قيمة مؤسسات الدولة الجزائرية لا تقاس بجواز سفر
الموقف الجزائري سيادي وثابت..لا إملاءات ولا ضغوطات ولا ليّ ذراع
التحالف الصهيو- مخزني حقق سيطرة كبيرة على وسائل الإعلام الفرنسية
تصر الحكومة الفرنسية على إمساك معول هدم العلاقات مع الجزائر، انطلاقا من حسابات داخلية خاصة، يتم ربطها أحيانا بالأجندة السياسية الداخلية ممثلة في الانتخابات وأحيانا أخرى بالأمن العمومي. ومع ذلك يظل الموقف الفرنسي غامضا ومرتبطا بسؤال كبير هو، ماذا «تريد فرنسا تحديدا من الجزائر»؟.
المؤكد أن مسألة الأشخاص الذين صدرت بحقهم أوامر بمغادرة التراب الفرنسي وقضية الكاتب العميل، اللتين ترددهما القوى السياسية الفرنسية المعادية، لا تعدو أن تكون مجرد أوراق ضغط تستخدم ضد الجزائر الرافضة لمنطق الضغوطات والإملاءات وليّ الذراع.
ويمكن أن تتوقف الحكومة الفرنسية عن التلويح بها، في رمشة عين، لو يتحقق لها تصورها الخاص للعلاقات الثنائية مع الجزائر. هذا التصور أو المشروع، الذي تحرص على إبقائه خارج التداول الإعلامي، يمثل الغرض الرئيسي من حملة التصعيد الحالية والتي ترى فيها معركة حاسمة.
والجزء الظاهر من جبل الجليد، في الأزمة المتصاعدة بين البلدين، هو الاستحقاقات الانتخابية المقبلة والتي يلعب فيها ملف الجزائر محدِّدا رئيسيا، لذلك يحاول وزير الداخلية روتايو، الاستفراد به واتخاذه طريقا مختصرا إلى مكتب الإليزيه.
كان ممكنا التسليم بهذه القراءة، برأي مراقبين، لو تحلّى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بجرأة أكبر في الإعلان عن موقفه الرافض لنهج وزيره وجزء من حكومته. أمَا وقد حاول أن يكتفي ببعض من التهدئة، فلابد من الاعتقاد بوجود نقاط التقاء بينه وبين وزرائه بخصوص تجريب أقصى درجات الضغط على الجزائر.
تحالف الشر
العديد من المراقبين، يعتبرون انحياز فرنسا اليمين المتطرف إلى الطرح المغربي في قضية الصحراء الغربية، الصيف الماضي، تعد الشرارة الأولى للأزمة الحالية. إلا أن العلاقات الثنائية لم تكن في قمة مستوياتها قبل هذا التاريخ، لأن المناورات الفرنسية ضد الجزائر بدأت سنة 2019، بدليل أن الأخيرة استدعت سفيرها لدى باريس في مناسبتين قبل أن تقرر سحبه في 30 جويلية الماضي.
ولا يمكن فصل السياسة الفرنسية تجاه الجزائر، عن عوامل خارجية مؤثرة، وتحديدا الكيان الصهيوني ونظام المخزن اللذين طورا تحالفا ثلاثيا مع اليمين واليمين المتطرف الفرنسي، ويعملان على استخدام فرنسا الرسمية كرأس حربة لمحاولة إخضاع الجزائر، من خلال اختراق مراكز القرار الفرنسي.
التحالف الصهيو- مغربي، حقق سيطرة كبيرة على وسائل الإعلام في فرنسا، عبر إمبراطورية فنسان بولوري، الذي استطاع إلغاء حواف الخطاب بين اليمين واليمين المتطرف، بالشكل الذي يختزلها في خطاب واحد وتيار واحد.
وإذا كان لثنائية الشر بين الكيان والمخزن، مبرراتهما المعروفة في استهداف الجزائر، فإن لليمين الفرنسي والدولة العميقة الفرنسية مبرراتهما أيضا في خوض معركة كسر عظام مع الدولة الجزائرية التي ترفض الاستسلام للابتزاز الفرنسي البائس والتعيس.
ويرى مراقبون، أن الجزائر تظل دائما نابض قياس الهيمنة الخارجية لفرنسا، وكلما أخذت طريقها بشكل مستقل في بناء الاقتصاد وتعزيز أدوات السيادة، كلما ارتعدت الفرائص في باريس.
ومن الواضح، أن تراجع النفوذ الفرنسي، إلى غاية الحدود الإقليمية للبلاد تقريبا، بعد خسارة أجزاء واسعة في إفريقيا، وقبل ذلك خسارة معركة المرحلة الانتقالية في الجزائر سنة 2019، يدفعها لخوض حرب اعتبارية ضدها، من خلال محاولة إرغامها على قبول انحيازها الكلي للمغرب في قضية استعمارية محضة.
فرنسا التي منحت لـ13 دولة إفريقية استقلالها في يوم واحد من أجل التفرغ للجزائر، لا يمكن أن تقبل بالخسارة المدوية على صعيد النفوذ والسمعة الدولية أمام الجزائر، التي اختارت طريقا آخر، تريد من خلاله بلوغ ساحة الدول الناشئة، وتبني بشكل متسارع مكانة دولية مرموقة.
وأصل المشكل، هنا، لا ينطلق من الجزائر، بل من حفاظ فرنسا على نفسها كامتداد للهيمنة الاستعمارية، باعتبارها سبيلها الوحيد لضمان موطئ قدم في ساحة القوى الكبرى، والرمز البارز في تاريخي الاستعمار الفرنسي هو الجزائر.
وكان يمكن لباريس، أن تحذو حذو ألمانيا اليوم، التي أثبتت أن لا شيء يربطها بالنازية. لكن القوى الفرنسية الحالية تصر على الارتباط بالاستعمار وعلى تمجيده، بل والعمل بكل قوة على إبقاء أشكاله الجديدة ولو تعلق بالأمر بمنح التمدرس للطلبة أو الامتيازات المرتبطة بجواز السفر الدبلوماسي، حيث تعتبرها شكلا من أشكال استمرار القوة الناعمة.
ريع الذاكرة
وسبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن تسبب في أزمة دبلوماسية مع الجزائر، سنة 2021، عندما اتهم الجزائر بالتمسك بـ «ريع الذاكرة»، ثم جرى تعميم هذا المصطلح من قبل القوى السياسية الفرنسية ووسائل الإعلام، واعتباره حجر عثرة أمام تطبيع العلاقات بين البلدين لتصل إلى مستوها الطبيعي.
ولكن ماكرون، لم يقم إلا بعملية تجديد للخطاب نفسه الذي طالما ردده سابقوه من المسؤولين الفرنسيين، الذين قالوا قبل عقدين إن تطور العلاقات مع الجزائر مرهون بمغادرة جيل الثورة للحكم.
كل هذا يثبت شيئا واحدا، وهو أن فرنسا هي من تناور وتستغل «ريع الذاكرة» ولا أحد سواها، وذلك لارتباطها العضوي بالاستعمار كممارسة وكإيديولوجية، يقيناً منها، بأن خروجها من دائرة الاستعمار يعني الخروج من التاريخ.
وقد شاهدها العالم، قبل أيام، وهي تحاول الازدهار إعلاميا، بحديث رئيسها ماكرون عن المظلة النووية لأوروبا، والاستعداد للحرب وضرورة مواصل أوكرانيا القتال ضد روسيا، في وقت يحرص رئيس أقوى دولة في العالم دونالد ترامب، على صناعة السلام.
أخطاء قاتلة
في المحصّلة، تدرك فرنسا أنها ليست بمستوى الولايات المتحدة الأمريكية، وأنها لا تملك شجاعة ألمانيا التي باتت قوة عالمية بعد تخلصها نهائيا من إرث النازية، لذلك تتخذ من ريع الذاكرة حبلا سريا للنجاة من تبعات التحولات الدولية المتسارعة، ومن خوض معركة دبلوماسية مع الجزائر، مصدرا للشعور بالثقة بالنفس.
لكن، المسيطرين على مشهد العلاقة مع الجزائر، ومن خلال هذه العقد الاستعمارية المعبر عنها بشكل سطحي، يثبتون أنهم يجهلون حقيقة الدولة الجزائرية، لأن التحول الكبير في العلاقة حدث وانتهى، ولا يمكن الاستدراك بلغة التهديد وبازدواجية المعايير.
وإذا كان روتايو، يعتقد أن بإمكانه تقديم قائمة بأسماء أشخاص غير مرغوب فيهم، ويتغاضى في المقابل عن قائمة الأشخاص التي ترغب الجزائر في تسلمهم، لتورطهم في جرائم إرهابية وتخريبية وجرائم تمس بالاقتصاد الوطني، فهو مخطئ.
وما يقوم به هذا السياسي الصغير والشرير وأصدقاؤه، لا يتوقف عند خرق اتفاقيات الهجرة، بل الاتفاقيات المتعلقة بالتعاون القضائي أيضا، لأن من يُؤوي فارين من العدالة وناهبي المال العام والإرهابيين، لا يملك الحق في تحديد الشخص السيّء من الشخص الجيد.
وإذا كان يعتقد روتايو، أن قمة التصعيد مع الجزائر، ستكون فرملة جواز السفر الدبلوماسي، حتى تعود الشركات الفرنسية إلى الجزائر، فهو مخطئ، لأن قيمة مؤسسات الدولة الجزائرية لا تقاس بجواز سفر، وعليه أن يستعد للتعامل مع تداعيات الأخطاء القاتلة التي هو بصدد ارتكابها.