الرئيس تبـون أكد مـرارا وتكرارا بأن لا تنازل ولا مساومة بشأن الذاكرة وهـي خط أحمر
نعش العصر الذهبي بخصوص الذاكرة والتــاريخ بطريقــة صريحة ورؤية استراتيجيـة
قانون تجريم الاستعمــار سيفتح الباب أمام التأسيـس لطرف الادعاء بالمحاكم الدولية
الجزائر ليست وحدها المعنية بمقاضـاة الدولـة الفرنسيـة حـول جرائمهـا الاستعماريـة
اليمين المتطرف يحمل نزعـة استعدائية حيال الجزائر باعتباره امتدادا للتيار الكولونيـالي
والد ماريـن لوبــان يـداه ملطختـان بدماء الكثــير من الأبرياء في الجزائر وفي غيرها
يؤكد مدير المتحف الوطني للمجاهد البروفيسور حسان مغدوري، أن الجرائم التي ارتكبتها فرنسا الإستعمارية في الجزائر أكثر وحشية مما ارتكبته النازية، واصفا إياها «بمدرسة الإجرام». ويضيف في حوار لـ»الشعب»، أن اليمين المتطرف يحمل نزعة استعدائية حيال الجزائر، باعتباره امتدادا للتيار الكولونيالي.
الشعب: يعمل اليمين المتطرف في فرنسا هذه الأيام وبكل قوة، على إسكات كل صوت يتناول جرائم الاستعمار في الجزائر، حتى لو تعلق الأمر بفرنسيين.. ما تعليقكم؟.
البروفيسور حسان مغدوري: اليمين المتطرف في فرنسا دوما يحمل نزعة استعدائية حيال الجزائر، باعتبار أن هذا اليمين هو امتداد للتيار الكولونيالي، الذي تبلور على امتداد 132 سنة من احتلال الجزائر، وهذا اليمين مازال عالقا في نرجسية الحنين إلى الفردوس المفقود، فهؤلاء كما تعلمون هم الذين خرجوا من الجزائر على مضض وأسسوا منظمة الجيش العسكري السري أو ما يعرف بـ» L’Oas»، ضد ديغول، وهم الذين أوصلوه إلى الحكم ذات جوان 1958. والتالي فهم كانوا ضد فكرة أن تكون الجزائر غير فرنسية.
تمكن هذا اليمين المتطرف في 2005، من إقرار قانون تمجيد الاستعمار وهو يسير ضمن هذه الخطوات. اليوم، هذا اليمين استحكم في دواليب السلطة الفرنسية، مستغلا الظروف الاقتصادية الخانقة التي تعيشها فرنسا وغياب الرؤية المستقبلية في تبني استراتيجية تحفظ توازن فرنسا على صعيد مكونات المجتمع الفرنسي، وعلى صعيد علاقاتها التاريخية مع عديد البلدان، لاسيما تلك التي كانت بالأمس تمثل مستعمراتها.
وعكس ما تدعيه فرنسا ضد الجزائر، بخصوص حرية الرأي، فإن اليمين نفسه يحاول الوقوف في وجه العقل وحرية التفكير العلمية، باعتبار أن التاريخ يحفظ كل الوقائع والأحداث بكل موضوعية حتى لو كان ذلك لا يروق لفرنسا. وكل الوثائق التاريخية تثبت، بما لا يدع مجالا للشك، بأن الفترة الاستعمارية كانت مأساة بالنسبة للشعوب، وكانت تحمل تركة ثقيلة وسجلا مكدسا بالجرائم من مختلف الأشكال وفي مختلف الوضعيات.
وفي وجود رؤية جزائرية تصر على استعادة أمجاد التاريخ الوطني وتتمسك بذاكرة الشهداء وتضحيات الأبطال، يحاول هذا اليمين أن يشن هجوما على كل من يعارض فلسفته، فهو من جهة مازال تحت تأثير نفسية ما يسمى بأمجاد القومية الفرنسية، التي كانت تمثل إمبراطورية استعمارية.
علما أن هذا اليمين وفي مرحلة الاستعمار كان لا يقدم الحقائق للشعب الفرنسي، ويقوم بتقديم صورة مغلوطة. في هذا السياق، يمكن أن نستشهد بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر، والتي أقامت لها فرنسا معرضا واسعا زاره أكثر من مليون زائر في باريس، وهي تحاول أن تقدم صورة هذه الشعوب التي كانت تسيطر عليها باعتبارها شعوبا بدائية، وقدمتها على هذه الصورة في تمثيلية مقززة جعلت الفرنسيين والأوروبيين يشعرون بأن فرنسا كان على عاتقها أن تحمل أمانة ورسالة ثقيلة في نقل الحضارة لهذه الشعوب، وهذه أكبر مغالطة تاريخية تحاول أن تلتف على العقل وتطعن في الأخلاق وفي كرامة الإنسان.
هذا اليمين، في الواقع مازال يحلم بهذا المجد الضائع للإمبراطورية الاستعمارية ويحاول أن يغازل في نفس الوقت الشعب الفرنسي، بأن مشكلته هي في هؤلاء المهاجرين، الذين كانوا بالأمس يمثلون شعوب المستعمرات وأصبحوا اليوم يمثلون فرنسيين على الورق، كما تحاول بعض الأوساط أن تسميهم.
هذه النظرة تعكس نفس الفلسفة العنصرية دوما، التي يحملها هذا اليمين خاصة ممثلا فيما يعرف بالتجمع الوطني، الذي تقوده مارين لوبان، وقبلها كان أبوها الذي كانت يداه ملطختين بدماء الكثير من الأبرياء في الجزائر، وفي غير بلادنا.
الفرنسيون، مثلما ذكرت، يحاولون دوما اللعب على وتر المبدإ العنصري، والقومية الفرنسية الضائعة والأمجاد التي ضاعت منهم، ويحاولون إيهام الفرنسيين أن مشكلتهم ترتبط بوجود هذا الأجنبي، لذلك الفرنسيون ابتداء من 26 فيفري حينما قاموا بتوقيف الصحفي جون ميشال أباتي، إذاعة RTL، كرد فعل على أنه لم ينطق إلا بالحقائق التاريخية، التي تدين فرنسا وجرائمها في الجزائر.
هذه المفارقة تكشف أن فرنسا التي تحاول أن تدعي ما ليس فيها، وتتهم بلدا بأنه اتخذ إجراءات غير قانونية حيال مسألة حساسة ضد موقوف اعتدى على القوانين والقيم والأخلاق والحقائق التاريخية، هذه فرنسا نفسها التي تحارب الجزائريين وحتى الفرنسيين الذين يحاولون نقل لهذا العالم الحقيقة العلمية، أو ما نسميها بالحقائق التاريخية.
- هذا الصحفي، جون ميشال أباتي، كان قد صرح بأن «النازية، تعلمت من وحشية الاستعمار الفرنسي ضد الحزائريين»، هل هناك وجه للمقارنة بين الإثنين؟
أعتقد أن هذه المقاربة تحاول الربط ما بين ممارسات النازية والاستعمار وهي فعلا تعكس هذا التصور ولربما أكثر من ذلك، لأن فترة القرن التاسع عشر نسجل العديد من الجرائم في حق الشعب الجزائري، وكلها كانت تندرج ضمن استراتيجية واضحة المعالم، استهدفت إبادة الشعب الجزائري بطرق متعددة، عسكرية، اقتصادية واجتماعية.
ولعلنا قد نقف عند محطات مروعة من الضحايا الجزائريين، سواء في عملية الغزو الأولى التي لم تحترم العهود والقوانين، وانتهكت الأرواح والمقدسات، والمؤسسات الدينية والثقافية وأجهزت على الأراضي والممتلكات بطريقة متوحشة، ناهيك عن العهود التي نقضتها فرنسا في إطار العقود التي كانت تربطها مع المقاومات الشعبية.
نذكر العهد الذي نقضته بعد أن توقفت مقاومة الأمير عبد القادر، هذه الشخصية التي سجنت خمس سنوات. كذلك تجد أن محرقة الاغواط، التي ذهب فيها تقريبا ثلث السكان الأغواط، وقد استخدمت فيها آنذاك أسلحة كيماوية محظورة، وهي مازالت ماثلة في المخيال الجماعي للشعب الجزائري فيما يعرف بـ»عام الخلية».
ونذكر المجاعة المروعة في 1867 و1868، التي كانت بسبب اغتصاب أرض الجزائريين وانتزاع أملاكهم وتدمير وحرق ثرواتهم، والتي راح ضحيتها تقريبا ربع مليون من سكان الجزائر وهذا ما تحمله كتابات تلك المرحلة، وهناك جيلالي صاري، الذي كتب مؤلفا في هذا الموضوع بعنوان «الكارثة الديموغرافية».
جرائم وحشية لا ينساها التاريخ
فرنسا التي كانت تغامر بالشعب الجزائري في إطار عمليات التجنيد، سواء في الحرب السبعينية، وكانت تزج بهم في جبهات القتال أو في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكذلك ما لحق بالمنفيين، الذين رفعوا السلاح ضد فرنسا، نذكر ما وقع لعائلة المقراني بعد 1871، وهكذا هجرت فرنسا الجزائريين إلى مسافة تقدر بـ25 ألف كيلومتر إلى جزر كاليدونيا وكايان وغيرها...
أعتقد أن هذه الجرائم المروعة أكثر وحشية مما قامت به النازية وإن كانت النازية اشتهرت بما يسمى «المحرقة»، فأول من ارتكب هذه المحرقة هم الفرنسيون فيما يعرف بمغارة الفراحيش سنة 1845، في جبال الظهرة عند أولاد رياح. بيليسي كان أول من قام بحرق الجزائريين.
هذه الممارسات تعكس وحشية نستطيع أن نسميها مدرسة الإجرام. ولا غرابة إن كان هذا الصحفي قد وضع هذه المقابلة بين ما قامت به فرنسا خلال هذه المرحلة كلها، وهذه النماذج التي ذكرناها وما قام به النازيون، فلعل ما قام به الفرنسيون أكثر من النازية نفسها ولذلك يمكن القول إن النازية تعلمت في مدرسة الإجرام الفرنسية، التي مارسها الفرنسيون على امتداد هذه الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية.
وإذا تتبعنا هذا المسار من الإجرام نجده فيما استخدمه الفرنسيون أثناء الثورة التحريرية، سواء التفجيرات النووية بصحراء الجزائر أو استخدام الأسلحة الكيماوية.
- العلاقات الجزائرية الفرنسية مرهونة بتسوية ملف الذاكرة، لماذا ترفض باريس، برأيكم، النظر في المرآة وتصر على النكران؟.
العلاقات الجزائرية- الفرنسية، اليوم، إلى حد كبير محكومة بملفات الذاكرة، ففي الوقت الذي تجتهد فيه الجزائر وتصر على ضرورة معالجتها، في المقابل ينطلق اليمين المتطرف دوما، من فكرة عظمة مجد الإمبراطورية الفرنسية الذي يستخدمه كمخدر للعقل الفرنسي في محاولة منه دخول الاستحقاقات الانتخابية والسيطرة على القرار السياسي في فرنسا، فهم دوما يحاولون التنكر لهذه الملفات، لأن ذلك يدين تماما مبرر وجود اليمين الفرنسي المتطرف في الساحة السياسية.
هذا اليمين المتطرف يخشى من مكونات المجتمع الفرنسي نفسه، الذي تنتمي نسبة كبيرة منه في أصولها إلى شعوب المستعمرات القديمة وهي كذلك تحمل جزءا من ذاكرة أصولها وهذا النوع من الطرح إذا ما أيقظ في ذاكرة هؤلاء الشعور بأن ما يقوم به اليمين المتطرف، هو تزييف للحقائق، فإن ذلك سيكون انقلابا ونوعا من التشنج الداخلي، داخل المجتمع الفرنسي.
لذلك الفرنسيون لا يروق لهم البت في موضوع الذاكرة، لأنه سيكون بالضرورة إدانة للممارسات الاستعمارية وللتصرفات، التي قام بها الاستدمار وإدانة كذلك لأولئك الذين يدافعون عن هذا الماضي الاستدماري.
أعتقد أن الجزائر بدورها متمسكة، لاسيما في المرحلة التي تولّى فيها رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، قيادة البلاد، حيث كان منذ البداية يحمل مشروعا ورؤية واضحة المعالم فيما يتعلق بعلاقة الجزائر بفرنسا، والتي تربطها ملفات كثيرة تتعلق بالذاكرة والتي ينبغي معالجتها من منطلق أنها جزء من استكمال السيادة الوطنية. ولم يخف السيد رئيس الجمهورية، بأن ملفات الذاكرة لا يمكن التنازل عنها وتمثل خطا أحمرَ ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن نلتف على الحقائق التاريخية.
- البعض يتحدث عن تمرير قانون تجريم الاستعمار كورقة قوية في وجه التيار الفرنسي المعادي، ينبغي أن توظفها الجزائر أمام ما تتعرض له من حملة تشويه حاليا؟
هذا القانون في اعتقادي هو الرد الطبيعي على قانون تمجيد الاستعمار، وهو يحمي المدرسة الجزائرية من بعض تأثيرات المؤلفات التاريخية، التي تحاول بطريقة أو بأخرى أن تخترق ثقافة المناهج الدراسية في الجزائر، من أجل تمرير أطروحات تتحدث عن محاسن الاستعمار، كما أنها تعتبر حماية للخطاب الإعلامي، الذي يجب أن يبقى دوما على مسافة من المعرفة التاريخية المرتبطة بمصادر التاريخ الفرنسي، التي تحمل هذه النزعة في تمجيد الاستعمار.
التجريم في حد ذاته يعتبر وسيلة حماية للمعرفة التاريخية الرصينة التي ينبغي أن نزرعها في الأجيال، وحماية لمصالح الجزائر في الداخل، لأنه وبكل أسف، في الضفة الأخرى هناك قانون تمجيد الاستعمار، الذي يحتم بطريقة أو بأخرى على المناهج الدراسية ان تحترم الخطوط الحمراء في عدم الحديث عن جرائم الاستعمار.
قانون تجريم الاستعمار، سيفتح الباب أمام محاولة التأسيس لطرف الادعاء بالمحاكم الدولية، لاسيما وأن الجزائر ليست وحدها في هذا الموضوع، ويمثل أفقا من أجل فتح رواق لمقاضاة الدولة الفرنسية فيما قامت به في الجزائر.
فهناك كثير من الدول متضررة من آفة الاستعمار وهي بحاجة لتنسيق جهودها وتوثيق كل أعمالها لإعداد ملفات مؤسسة من أجل مقاضاة الطرف الفرنسي، وهذا يمثل تهديدا صريحا لمستقبل فرنسا في علاقتها مع الجزائر والبلدان التي تعرضت لهذا الاستعمار.
- تصر الجزائر بقيادة الرئيس تبون، على صون ملف الذاكرة وعدم التنازل عنه مهما حصل، مع ربطه بالسيادة الوطنية اليوم.. ما قولكم في المجهودات التي بذلت لحد الآن، وكيف يمكن إسنادها بشكل أكبر؟
في اعتقادي، أن الجزائر تعيش العصر الذهبي فيما يتعلق بالاهتمام بالذاكرة والتاريخ الوطني بطريقة صريحة ورؤية استراتيجية واضحة المعالم، وبإرادة وعزيمة قوية. هذا يتجلى من خلال المبادرات التي قام بها رئيس الجمهورية، عند توليه السلطة باسترجاع جماجم الشهداء إلى أرض الوطن، كرسالة صريحة على أن هناك إرادة قوية من الشعب الجزائري في حماية هذا التاريخ والشهداء.
الجزائر هي التي سعت إلى المطالبة بتأسيس اللجنة الخماسية، التي تتشكل من مؤرخين فرنسيين، والتي تشتغل مع اللجنة الخماسية الجزائرية للجلوس الى طاولة النقاش من أجل إعداد ملفات علمية لمناقشة ملفات الذاكرة، وبكل أسف، بفعل تشنج العلاقات بين البلدين لم تستكمل مهمتها.
رئيس الجمهورية، كان صريحا حينما كان يطالب فرنسا، بطريقة مباشرة دون مراوغة أو اعتبارات دبلوماسية، باعتبارها تمثل حقائق تاريخية ينبغي أن نقف عندها، حينما حمل فرنسا مسؤولية النفايات الكيماوية والنووية، التي ارتكبتها في الجزائر، والتي يتعين عليها اليوم تنظيف مواقع التفجيرات في منطقة الصحراء.
الجزائر قطعت شوطا في تنقية وتطهير الكثير من الأراضي على الحدود، والتي تمثل بقايا خطي شال وموريس. كما أن رئيس الجمهورية، في كل مرة، كان يشدد على ضرورة احترام الحقائق التاريخية، ولا ينبغي تزييف هذا التاريخ وتقديم مغالطة.
المسألة هنا تتعلق بهذه المجهودات، التي قام بها الرئيس تبون. الإرادة لها تداعيات على الصعيدين الاجتماعي والثقافي في العقل الجمعي الجزائري، لأنه في السنوات الأخيرة نلاحظ اهتماما كبيرا بقضايا الذاكرة، إذ لم تعد محل المدرسة في المناهج والندوات المعزولة، وإنما تمثل خطابا ومطلبا عاما تشترك فيه كل النخب الجزائرية في سبيل إيجاد السبل من أجل معالجته، اعتباره جزءا من استكمال السيادة الوطنية.