منذ بداية حرب الإبادة، تعمّدت قنوات التلفزة الصهيونية والجنود الصهاينة نشْر صور وفيديوهات توثق العنف والتعذيب الذي يتعرض له آلاف الأسرى الفلسطينيين، منها صور لمعتقلين أُجبروا على نزع ملابسهم وتعرضوا للتنكيل خلال عملية الاعتقال، بالإضافة إلى فيديوهات تُظهر أوضاع الاعتقال القاسية والقمع الذي يتعرض له الأسرى يومياً داخل الزنازين.
ومع استمرار حملات الاعتقال اليومية، لم تنقطع هذه المشاهد التي عمد الاحتلال إلى تكثيفها، وخصوصاً عند الإفراج عن الأسرى ضمن صفقات التبادل، وإجبارهم على ارتداء ملابس تحمل عبارات تهدد باستمرار العنف والإبادة؛ كـ “الشعب الأبدي لا ينسى، أطارد أعدائي وأمسك بهم”، و«لا ننسى ولا نغفر”. تعدّدت الصور والمشاهد، ومنها ما نُشر بشأن الاعتداء الجنسي داخل معتقل سديه تيمان، ومشاهد تُظهر إجبار الأسرى على الركوع داخل زنازين الاعتقال التي فُرغت من كل محتوياتها، والاعتداء عليهم من جانب ضباط معزَزين بالأسلحة والكلاب البوليسية، بالإضافة إلى مقابلات أُجبر الأسرى على إجرائها تحت التهديد، فضلاً عمّا نُشر من مشاهد الاعتداء على الفلسطينيين خلال الاعتقال، ولاحقاً داخل المعتقلات والسجون.
وتشكّل هذه الصور والمشاهد البصرية امتداداً للحرب التي يشنها الاحتلال الصهيوني على الشعب الفلسطيني، والتي شملت تحويل السجون ومراكز الاعتقال إلى ساحات حرب مركزية يتعرض داخلها الأسرى لكل أصناف العنف والتعذيب، والتي أدّت إلى استشهاد ما لا يقل عن 64 أسيراً، ممّن عُرفت هوياتهم منذ بداية الحرب.
هذا بالإضافة إلى تكثيف حالة العزلة التي يتعرض لها الأسرى عبر قطْع التواصل مع العالم الخارجي وإخضاع الأسرى للتنقل المستمر وتقييد زيارات المحامين، والتحكم بكميات الطعام المقدَّمة والقليلة أساساً، بالإضافة إلى منع الخروج للعلاج ورفض تقديم الأدوية إلى الأسرى المرضى. وتؤدّي الصور والفيديوهات التي تبثها سلطات الاحتلال دوراً مركزياً ضمن أهداف المنظومة السجنيّة الصهيونية الساعية ليس فقط لاعتقال الفلسطينيين، بل أيضاً لتحويل أجسادهم ومعاناتهم إلى مسارح عامة من أجل تصدير الخوف إلى المجتمع الفلسطيني كافة. وفي تكثيف هذه المشاهد خلال الفترة الماضية إشارة إلى الدور المركزي الذي تؤديه منذ بداية الحرب.
الاعـتقـال المـــُتَـلفَـز
يسعى الاحتلال لإحداث صدمة داخل المجتمع الفلسطيني عبر بث مشاهد العنف الجسدي والجنسي الموجَه إلى أجساد الأسرى، بالإضافة إلى صور الأسرى الذين فقدوا عشرات الكيلوغرامات من أجسادهم الهزيلة والمرهَقة بفعل العنف السجنيّ المستمر. ويحاول المحتل بهذه الصور والمشاهد ترهيب مَن هُم خارج الأسر، وكأنه يقول لهم: “هذا مصيركم في حال تحديتم الاحتلال.
وتشير كثافة الصور والفيديوهات التي نُشرت في الآونة الأخيرة إلى تحوُّل الأسْر إلى تجربة عامة تُبَثُّ بصورة مباشرة من جانب الاحتلال، بدءاً من لحظة الاعتقال والضرب، وصولاً إلى المكوث في الزنانين التي تم تفريغها من كل محتوياتها المحدودة أساساً. وفي أحد الفيديوهات، يتباهى ضابط صهيوني وهو يقف أمام أسرى مجبَرين على الجلوس في ساحة أحد السجون بطريقة معاملة الأسرى قائلاً: “لا أحد يتحرك هنا، لا أحد يعود إلى الخيمة، إلاّ عندما يسمح لهم المسؤول بذلك”، وينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن كمية الطعام المحدودة التي توفرها مصلحة السجون.
وفي فيديو آخر، يرافق صحافي من القناة الثالثة عشر الصهيونية ضباط مصلحة السجون الصهيونية في جولة داخل أحد السجون، وتُظهر المشاهد غرف الأسرى المفرغة من كل شيء، إذ تحتوي فقط على أَسِرّة من حديد. وفي مقطع آخر من الفيديو نفسه، يتحول حديث الصحافي إلى أغنية تُسمع في خلفية الفيديو قائلاً: “هذه الأغنية، “شعب صهيون حي”، تُبث طيلة الوقت في السجن، والهدف منها تعزيز معنويات الضباط، لكنها أيضاً جزء من الحرب النفسية على الأسرى”.
هذا التعليق، بالإضافة إلى المشاهد التي تُظهر الأسرى في زنازين فارغة من محتوياتها وهم معصوبي الأعين ومكبلين، يشكّل جزءاً من عنف المنظومة السجنيّة الموجه إلى أجساد الأسرى، وعن طريقهم إلى مَن هُم خارج الأسْر.
وتظهر مشاهد التعذيب والتنكيل المُتلفزة هذه، وكأنها عرض مسرحي يُعاد إنتاجه بصورة متكررة لإنشاء نظام رمزي جديد، يتحول فيه جسد الأسير إلى نص أيديولوجي حيّ يحاول عبره المحتل فرْض الهيمنة والتأثير في الوعي الجماعي؛ فهذه المشاهد تسعى لترسيخ السيطرة جسدياً ونفسياً ومعرفياً على المُستعمَرين، وفي بثها المباشر من داخل مساحات لم يعتَد رؤيتها إلاّ من أعتُقل داخلها محاولة لإنتاج الطاعة والخضوع عبر الترهيب المباشر.
ولربما انعكست مشهدية العنف والتعذيب العلنية بصورة جلية في الخطاب اليومي للفلسطينيين، إذ سعى الاحتلال لترهيب الفلسطينيين من الاعتقال ومما يمكن أن يحدث لهم داخل السجون.
وعلى سبيل المثال؛ فعلى الرغم من حقيقتها والألم المصحوب معها، فإن ممارسات لفظية كـ “ما بدي أنحبس في الحرب” و«فترة السجن السابقة في كفة، وسجن ستة أشهر في الحرب في كفة أُخرى” تشير إلى مستوى العنف داخل السجون، وأثر تلفزة الاعتقال الذي سعى الاحتلال لترسيخه منذ بداية الحرب. وعلى الرغم من معرفتنا الدقيقة أن المنظومة السجنيّة الصهيونية لجأت إلى شتى أساليب العنف والتعذيب منذ بداياتها، فإن علنيّة مشاهد التعذيب والعنف سعت لتشكيل فاصل بين تجربة الأسر قبل 7 تشرين الأول / أكتوبر وبعد ذلك، حتى لو لم تنجح بذلك تماماً. وعلى الرغم من هذه المحاولات الحثيثة في ترهيب الفلسطينيين، فإن مشاهد العنف والتعذيب تصطدم دائماً بمشاهد التحرر التي لطالما رافقت الحركة الأسيرة، والتي تعيد إنتاج مفهوم القوة وإمكانات الصمود.
مــشهدية التـــّحرّر في مـقـابل مـشـهد الــعنف
بنظرة واحدة إلى المشهد التحرري الفلسطيني الممارَس، يتحرر الأسرى بكل علامات التعذيب المنقوشة على أجسادهم، ويخلعون ملابس السجن التي أُجبروا على لبسها، وهي ذاتها التي كُتب عليها “الشعب الأبدي لا ينسى”، كي لا تصبح أجسادهم مسرحاً متنقلاً متجولاً لحتمية العنف الصهيوني. وفي مشهد نزع ملابس السجن وحرقها تحدٍ للمنظومة السجنيّة التي سعت لترك بصمتها العنيفة على أجساد الأسرى حتى اللحظة الأخيرة من تواجدهم بداخلها.
إن عملية اللفظ هذه هي ممارسة تحررية من الجلد المجلود، والحس المسجون في حواس قُمعت، والذهن والعصب المُتيقظ في كل لحظة لخطر لا توجد الأدوات الموازية لردعه والاحتماء منه. وفي مشاهد أُخرى، رأينا خروج الأسرى المنهكة أجسادهم والابتسامات قد طبعت على وجوههم.
هذه المشاهد تتحدى عنف المنظومة السجنيّة بفعل الحرّية والخروج من الأسر في ظل حكم مؤبد وثلاثين عاماً، أكثر أو أقل.
وهذه الابتسامة تُعيد إلى استحقاق الحرّية طريقها، وتقارع المنظومة السجنية التي لطالما حاولت الحد من تخيُل الأسرى لواقعية تحررهم. تشكل مشاهد التحرر النقيض المباشر لتلفزة الألم الفلسطيني كمحاولة لإخضاع الفلسطينيين، ولهذا تفرض أشكال وتعابير ممارسة الحرّية الرد الحقيقي لكل ما مر به الجسد المعتقَل، وأمام الفعل والممارسة تسقط سياسات هندسة الرعب والألم، على الرغم من الأعداد المتزايدة للأسرى يوماً بعد يوم، واستمرار الاحتلال في بث مشاهد التعذيب والتنكيل بالأسرى ومشاهد الدمار والقتل المستمرة.
هذه التلفزة ليست حديثة العهد كاستراتيجيا صهيونية في محاولة ضبط المشهد الفلسطيني، وحتّى أسماء العمليات العسكرية التي تشنها على المناطق الفلسطينية فيها من العنف والدموية، ولك أن تتصور عملية المحو والإبادة قبل البدء بها.
وعودة بالزمن إلى الانتفاضة الأولى وسياسة تكسير العظام في الشوارع وأمام الكاميرات العالمية، وكذلك خلال الانتفاضة الثانية، فقد برزت الدبابة تطحن المنازل وتعيد رسم شوارع المدن والمخيمات بما يتلائم مع مرورها داخلها، فضلاً عن نسف البيوت كسياسة ردع جماعية. لكن هذه السياسات لم تنجح، فنحن ما زلنا نرى أثر الفعل المقاوم في بناء الوعي والأمل لفكرة التحرر التي لا تقتصر على الممارسة، بل أيضاً تنعكس في الخطاب والفعل والاستعداد للالتحام بهوية ذات مشروع تحرري بالكامل. وتقف هذه المشاهد على النقيض تماماً لعملية حسم الإدراك المتمثلة في عنف المشاهد البصرية التي يستمر الاحتلال في بثها متوهماً أنه قادر على هزيمة الروح النضالية لمجتمع بأكمله.
- مي هماش: محاضِرة علم اجتماع في جامعة بيت لحم، ومشرفة على الإيداع القانوني في المكتبة الوطنية الفلسطينية.
- باسل فرّاج: مدير معهد ابراهيم أبو لغد للدراسات الدولية وباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.