الماضي الاستعماري عقبة لا يمكن تجاوزها دون مواجهـة الحقيقـة والمساءلة..
ألغام مضادة للأفراد على امتداد خطي شال وموريس وتجارب نووية وجرثومية في رقان ووادي الناموس.
لاتزال الذاكرة التاريخية بين الجزائر وفرنسا مثقلة بصفحات سوداء من الاستعمار، حيث تتوالى الاكتشافات حول الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية في حق الجزائريين. وبينما تتجه العلاقات الثنائية بين البلدين لمزيد من التعثر والتأزم، بسبب سياسات اليمين المتطرف، يظل الماضي الاستعماري عقبةً لا يمكن تجاوزها دون مواجهة الحقيقة والمساءلة.
إحدى أكثر القضايا إثارةً للجدل في هذا السياق هي استخدام الجمهورية الفرنسية الخامسة للأسلحة الكيميائية ضد الجزائريين خلال الثورة التحريرية المجيدة، وهي تعد جرائم حرب لا تسقط بالتقادم وترتبط ارتباطًا وثيقًا بمسؤوليات فرنسا القانونية والتاريخية، وتتطلب أكثر من مجرد اعتراف، بل تفرض ضرورة الاعتذار والتعويض المادي.
هذه الأسلحة المحرمة دوليا، بدأ الاستعمار الفرنسي في استخدامها ضد الجزائريين بغرض الإبادة مع نهاية الجمهورية الرابعة، وبداية الجمهورية الخامسة التي استمرت في قتل الجزائريين بأبشع الأساليب باستخدام الأسلحة الكيمياوية والألغام المضادة للأفراد على امتداد خطي شال وموريس، ثم لاحقا بالتجارب النووية والجرثومية في رقان ووادي الناموس.
وحين تأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958 بقيادة الجنرال شارل ديغول، لم يكن ذلك سوى انتقالا شكليا داخل نظام استعماري واصل سياساته القمعية مستخدمًا أبشع الوسائل لقمع الثورة الجزائرية، فبعد أن شهدت الجمهورية الرابعة (1946-1958) انتهاكات واسعة، جاء النظام الجمهوري الجديد ليواصل النهج ذاته، بل ويضفي عليه طابعًا مؤسساتيًا منظّمًا، من خلال تعزيز استخدام أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة الكيميائية والتجارب النووية في الصحراء الجزائرية.
وكشفت أبحاث المؤرخ الفرنسي كريستوف لافاي، عن أدلة دامغة حول استخدام فرنسا للأسلحة الكيميائية بين عامي 1957 و1959، حيث تم تنفيذ 450 عملية عسكرية كيميائية، تركزت بشكل خاص في المناطق الجبلية في منطقة القبائل والأوراس، التي كانت معاقل قوية للمجاهدين. وتشير الوثائق الجزئية المتاحة، إلى أن وزير الدفاع آنذاك، موريس بورجيس مونوري، هو الذي وقع على قرارات السماح باستخدام هذه الأسلحة، تحت إشراف الجنرال شارل إيوري، الذي يُعدّ المدبر العسكري للقنبلة الذرية الفرنسية.
هذه الحقائق الدامغة والتي يقدمها مؤرخون وباحثون فرنسيون، امتلاك شجاعة التعامل مع حقيقة الاستعمار الفرنسي، تواجه محاولات الإفلات والتدليس من قبل اليمين المتطرف واليمين اللذين يحاولان كتابة تاريخ آخر، يقوم على تمجيد الاستعمار ولكن دون جدوى.
ومن خلال الأرشيف العسكري المتاح، تأكد استخدام الجيش الفرنسي لمزيج من الغازات السامة مثل CN2D، وهو خليط قاتل من السيانيد والزرنيخ، بالإضافة إلى عناصر مشطورة أخرى تعزز من فتكه.
وكان الهدف من هذه الغازات قمع ثورة التحرير واستخدامها ضد الشعب الجزائري والمجاهدين الذين اتخذوا من الجبال والمغارات مأوى لهم، ولم يقتصر الأمر على الاستخدام العشوائي لهذه الأسلحة، بل إن الجيش الفرنسي أنشأ وحدات متخصصة عُرفت باسم «فرق الأسلحة الخاصة»، وهي وحدات مدربة على التعامل مع الأسلحة الكيميائية، بلغ عددها 119 وحدة بين عامي 1957 و1959، ما يكشف عن عقيدة عسكرية ممنهجة وليست مجرد قرارات فردية.
هذه العقيدة، اعتنقتها الجمهورية الخامسة المستمرة إلى غاية اليوم، بكل قوة، إذ عملت بشتى الوسائل والطرقل إبقاء الجزائر فرنسية، مهما كلف الأمر، وهي في الحقيقية تشكل امتدادا تاريخيا لطبيعة الاستعمار الاستيطاني الذي قام على استبدال الجزائريين، بمعمِّرين جاء بهم من مختلف مناطق أوروبا.
ولاشك أن السلطات الفرنسية بعدم كشفها عن الأرشيف السري الكامل لاستخدام هذه الأسلحة، نابع من خوفها من الإدانة التاريخية والأخلاقية على المستوى الدولي، لأن العالم سيكتشف أهوالا، فمن قام باستخدام أسرى مجاهدين كفئران تجارب في التفجيرات النووية، بعرضهم مباشرة أمام الإشعاعات النووية، لن يتردد في استخدام كل أنواع الأسلحة الممكنة للقضاء على الثورة ولقتل أكبر عدد من الجزائريين.
فرنسا أمام مسؤولية قانونية وأخلاقية
ويُصنف القانون الدولي هذه الأعمال الاجرامية التي قامت بها فرنسا، ضمن جرائم الحرب التي لا تسقط بالتقادم، إذ تحظر اتفاقيات جنيف وبروتوكول جنيف لعام 1925 استخدام الأسلحة الكيميائية في النزاعات المسلحة. ومع ذلك، لم تكتفِ فرنسا باستخدامها فقط، بل استمرت في إنكار مسؤوليتها حتى اليوم، مع إبقاء الأرشيف المتعلق بهذه العمليات في طيّ السرية، مما يعوق كشف الحقيقة الكاملة وتحديد حجم الكارثة الإنسانية التي خلفتها هذه الجرائم.
ولم تنته آثار هذه الجرائم بانتهاء الاستعمار، إذ مازالت الجزائر تتحمل بمفردها تبعات هذه التجارب الكيميائية والنووية، سواء من حيث التكفل الطبي بالضحايا بعد الاستقلال، أو من حيث الأضرار البيئية التي خلّفها التلوث الكيميائي والإشعاعي في العديد من المناطق والمستمرة إلى اليوم. ولم تقدم فرنسا أي تعويض أو دعم مالي للجزائر لمساعدتها على معالجة هذه الأضرار، رغم أن التعويضات تُعتبر جزءًا من مسؤوليتها القانونية عن جرائم الحرب التي ارتكبتها. وبدل أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية وتعترف بجرائمها، تواصل الجمهورية الخامسة المناورة والقفز على الحقائق، خاصة مع اختراقها من قبل اليمين المتطرف الذي ينحدر من قادة وأعضاء الجيش السري الإرهابي الذين انتفضوا ضد الجنرال ديغول يوم أقر بالهزيمة أمام الثورة الجزائرية. كما أن الحديث عن مسؤولية الجمهورية الفرنسية الخامسة عن استخدام الأسلحة الكيميائية في الجزائر ليس مجرد استذكارٍ لأحداث تاريخية، بل هو معركة من أجل الحقيقة والعدالة، يخوضها المؤرخون والضحايا وعائلاتهم والدولة والمجتمع الجزائري بأسره، ضد النسيان والتهميش. فالتاريخ لا يُمحى بالصمت، وإنكار المسؤولية لا يلغي الواقع، بل يزيد من تعقيد العلاقات بين البلدين، فهل تمتلك الحكومة الفرنسية اليوم الشجاعة لمواجهة إرثها الاستعماري والاعتراف، والاعتذار والتعويض؟ أم أنها ستظل ذاكرة الحرب الاستعمارية جرحًا مفتوحًا ينزف في وجدان الجزائريين؟