استقلالية في اتخاذ القرار وعدم الرضوخ للمساومات والإملاءات
فرنسا اليمين المتطرف أدركت أن الدولة الجزائرية جادة في اتخاذ ردود فعل شديدة
رسّخت الجزائر موقعها كفاعل أساسي في المشهدين الإقليمي والدولي، حيث أصبحت مواقفها محط اهتمام المراقبين الدوليين والإقليميين، بالنظر إلى صلابتها واتساقها مع رؤية استراتيجية واضحة، ويبرز ذلك بشكل خاص في علاقتها مع فرنسا، التي استخدمت عدة أدوات ضغط للتأثير على القرار الجزائري، مستغلة ورقة الجالية الوطنية كورقة مساومة، لكنها اصطدمت بحائط الصلابة الجزائرية، التي رفضت كل أشكال الابتزاز السياسي.
لم يقتصر الأمر على ذلك، فقد بات من الواضح، برأي مراقبين، أن تيارات اليمين المتطرف الشعبوي في فرنسا تعمل بشكل ممنهج على تخريب العلاقات الجزائرية- الفرنسية لصالح قوى أخرى، مدفوعة بنزعات استعلائية قديمة ترى في الجزائر مجرد امتداد لنفوذها السابق.
إلا أن هذه المساعي لم تؤتِ ثمارها، حيث تعالت أصوات سياسية داخل فرنسا، من مختلف التوجهات، محذّرة من مغبة خسارة شريك استراتيجي في شمال إفريقيا، داعية إلى مراجعة السياسة الفرنسية تجاه الجزائر وفق منطق رابح- رابح، بعيدًا عن الرهانات الخاسرة لمنطق التبعية والاستعمار الجديد.
في هذا السياق، أظهرت الجزائر أنها ليست فقط قادرة على مجابهة الضغوط، بل مستعدة للذهاب أبعد مما يعتقد البعض في سبيل حماية مصالحها الاستراتيجية، سواء تعلق الأمر بجاليتها في فرنسا أو بسيادتها الوطنية وأمنها القومي.
وتعكس هذه الديناميكية فلسفة سياسية قائمة على الاستقلالية في اتخاذ القرار وعدم الرضوخ للمساومات، وهو ما جعل الجزائر اليوم تفرض معادلة جديدة في تعاملها مع القوى الكبرى، بمنطق الندية والتوازن، لا التبعية والانقياد.
وأدركت الأطراف الفرنسية المعنية بملف العلاقات الثنائية، أن الجزائر جادة إلى أبعد حد في اتخاذ ردود فعل شديدة، مظهرة بذلك قدرتها الفائقة على تحمل تبعات كل السيناريوهات الممكنة، بما فيها القطيعة التامة.
صلابة الموقف الجزائري، كان محل إشادة من قبل عديد المراقبين، من بينهم الإعلامي والكاتب الفلسطيني الشهير عبد الباري عطوان، بما «أسماه الموقف البطولي الجزائري في مواجهة الضغوط الفرنسية»، معتبرا أن الجزائر وجهت رسالة مفادها، «أن سيادتها غير قابلة للمساومة وأن زمن الهيمنة الفرنسية انتهى».
القمة العربية الأخيرة
كذلك على المستوى العربي، كان الموقف الجزائري من القمة العربية غير العادية الأخيرة تجسيدًا آخر لرؤيتها الاستراتيجية الواضحة، إذ قرر رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون الامتناع عن الحضور بشكل شخصي، رافضًا أي مشاركة شكلية ومتمسكا بدور الجزائر المركزي في القضايا المصيرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
ووفق مراقبين، فإن الجزائر رأت أن القمة باتت منصة لمحاولات ضرب وحدة الصف العربي واستئثار بعض الدول بالقرار، في توجه غير مقبول بالنسبة لدولة طالما دافعت عن مبدإ الشراكة الجماعية داخل الجامعة العربية، وسعت إلى إصلاح هياكلها، سواء فيما يخص آليات التداول على الرئاسة، أو في تحويل اجتماعاتها إلى ساحات فعلية لحل الأزمات بدل أن تبقى مجرد لقاءات شكلية لا تغير شيئًا في الواقع السياسي العربي.
كما أن الموقف الجزائري ليس رد فعل ظرفيا، بل هو امتداد لنهج دبلوماسي يسعى إلى إعادة رسم الدور العربي بعيدًا عن الاستقطابات والمحاور، وإعادة الاعتبار للمواقف المبدئية التي جعلت الجزائر، تاريخيًا، أحد أبرز الفاعلين في دعم القضايا العادلة.
وحظي قرار رئيس الجمهورية بعدم المشاركة الشخصية في القمة، بإشادة الكثير من المراقبين، الذي وصفوه بالموقف «المشرف»، لأنه يحمل في مضمونه حرصا على وحدة الصف العربي في دعم القضية الفلسطينية، بأكبر الجهود الممكنة.
محددات قوة الموقف
في العمق، لا يمكن قراءة المواقف الدبلوماسية الجزائرية بمعزل عن العوامل الداخلية والخارجية التي تمنحها هذا الزخم. فالسياسة الخارجية الجزائرية تستند إلى قاعدة شعبية داعمة، ما يعكس حجم الثقة الداخلية في النهج الدبلوماسي الرسمي، خصوصًا في قضايا محورية مثل القضية الفلسطينية والصحراء الغربية، بالإضافة إلى التعامل الصارم مع فرنسا.
لكن أحد أبرز العوامل التي عززت الدبلوماسية الجزائرية، هو الصعود الاقتصادي اللافت، حيث أصبحت الجزائر من بين الاقتصادات القليلة في المنطقة التي لا تمتلك ديونًا خارجية، وهو ما منحها هامشًا أوسع لاتخاذ قراراتها بعيدًا عن ضغوط المؤسسات المالية الدولية المانحة، كما أن تحقيقها لمركز ثالث أكبر اقتصاد إفريقي في 2024، بناتج محلي إجمالي تجاوز 267 مليار دولار، يعكس توجهًا واضحًا نحو تعزيز استقلاليتها الاقتصادية، وتطمح الجزائر إلى تحقيق 400 مليار دولار كناتج محلي إجمالي بحلول 2027، مدعومة بنمو كبير في الصادرات خارج قطاع المحروقات، وهو ما يمنحها قوة تفاوضية أكبر على الساحة الدولية.
إلى جانب ذلك، فإن القوة العسكرية تعد أحد المحددات الرئيسية للثقل الجزائري، حيث تحتل الجزائر موقعًا استراتيجيًا كأكبر دولة في إفريقيا وحوض المتوسط، وتمتلك ثاني أقوى جيش في القارة. ويمثل الجيش الوطني الشعبي صمام الأمان في حماية الحدود الجزائرية الشاسعة وضمان الأمن والاستقرار، ليس فقط داخليًا، بل أيضًا في محيطها الإقليمي، سواء في منطقة الساحل الإفريقي أو حوض المتوسط.
علاوة على ذلك، رسخت الجزائر في السنوات الأخيرة نهجًا دبلوماسيًا يقوم على المبادرة لا الاستجابة، وعلى الفعل لا رد الفعل، مستفيدة من زخم داخلي قوي، وواقع اقتصادي صاعد، وقوة عسكرية رادعة، حيث أصبحت الجزائر رقماً صعبًا في معادلات السياسة الإقليمية، حيث لا تكتفي بالدفاع عن مصالحها، بل تعمل على صياغة التوازنات الجديدة، وفق رؤية استراتيجية تجعل منها فاعلًا رئيسيًا في إفريقيا والعالم العربي وحوض المتوسط، وليس مجرد متأثر بالتحولات الدولية.