تٌفضل فئة كبيرة من السيّاح الجزائريين لا سيما الشباب منهم، التنزّه في المناطق الجبلية التي يقصدونها في الصيف للاستمتاع بمياه الينابيع والشلالات والاسترخاء تحت ظلالها، عكس فصل الشتاء لمّا تكتسي الطبيعة الخلابة حلّة بيضاء بفعل تساقط الثلوج.
غالبًا ما يقصد الأماكن السياحية بولاية البليدة هواة الجولات الراجلة، والذين يغوصون في أعماق الطبيعة ويكتشفون أسرارها، كما يستغلون المسابح الطبيعية المنتشرة على امتداد الوديان لمجابهة الحر والاستمتاع بالمياه العذبة الصافية.
يعتبر واد «لاخرة» في بلدية حمام ملوان وجهة مفضّلة للشباب القادمين جلّهم من الجزائر العاصمة بحثا عن الاستجمام والرّاحة النفسية في حضن الطبيعة بعيدا عن الضوضاء والازدحام اللذان يميزان شواطئ البحر، ومن الأماكن التي تجذب السياح في الصيف.
جغرافيًا يقع هذا الوادي في بلدية حمام ملوان السياحية، ويلتقي في منطقة «مقطع لزرق» أسفل جبال الأطلس البليدي مع ثلاثة أودية أخرى وهي واد الشريعة، واد بومعال، واد يما حليمة، فيتشكل واد حمام ملوان، أما جنوبا فيتجه واد « لاخرة» نحو الحدود مع ولاية المدية.
فواكه الغابة بالمجّان.. وغذاء مُهم للإنسان
سرنا مشيا على الأقدام نحو هذا المكان السياحي وقبل أن نصل إلى منطقة «مقطع لزرق» صادفتنا ثروة نباتية في الفضاء الغابي التي مررنا بها انطلاقا من إقليم بلدية بوعينان، لا سيما فواكه الغابة التي حصلنا عليها بالمجان بل هي هبة ومن نعم الله التي لا تحصى ولا تعد.
بعد قطف التوت البرّي في مكان مليء بأشجار الزعرور، واصلنا جولتنا الراجلة عبر طريق معبّد لنعثر على أشجار الخروب بدأت ثمارها تنضج، والتي تناولنا قليلا منها لنكتشف تشابه مذاقها مع الشكولاطة الرفيعة، كما صادفتنا أيضا أشجار الزيتون البرّي والملقم، وفاكهة اللنج التي تنضج مع نهاية الخريف وحلول الشتاء.
بينما نحن نستنشق الهواء المنعش النقي وانبعاث الأوكسجين الذي توفّره أشجار الصنوبر، تذكرنا أحد فوائد الزعرور بالنسبة للمرأة الحامل، والخروب بالنسبة لصحة المعدة، والضرو بالنسبة للجهاز التنفسي، وغنى ثمار التوت بالزنك الذي يقوّي الجهاز المناعي.
فهذه الثروة النباتية التي وهبها الله للإنسان بالمجان ينبغي حمايتها لضمان الاستفادة منها، فهي مصدر رزق لكثير من الناس، منهم من يقطف ثمار البلوط الذي بات مطلوبا باعتباره يستعمل لتحضير الكسكسي التقليدي، والأمر لا يختلف عن نباتات طبية أو عطرية تُستخدم كمادة أولية في صناعة الزيوت الأساسية والطبيعية مثل الزعتر المنتشر بكثرة في جبال الأطلس البليدي.
إبـداعات الخالــق تسُــر الناظريــن
بعد الوصول إلى «منطقة لزرق» نزلنا إلى واد «لاخرة» في نقطة تلاقيه مع واد الشريعة وواد «بومعال»، واصلنا مغامرتنا الجميلة في منطقة صارت آمنة منذ مطلع الألفية الثالثة، وهذا بعد معارك نفذها الجيش الوطني الشعبي والمقاومين الأشاوس لدحر الإرهاب الغاشم.
في مستهل مشوارنا تفاجأنا بوجود كهلا مع امرأته جالسين على ضفاف الوادي وابنيهما يسبحان في بركة ماء نقية، بل مسبحا طبيعيا تشكل بين الصخور المنتشرة بالواد، فتأكدنا بأن هذا المورد الطبيعي السياحي أصبح فعلا آمنا، لنواصل المشي نحو المسبح الأهم الذي نصحنا أحد سكان «مقطع لزرق» بالذهاب إليه.
في طريقنا إلى هذا المسبح الواقع بمنطقة «كاف الشوادا» التقينا مجموعات من السياح قادمين من الجزائر العاصمة وبعض اليافعين من أبناء المنطقة أتوا للعوم في البرك المائية النقّية ولأنها عذبة صافية يظهر منها الحوت وهو يسبح، أما لون الرمال الأزرق فسرعان ما يختفي بفعل العوم.
ارتمينا في بركة غير عميقة ارتفاعها لا يفوق المتر لما كانت درجة الحرارة تبلغ ذروتها وقت الزوال، ونظرنا يمينا وشمالا كي نتأمل في ابداعات الخالق التي تسّر الناظرين، فالأشجار كثيفة ومتنوّعة وتتفاوت في عتمة لونها الأخضر، ومساحات على حواف الوادي يغطيها الظل وكأنها منازلا، ويستغلها المارة لأخذ قسط من الراحة والأكل.
«كاف الشوادا» يفتقد القردة
حاولنا أن نشرح معنى «كاف الشوادا» لرفيق لنا، و»الكاف» هو الجزء الجبلي الذي يطل على الواد وكأنه جدار مرتفع جدا، أما «الشوادا» فمعناه القردة التي تعيش بهذه المنطقة، ونقصد صنف القرد المغاربي الذي يعيش أيضا في بلدية الشفة.
نظرنا من أسفل إلى أعلى « الكاف» وإذا بنبات التين الهندي يغطي الصخور في المرتفعات، فاستغربنا تواجدها في مكان يصعب على الإنسان الصعود إليه، فتذكرنا بأن القردة التي أنعم عليها الله بالقدرة على تسلق المرتفعات هي من غرستها لتتغذى منها.
تذكرنا بأن هذا النوع من الحيوان محمي بموجب قوانين دولية وبأنه بات مهددا بالانقراض بسبب اعتماده في غذائه على الإنسان، وعن سبب اختفائه من «كاف الشوادا» أبلغنا شاب يافع يقيم في «مقطع لزرق» بأن كل القردة التي تعيش به ماتت بفعل الحرائق وبقيت مجموعة وحيدة فقط مشكلة من زوج هرم.
«واد لاخرة» مورد للسّقي الفلاحي
بالإضافة إلى مقوماته السياحية الطبيعية وكذا البيئية، تكمن أهمية «واد لاخرة» في أنه موردا مائيا يستغله عشرات إن لم نقل المئات من الفلاحين الصغار الذين عادوا إليه بعدما هجروه مثل كثير من المناطق الجبلية خلال الأزمة الأمنية التي عرفتها الجزائر في فترة التسعينيات.
وبدأت الحياة تدّب على ضفاف هذا الوادي خلال العقدين الأخيرين، حيث غرس هؤلاء الفلاحين أشجارا مثمرة من التين والزيتون والرمان وحتى الإجاص والليمون وقاموا بإحاطة بساتينهم لمنع تخريبها من الخنازير التي قد تأتي إليها بحثا عن الغذاء.
ويعتمد هؤلاء على البرك المنتشرة على طول الوادي لسقي أشجارهم وبعض المزروعات الموسمية مثل البصل، القرع والفلفل والطماطم، حيث ينصّبون محركات تجلب المياه من هذه البرك فتسهّل عملهم الفلاحي البسيط لكنه مهما جدا اقتصاديا، لأنه يسهم في توفير المنتجات الفلاحية الخالية من المواد الكيماوية، والمفيدة لصحة المستهلكين.
دعوة للاستثمار لتحسين الخدمات السياحية
وفي دردشة مع هواة سياحة المغامرات التي أصبحت موضة العصر من خلال تنظيم جولات راجلة للشباب لاستكشاف الغابة والأماكن السياحية الجبلية، أجمع هؤلاء على ضرورة إقامة استثمارات سياحية لتحسين بعض الخدمات الضرورية التي يحتاجها السياح المحليين والأجانب.
ويفتقد حي «مقطع لزرق» إلى متجر كبير لبيع المواد الغذائية وماعدا بيت الشباب الذي أنجزته الدولة فإنه يخلو تماما من فنادق أو مراقد تأوي عشرات آلاف السياح يتدفقون على المنطقة سنويا، أما بخصوص الأماكن السياحية مثل واد «لاخرة» وواد «بومعال» فربما تحتاج صدور قانون البلدية الذي يتيح للمجالس الشعبية انجاز استثمارات محلية لتعديد مواردها المالية.
في هذا الصدد اقترح أحد السياح إعادة تهيئة الطريق الذي يربط بوعينان بحي مقطع لزرق مرورا بسيدي سرحان، كونه سيُسهل تنقل العائلات المقيمة في المدينة الجديدة بوعينان، واقترح سائح آخر منح رخص لبعض الشباب لمزاولة بعض الأعمال التجارية على ضفاف الأودية التي تعرف إقبالا من السياح، فذلك يضمن لهم شراء غذائهم على الأقل.
في طريق العودة أدركنا بأن الغابة كنز حقيقي وجب المحافظة عليها، فزيادة على المياه التي جعل منها الله كل شيء حيا، فالغابة غنية بالنباتات المفيدة للإنسان وبيئته، ومن معجزات الله أنه خلق فواكه في الغابة تنضج في أوقات مختلفة مما يوفر الغذاء للإنسان طوال السنة، فإذا كان التوت ينضج في الصيف، فإن اللنج ينضج في الخريف أما البلوط فينضج في الشتاء ويستمر حتى الربيع.
أدركنا أيضا أهمية تشديد عقوبة مفتعلي الحرائق التي جاء بها القانون الجديد لحماية الغابات في سنة 2023، لضمان التوازن الإيكولوجي، والحفاظ على المقوّمات الطبيعية التي يمكن استغلالها في المجال السياحي، وتأسفنا لعدم وضع حاويات لرمي النفايات بالقرب من الأماكن السياحية لتفادي رميها في الفضاءات الغابية فتتسبب في تلويثها.