عـرس يشـارك فيه جميـع سكـان القريـة..

هـذه عـادات وتقاليـد توديـــع الحجّاج بمنطقــة القبائـــل

نيليا.م

الحجّ ليس عبادة فردية خاصة بالحاج وحده، بل هو مناسبة جماعية ذات امتداد وأبعاد اجتماعية، يشترك فيها كل قاطني القرية باعتباره ركنا من أركان الإسلام له قيمة معنوية مهمة في المجتمع..وتعرف قرى منطقة القبائل بعديد العادات والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال تعود إلى الواجهة في موسم الحجّ، من أجل مرافقة الحاج لأداء مناسك الحجّ، فتعزّز أواصر التكافل الاجتماعي وتجسّد الأجواء الروحية التي تطغى على تحضيرات رحلة الحجّ إلى بيت الله الحرام.


بين الماضي والحاضر، ومن قرية إلى أخرى، تختلف تحضيرات توديع الحجاج لأداء مناسك الحج، ورغم التغيرات الطارئة في بعض العادات والتقاليد إلا أن تعاليم الإسلام والأجواء الروحية تطغى على مظاهر التحضير لسفر الحاج، والذي يشترك فيه جميع أهل القرية والأقارب، وهم في قمة السعادة لسفر أحد قاطني القرية لزيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج الذي يعتبر من أجمل وأرقى المناسبات.
الوليمة..لقاء للتسامح والتوصيات..
قال الأستاذ الشيخ ياسين بوعاش، المشرف على زاوية سيدي منصور والمنسق الأسبق لزوايا ولاية تيزي وزو، أنه في اليوم الذي يسبق سفر الحاج لأداء مناسك الحج، يقوم بزيارة أقاربه وأصدقائه وجيرانه، وذلك لطلب السماح في حالة ما إذا أخطأ في حق أحدهم أو لديه أي خلاف أو مشاحنة في وقت من الأوقات، كما يطلب منه السماح في حالة ما إذا أخطأ أحدهم في حقه، وهذا من أجل أن تصفى القلوب ويسافر دون أن يحمل أي ضغينة لأحد، وبالتالي يؤدي مناسك الحج على أكمل وجه.
بعد انتهائه من الزيارات المبرمجة لمختلف أفراد عائلته وأصدقائه وحتى جيرانه يعود إلى منزله من أجل حضور عشاء العائلة الذي ينظم على شرفه، وهي لحظات تختزل أجمل المشاعر المختلطة بين الفرح والدموع وحتى الخشوع، كيف لا وهو مسافر لزيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج الذي يعتبر ركنا من أركان الإسلام، فتمضي تلك اللحظات في سلام نفسي كبير وأجواء روحية خاصة وكل المتواجدين في المكان يتمنون زيارة هذا المكان الذي يشع نورا وفيضا من كلام الله ورسوله محمد صل الله عليه وسلم، وفيه تتجسد معالم الخشوع ويودع فيه الحاج كل مغريات الحياة.
بعد الانتهاء من وجبة العشاء يجتمع الحاج بأفراد عائلته المقربين من أجل ترك وصاياه لهم، لأن الحاج يكون في حكم المسافر ولا أحد يعرف إن كان سيعود حيا إلى عائلته أو يفارق الحياة هناك، لهذا يعمد الحاج إلى ترك وصيته لأولاده والتي تكون كلمات أو حتى أموال ويؤمنهم عليها وعلى تنفيذها إن قدر الله ولم يعد، وفي بعض الأحيان يحضر هذا الاجتماع بعض العقلاء ومشايخ الدين ليطمئنوا أن الحاج سيسافر بأريحية، وأن عائلته في عهدتهم إلى أن يعود سالما من الحج، هي لحظات تغلب فيها الدموع عيون الحاج وتكبر أمنيات الحاضرين بزيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج يوما ما.
فرقة “لخوان” تزيّن مراسيم توديع الحاجّ
 لا تخلو مراسيم توديع الحاج قبل سفره إلى البقاع المقدسة من حضور فرقة “لخوان”، التي يجيد أعضاؤها من “ايخونين” ترديد أجمل وأعمق الأناشيد والمدائح الدينية، التي تحمل في طياتها مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلى جانب ترديد أناشيد في وصف بيت الله الحرام ومناسك الحج، ولسان حالهم يقول “أوصلوا لله السلام لبيت الله العتيق يأتون إليه من كل مكان يزورون الله الرفيق”، وهي مدائح ملحنة ويتغنى بها من خلال الحناجر فقط دون أية آلات موسيقية، ليسافر من خلالها المستمع إلى أعماق الوجدان وإلى العالم الروحي، الذي يأخذهم بعيدا في رحلة التخيل وعيش تلك اللحظات المشعة بأنوار الإيمان قبل أن يبلغ الحاج المسافر غايته ويحط رحاله بالبقاع المقدسة التي يصل عبقها وتظهر بشائرها أيام قليلة قبل سفر الحاج لأداء مناسك الحج.
مدائح دينية تتزين بها لحظات توديع الحاج والتي تبدأ مراسيمها في الليلة التي تسبق سفره، وتستمر إلى اليوم الموالي الذي يستعد فيه الحاج للتوجه إلى المطار والسفر، حيث تقوم فرقة “لخوان” بمرافقة الحاج إلى المسجد أو الزاوية بعد توديع أهله، وهم يرددون أجمل المدائح الدينية التي تكسر هدوء القرية، وبعد وصوله إلى المكان يصلي ركعتين وترفع الأيدي للدعوات، وبعدها يرافقونه إلى ساحة القرية أين يكون السكان في انتظاره لتوديعه قبل سفره، تلك اللحظات التي تتخللها زغاريد النسوة المختلطة بدموع الفرح، ليبدأ الحاج رحلة سفره وكله أمل في أداء مناسك الحج والعودة إلى أحضان عائلته.
وأضاف محدثنا في تصريحاته أن مراسيم توديع الحجاج تغيرت كثيرا عما كانت عليه في عهد الأسلاف أين كانوا يشدون الرحال لأداء مناسك الحج مشيا على الأقدام أو الركوب على الدواب، وهي رحلة تدوم لعام كامل، حيث تستغرق رحلة سفرهم ستة أشهر ذهابا وستة أشهر إيابا، فقد كان الحجاج يتواعدون للقاء بزاوية سيدي منصور بايت جناد، والانطلاق في رحلتهم على وقع المدائح الدينية، ولكن في وقتنا الحالي اندثرت العديد من عادات وتقاليد الأسلاف ولكن بقيت هيبة وقيمة الحج التي تزيد من رفعة مقام الحاج.
فرصة للتذكير بتعاليم الإسلام
اعتبر عليليش حميد عضو فرقة “لخوان” لقرية أغيل يقن بتيزي نتلاثة، أن مراسيم توديع الحاج فرصة للذِكر الحكيم، والتذكير بتعاليم الإسلام وكلام الله ورسوله، مشيرا إلى أنهم كفرقة للإنشاد والمدائح الدينية تتم دعوتهم لحضور والمشاركة في الوعدة التي تحضر على شرف توديع الحاج، أين يغتنمون الفرصة لإطلاق العنان لحناجرهم من أجل ترديد وإنشاد أعمق المدائح الدينية التي تذكر بالآخرة وأن الدنيا فانية والدعوة إلى ضرورة العودة إلى طريق الحق، معتبرا في ذات السياق أن هذه الوليمة وليمة تآخي بين مختلف الفئات المجتمع يتساوى فيها الفقير والغني، ما يعزز أواصر التكافل الاجتماعي والمحبة والأخوة بين سكان القرى، وهي نفس التعاليم التي يدعو إليها الدين الاسلامي.
مراسيم توديع الحاج بمنطقة القبائل عادة قديمة متوارثة من الأسلاف، وقد حافظت عليها الأجيال في العديد من القرى، باعتبار أن الحج كركن من أركان الإسلام ليس عبادة فردية تقتصر على الحاج فقط، وإنما يشارك فيه الجميع، لهذا تعتبر مناسبة ذات قيمة اجتماعية ومعنوية ورمزية تعزز من أواصر التكافل والأخوة والمحبة ونشر الخير بين الجميع.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19785

العدد 19785

الخميس 29 ماي 2025
العدد 19784

العدد 19784

الأربعاء 28 ماي 2025
العدد 19783

العدد 19783

الثلاثاء 27 ماي 2025
العدد 19782

العدد 19782

الإثنين 26 ماي 2025