نســــــج شراكــــات استراتيجيــــــــــــــــــة مـــــــع مختلف القــــــوى الدوليــــــــة وفق المصالح السيــــــــاديــــــــــة لبــــلادنا
الجــــــــــــزائر لا تقبـــــل إلا بالشـــــــــــراكات القائمــــــــــــة علـــــى الاحـــــترام المتبـــــــــــــادل والمنــــــــــافع المشــتركـــــــــــة
لطالما كانت جزائر الأحرار دولة سيدة في قراراتها وسياستها، ترفض أي منطق للهيمنة أو الإملاءات الخارجية، مؤسِّسة علاقاتها الخارجية وفق مبدإ الندية والاحترام المتبادل. وانتهجت على مدى العقود الماضية، سياسة متوازنة ومستقلة، أتاحت لها نسج شراكات استراتيجية مع مختلف القوى الدولية وفق مصالحها السيادية.
تمضي الجزائر قُدُما، في تعزيز شراكاتها المفيدة مع أقوياء العالم، بعيدًا عن أيّ ضغوط سياسية أو اقتصادية قد تمس باستقرارها أو تؤثر على دورها الإقليمي والدولي. هذا الأمر بدأت تستوعبه أوساط فرنسية بينما ترفض أخرى التسليم بهذا الواقع من منطلق الضغينة والعقدة التاريخية.
ولم يكن هذا النهج وليد اللحظة، بل كان متجذرًا في العقيدة الدبلوماسية الجزائرية التي لا تتعامل مع العلاقات الدولية بمنطق الانقياد أو التبعية، وإنما وفق رؤية براغماتية تحفظ مصالحها دون المساس بسيادتها.
في هذا السياق، شهدت السياسة الخارجية الجزائرية تطورًا نوعيًا خلال السنوات الأخيرة، عبر توسيع شبكة تحالفاتها وتعزيز دورها كفاعل أساسي في المعادلات الجيوسياسية، سواء في محيطها الإقليمي أو على المستوى العالمي.
ويبدو أن هناك من الفرنسيين من فهم متأخرا، مكانة الجزائر كدولة منشغلة بالدفاع عن سمعتها الدولية وتتطلع إلى تعزيز سيادتها، وما تصريحات المستشار السابق للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، هنري غينو، إلا اعترافا بهذا الواقع الجديد، حيث أقر بأن الجزائر تبني تحالفاتها مع قوى كبرى مثل روسيا، الصين والولايات المتحدة، مؤكدًا أن النهج التصعيدي ضدها لن يحقق أي نتائج، وأنه لا سبيل سوى التفاهم معها كشريك استراتيجي، كما فعلت إيطاليا.
هذا الاعتراف القادم من شخصية سياسية فرنسية عاصرت دوائر صنع القرار، يكشف أن باريس باتت تدرك متأخرة أن الجزائر لم تعد تقبل بأن تكون مجرد امتداد للنفوذ الفرنسي في المنطقة، بل أصبحت قوة تملك خياراتها الاستراتيجية وتحدد شركاءها وفق مصالحها الوطنية وحدها.
هذا التحول في السياسة الخارجية الجزائرية، امتد إلى تعزيز العلاقات مع القوى الدولية الكبرى المؤثرة؛ فبينما تُعد روسيا حليفا استراتيجيا تقليديا، فإن الصين أصبحت شريكًا اقتصاديًا واستثماريًا رئيسيًا، خصوصًا في مشاريع البنية التحتية الكبرى والصناعية، مثل غار جبيلات، إضافة إلى تعاون متزايد في المجالات التكنولوجية والصناعية.
كما أن التطور النشط للتعاون الجزائري- الأمريكي يمثل تحولًا لافتًا، حيث تدرك واشنطن أهمية الجزائر كقوة إقليمية في شمال إفريقيا والساحل، ما دفعها إلى توثيق شراكتها معها في ملفات الطاقة والأمن والاستقرار الإقليمي.
باريس تواجه العزلة
في المقابل، تجد فرنسا نفسها معزولة سياسيا في المنطقة، بعد أن فقدت الكثير من نفوذها التقليدي، ليس فقط بسبب توجه الجزائر نحو شركاء جدد، ولكن أيضًا بسبب إصرار الطبقة السياسية الفرنسية، خصوصًا اليمين المتطرف، على تبني خطاب تصعيدي وعدواني تجاه الجزائر والشعوب الإفريقية، وهو ما زاد من تعميق الهوة.
وكما أشار غينو، فإن السياسة الفرنسية، في التعامل مع الجزائر، تعاني من قصور في الرؤية الاستراتيجية، حيث لاتزال باريس تفضل التلويح بالتصعيد بدل البحث عن حلول براغماتية، رغم إدراكها أن أيّ محاولة للضغط على الجزائر ستبوء بالفشل.
علاوة على ذلك، يرى العديد من المتابعين أن التوتر الجزائري- الفرنسي الحالي ليس مجرد أزمة ظرفية، بل هو انعكاس لتحول عميق في موازين القوى، حيث لم تعد الجزائر ترى في فرنسا شريكا استراتيجيا رئيسيا، بل أصبحت تمتلك خيارات أوسع وأكثر تنوعًا، تجعلها أكثر تحررًا في قراراتها الدبلوماسية.
وبقدر ما يحاول اليمين المتطرف الفرنسي تأجيج الخلافات لتحقيق مكاسب سياسية داخلية، فإن الواقعية السياسية تفرض على باريس أن تدرك أن الجزائر لم تعد تقبل إلا بالشراكات القائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
وفي النهاية، ما قاله غينو، ليس سوى تأكيد على حقيقة باتت واضحة، فالجزائر اليوم ليست في موقع المتلقي، بل هي من تحدد قواعد اللعبة وفق مصالحها السيادية. ومهما حاولت فرنسا عرقلة هذا المسار، فإنها في النهاية ستجد نفسها مجبرة على التكيف مع واقع جديد لم تعد تتحكم فيه، كما في السابق.