لم يكن 27 فيفري من عام 1976 يوما عاديا بالنسبة للشعب الصّحراوي، بل كان يوما مميّزا وخالدا، شهد قيام الجمهورية العربية الصّحراوية الديمقراطية كخطوة ملحّة للردّ على المناورات الاستعمارية المقيتة وإعلان المعركة الوجودية من أجل الحرية والاستقلال، في إطار سلسلة محطات متتالية وحاسمة أخرى، بدءاً بتأسيس جبهة البوليساريو واندلاع الكفاح المسلح، مروراً بإعلان الوحدة الوطنية وتأسيس المجلس الوطني الصّحراوي، وصولاً إلى قيام الدولة وتشكيل الحكومة.
يخلّد الشعب الصّحراوي اليوم الذكرى 49 لإعلان جمهوريته، التي انبثقت عن سنوات طويلة من المواجهة والكفاح ضد الاستعمار الاسباني، الذي بدل أن يسلّم الإقليم المحتل إلى أصحابه لمّا قرّر الانسحاب منه في خريف 1975، لجأ إلى عقد صفقة خبيثة “اتفاقية مدريد” منح بموجبها ما لا يملك لمن لا يملك، وتنازل للمغرب وموريتانيا عن الأراضي الصّحراوية مقابل حصوله على امتيازات تدرّ عليه أموالا طائلة، كحصوله على نسبة هامة من الفوسفات الصّحراوي والثروة السمكية الصّحراوية، وغيرها من الموارد الثمينة التي تزخر بها آخر مستعمرة في إفريقيا.
ولادة مـــــــــــــــــــــــن رحـــــــــــــــــــــــم التحـــــــــــــــــــــدّي
مباشرة بعد رحيل آخر عسكري إسباني من الصّحراء الغربية، أعلنت الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (جبهة البوليساريو)، على لسان المجلس الصّحراوي المؤقت، تأسيس الجمهورية العربية الصّحراوية الديمقراطية، اعتمادا على أسس قانونية وتاريخية، في مقدّمتها حق الشعوب في تقرير مصيرها، طبقا لمواثيق الأمم المتحدة خاصة القرارات 1514 و1541 و2625، والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في 16 أكتوبر 1975، وإفادة لجنة تقصّي الحقائق الأممية للجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 12 أكتوبر 1975، وتأسيس المجلس الصّحراوي المؤقت في 28 نوفمبر 1975.
ورغم التحديات الصعبة، وتطاول الاحتلال المغربي على الشرعية الدولية بدعم من قوى دولية تستغل نفوذها في الهيئات الأممية لعرقلة أي تحرّك باتّجاه الحل العادل لآخر قضية تصفية الاستعمار في إفريقيا، نجحت الدولة الصّحراوية منذ تأسيسها قبل نحو نصف قرن بفضل كفاح واستماتة شعبها، في بناء مؤسسات حديثة متكاملة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتعزّزت بتجربة رائدة مكّنتها من تحقيق إنجازات ومكاسب جعلتها أقرب إلى انتزاع النصر المنشود واستعادة الأرض المسلوبة.
لقد أولت الجمهورية الصّحراوية خلال 49 عاما من عمرها، اهتماما بالغا بمتطلّبات شعبها ، فحقّقت التمدرس الشامل لكل الأطفال الصّحراويين في مخيمات اللجوء، ولم تدّخر جهدا لتوفير الهياكل الصّحية، علاوة على بناء إدارة وطنية عصرية وفعالة تتكفل بتقديم مختلف الخدمات للمواطن الصّحراوي في كل الميادين. ومع تركيزها على الجانب الاجتماعي، فقد حرصت الدولة الصّحراوية على تأطير الكفاح والنضال ضد الاحتلال المغربي، سواء في المحافل الدولية والاقليمية أو من خلال بناء جيش عصري وقوي قاد معارك تاريخية ولازال يلحق بالعدو الغاشم هزائم نكراء.
إنجــــــــــــــــــــــــــــــــــــازات وانتصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارات
وعلى المستوى الخارجي، تمكّّن الشعب الصّحراوي من افتكاك العشرات من الاعترافات بالجمهورية الصّحراوية والتي تجاوزت 80 دولة عبر مختلف القارات، علاوة على مختلف المنظمات والهيئات القانونية الدولية التي ما فتئت تؤكّد على الحق في تقرير المصير والاستقلال. بالإضافة إلى حصولها على منصب العضو المؤسس في الإتحاد الإفريقي، والذي يمنح الحق للجمهورية الصّحراوية بحضور كل الأنشطة والمؤتمرات والمنتديات التي ينظمها أو يحضرها الاتحاد الإفريقي عبر مختلف أصقاع العالم.
وعند الحديث عن العمل السياسي والدبلوماسي للجمهورية الصّحراوية، لا بدّ أن نقف عند المكاسب التاريخية التي حقّقها الصّحراويّون على المستوى الخارجي من خلال انتزاع قرار تاريخي من محكمة العدل الأوروبية، أبطل الأطروحة التوسعية للاحتلال المغربي، وحسم نهائيّا موضوع سيادة الشعب الصّحراوي غير القابلة للطعن على أرضه وبحره وأجوائه وثرواته.
وسيبقى الرابع من أكتوبر 2024 يوما مشهودا في تاريخ الجمهورية الصّحراوية، التي حقّقت نصرا غير مسبوق على مستوى المعركة القضائية من أجل حماية ثرواتها من عمليات النهب التي يمارسها الاحتلال المغربي والدول المتواطئة معه. ففي هذا اليوم، أصدرت محكمة العدل الأوروبية حكما نهائيا يقضي ببطلان الاتفاقيات الموقعة عام 2019، في مجالي الفلاحة والصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوروبي لشمولها منتجات الصّحراء الغربية بطريقة غير قانونية. وأكد قرار المحكمة بأن “المفوضية الأوروبية انتهكت حق الشعب الصّحراوي بإبرام اتفاقيات تجارية مع المغرب تشمل أراضي ومياه الصّحراء الغربية دون استشارته”، ونصّ على أنّ “عملية التشاور التي جرت لم تشمل شعب الصّحراء الغربية، بل السكان الموجودين حاليا في الإقليم المحتل، بغض النظر عما إذا كانوا ينتمون إلى شعب الصّحراء الغربية أم لا”.
وجاء في حكم المحكمة أنّ “الاتفاقيات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب لعام 2019، بشأن مصايد الأسماك والمنتجات الزراعية، والتي لم يوافق عليها شعب الصّحراء الغربية، أبرمت في تجاهل لمبادئ الحق في تقرير المصير لهذا الشعب”. وأقرّت المحكمة أنّ العلامات التي تحملها المنتجات الفلاحية التي مصدرها الصّحراء الغربية، يجب أن تشير إلى الصّحراء الغربية وحدها باعتبارها البلد المنشأ لتلك السلع، مع استبعاد أي إشارة إلى المغرب، وذلك لتجنب تضليل المستهلكين.
هذا، وإذا كان الصّحراويون يصفون هذا الحكم القضائي بالنصر التاريخي، فهم لا يبالغون بالمرّة، لأنّه بالفعل كذلك، ليس فقط لأنه يحمي ثرواتهم من النهب والاستغلال، بل لأنّه يشير بشكل واضح إلى أن الصّحراء الغربية إقليم متمايز ومنفصل عن المملكة المغربية، وشعبها مختلف تماما عن المستوطنين المغاربة الذين يستعمرون الأراضي الصّحراوية.
قضيــــــــــــــــــــــة تصفيــــــــــــــــــــــــة استعمــــــــــــــــــــــار
أما على مستوى الأمم المتحدة، فقد كان التأكيد دوما على موقف الطرف الصّحراوي المطالب بضرورة تحمّل الأمم المتحدة لمسؤوليتها في استكمال تصفية الاستعمار من الصّحراء الغربية وما يتطلبه ذلك من تنفيذ بعثة المينورسو لولايتها، من خلال تمكين الشعب الصّحراوي من ممارسة حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير والاستقلال طبقا لمخطط التسوية الأممي-الإفريقي.
وعلى مدار السنوات الماضية، جدّدت الأمم المتحدة التأكيد على أنّ القضية الصّحراوية هي قضية تصفية استعمار، وتمسّكت بالقرار 1514 (د15) الذي أصدرته قبل أزيد من ستة عقود، والذي ينص على منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، ويقرّ بأنّ الصّحراء الغربية هي واحدة من الأقاليم 17 في العالم التي مازالت معنية بتقرير المصير والاستقلال. ويعد القرار 1514 (د15) الذي صدر في 14 ديسمبر 1960، من أهم القرارات التي صادقت عليها الأمم المتحدة ويظل مرجعيّا، حيث لقي طريقه للتحقيق وشكّل حلا عادلا وتاريخيا للعديد من البلدان التي كانت مستعمرة سابقا، ما أتاح لها فرصة التحرّر والتمتع بالكرامة. ويعتبر الصّحراويون هذا القرار التاريخي البوصلة القانونية والشرعية لقضيتهم، والممرّ الحتمي للتخلّص من الاحتلال، مستعجلين تنفيذه حماية لهم وللقوانين الدولية التي تتعرض للدوس والانتهاك.وقد جاء تجديد الأمم المتحدة التأكيد على أن الصّحراء الغربية “إقليم معني بإنهاء الاستعمار”، ليعزّز قرارا صدر في الرابع من ديسمبر الماضي، من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة، في دورتها 79، والذي أكّدت أيضا على الإطار القانوني لقضية الصّحراء الغربية كقضية تصفية استعمار. واستند قرار الجمعية العامة إلى تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، الذي أكّد فيه على أنّ لجنة المسائل السياسية الخاصة وإنهاء الاستعمار (اللجنة الرابعة) التابعة للجمعية العامة، واللجنة الخاصة المعنية بحالة تنفيذ إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة (لجنة 24)، تتناولان قضية الصّحراء الغربية باعتبارها مسألة تتعلق بإنهاء الاستعمار.وطالبت الجمعية العامة من لجنة 24 أن تواصل النظر في الحالة في الصّحراء الغربية باعتبارها إقليما محتلا، وأن تقدّم تقريرا عن ذلك إلى الجمعية العامة في دورتها الثمانين، كما دعت الأمين العام أن يقدم إلى الجمعية العامة في دورتها القادمة تقريرا عن تنفيذ هذا القرار. وقد شكل هذا القرار الجديد “ضربة قوية لدولة الاحتلال المغربي التي تزعم بأنّ القضية تم حسمها من خلال بعض المواقف، التي عبّرت عنها بعض الحكومات الداعمة لنظام الاحتلال، حيث أكّدت الأمم المتحدة أنّ القضية الصّحراوية على أجندتها كقضية تصفية استعمار، ويبقى للشعب الصّحراوي الحق غير القابل للتصرف في تقرير المصير والاستقلال، وفي السيادة الدائمة على موارده الطبيعية”.
مكانــــــــــــــــة تتعــــــــــــزّز فـــــــــــــي العمــــــــــــــــق الإفريقــــــــــــــــي
وبالإضافة إلى الموقف الأممي الذي ظل منصفا للجمهورية الصّحراوية ولحقّ شعبها في الاستقلال، فقد شكّل المنتظم القاري هو الآخر مصدر دعم وإسناد للجمهورية الصّحراوية باعتبارها عضوا مؤسّسا وكامل الحقوق فيه. كما كان للاتحاد الإفريقي دور في تفعيل القضية الصّحراوية، بعدما أجبر المغرب على الجلوس جنبا إلى جنب مع الدولة الصّحراوية، وكرّس تواجدها في مؤسساته الدستورية، وتمسّك بمشاركتها في كل قمم الشراكة التي يعقدها مع المنظمات والهيئات الدولية الشريكة، رغم محاولات العرقلة والبلطجة التي يمارسها الاحتلال . ومن منطلق هذا الدور الداعم، تتطلّع الجمهورية الصّحراوية إلى أن يبدل الاتحاد الإفريقي مزيدا من الجهد لمساعدة الأمم المتحدة على تفعيل لوائحها بخصوص إنهاء الاحتلال المغربي اللاشرعي للأراضي الصّّحراوية، انسجاماً مع مبادئ وأهداف القانون التأسيسي للاتحاد، وفي مقدمتها احترام الحدود الموروثة عند نيل الاستقلال.
في الأخير، يبقى التأكيد على أنّ الجمهورية الصّحراوية وهي تحتفي بذكرى تأسيسها التاسعة والأربعين، باتت حقيقة وطنية، ودولية لا رجعة فيها، ولا يمكن القفز عليها كواقع ميداني متجذّر، وعامل توازن واستقرار في كامل المنطقة، وستمضي قدماً على درب التحرير والبناء، حتى استكمال سيادتها على كامل ترابها الوطني. ورغم التحديات والمصاعب القادمة، فإنّ إرادة وعزيمة وإيمان الشعب الصّحراوي هي القوة التي ستكون لها بالمرصاد كما قالها الرئيس إبراهيم غالي “إنها مرحلة حافلة بالتحديات، ولكن شعبنا سيكون، كما كان دائماً، في مستوى التحدي، استعداداً وتعبئة وتجنيداً، على كل الساحات والمستويات”.