب وحكومات المنطقة، بل نأت بنفسها عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وحكّمت العقل والمنطق والقانون في تعاملها مع مختلف الملفات العميقة، مبرزاً دورها في إنهاء التدخلات الأجنبية المفروضة ومرافعاتها الدائمة لأجل إيجاد الحلول الإقليمية الواقعية، إلى جانب سعيها إلى بناء شراكات على أساس الشفافية والندّية وتجاوز المقاربات الأمنية الضيّقة نحو استراتيجيات شاملة تربط الأمن بالتنمية والتعليم والعدالة الاجتماعية.

السيادة.. عقيدة جزائرية

وجدّد الخبير الأمني والاستراتيجي الدكتور أحمد ميزاب، التأكيد على مدى قوة ومتانة المقاربة الجزائرية في منطقة الساحل، و»المبنية على رؤية واضحة بعيدة كل البُعد عن التحالفات الظرفية، تقف خلالها الجزائر على أرضية صلبة، حاملةً لمشروع استقرار حقيقي في زمن يُعاد فيه رسم خرائط النفوذ في إفريقيا، في محيط إقليمي يتخبّط بين فوضى السلاح وأوهام التبعية»، على حدّ تعبيره.
وأشاد محدّثنا بالمقاربة الأمنية التي تبنتها الجزائر في إفريقيا، والتي لم تكن –بحسبه- مجرّد خَيار تقني أو ظرفي، بل شكّلت امتداداً لعقيدتها السيادية ولرؤية شاملة تربط بين الأمن، الاستقرار، السيادة والتنمية.
وأكّد ميزاب أن الجزائر لم تتعامل يوماً مع الساحل بمنطق أمني صرف، بل بمقاربة متكاملة جوهرها رفض التدخّلات الأجنبية، مهما كان غطاؤها، ودعم بناء مؤسسات دول الساحل على أسس شرعية، إلى جانب اشتغال الجزائر على جذور التهديدات، حصرها، دراستها والقضاء عليها، مع الربط بين الأمن والتنمية في كل مبادرة تتخذها في الساحل.
وقال ميزاب: «عندما ندعو اليوم إلى إعادة تفعيل هذه المقاربة، فنحن لا نسترجع وصفة قديمة، بل نستحضر مشروعاً ناضجاً أثبت صلابته، ويكفي أن نقارن بين الدول التي انخرطت في تحالفات عسكرية مشبوهة، والدول التي تمسّكت باستقلال قرارها الأمني لفهم الفرق الجوهري».
وفي ردّه على سؤال حول مستقبل المنطقة، أوضح الخبير الأمني أن المسألة تتعلق بتوجّهات وسياسات تُختبر اليوم في الميدان، فمن اختار القطيعة مع محيطه الطبيعي وراهن على محاور ظرفية أو حسابات ضيقة، يدفع الآن تكلفة ذلك في الداخل والخارج.
وأضاف: «المشهد العام في الساحل مرشّح لأحد أمرين، إما استمرار التصدّع بفعل ضعف المؤسسات وتغذية الانقسامات الداخلية وتضخّم دور الفاعلين غير الدوليين، وإما التحرّك الناضج نحو استعادة السيادة الفعلية عبر مراجعة الخيارات، والعودة إلى منطق الشراكة مع محيط إقليمي حقيقي، لا اصطفافات مؤقتة».
وتابع ميزاب قائلاً، إن «ما تعيشه بعض الأنظمة اليوم، ليس سوى ارتداد لاختياراتها، حيث أن الرهان الحقيقي يكمن في إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. فالخروج من التبعية للفاعلين الخارجيين، والتأسيس لحوكمة أمنية واقتصادية وسياسية ينبغي أن تنبع من الداخل».
وأردف قائلاً: «الجزائر لا تنتظر مواقف مجاملة، بل ترى أن استقرار الساحل لا يُفرض ولا يُشترى، بل يُبنى على أسس صحيحة وصلبة».
وفي ظّل التجاذبات التي تعرفها المنطقة، حافظت الجزائر على مكانتها كفاعل مركزي لا يُمكن تجاوزه، ليس من باب قربها الجغرافي من المحيط المُلتهب، بل لثقلها الإقليمي وامتلاكها لرؤية أمنية استراتيجية متجذّرة في عقيدتها السيادية، لا مكان في فيها للمجاملة أو التحيّز لطرف على حساب آخر، بل هي رؤية موضوعية تملأ فراغاً إقليمياً يزداد اتساعاً، وتطرح مقاربة أمنية متكاملة تنأى عن منطق الهيمنة القادم من وراء البحار، وتؤمن بأن أمن الساحل لا يُبنى بالعمليات العسكرية المتطرّفة، بل عبر تنمية حقيقية وبناء مؤسسات شرعية تولد من رحم إرادة الشعوب.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19755

العدد 19755

الأربعاء 23 أفريل 2025
العدد 19754

العدد 19754

الثلاثاء 22 أفريل 2025
العدد 19753

العدد 19753

الإثنين 21 أفريل 2025
العدد 19752

العدد 19752

السبت 19 أفريل 2025