مع دخول الإبادة الجماعية التي ترتكبها القوات الصهيونية في قطاع غزة شهرها السادس عشر، تتحول حياة الفلسطينيين هناك إلى كابوس مستمر ومحطات مفزعة من الدمار والموت.
تحت السماء التي لا تخلو من المقاتلات الصهيونية، تتواصل أعمدة الدخان الملتهبة بالتصاعد تباعا من مناطق متفرقة لتختلط مع غيوم شتوية تزيد من أوجاع المكلومين في القطاع البالغ عددهم مليونين و100 ألف نسمة.
أحياء سكنية كاملة بل مدن بمجملها سوتها قوات الاحتلال بالأرض عبر تنفيذ سياسة “إبادة المدن” إذ وصلت نسبة الدمار في القطاع إلى 86 بالمائة، وفق آخر بيانات للمكتب الإعلامي الحكومي.
جثامين تحت الركام
أكوام الركام المتناثرة تخفي تحتها أجسادا كانت لأشخاص ينتظرون مع كل دقيقة تمضي بدء وقف إطلاق نار منشود كانت آخر مستجداته مساء الجمعة، حينما تم استئناف المفاوضات غير المباشرة بين حماس والكيان في قطر وسط أنباء عن تقدم إيجابي.
ومنذ الجمعة، استشهد العشرات من الفلسطينيين في قصف صهيوني غير مسبوق، حيث عاش معظمهم لحظاتهم الأخيرة على أمل النجاة من الإبادة.
بعض الجثث لم يبق منها إلا قطعا من العظام التي تكسوها الملابس، بينما البعض الآخر غدت وجبات للكلاب والقطط الضالة، خاصة في مناطق يصعب على طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليها لا سيما بمحافظة الشمال حيث يمعن الجيش بالإبادة والتطهير العرقي منذ أكثر من 3 أشهر.
تلك الجثث كانت من ضمن 11 ألفا و200 شخص مفقود لم تصل جثامينهم للمستشفيات لإحصائها، في وقت يلامس عدد الشهداء منذ بدء الإبادة 46ألفا.
مصابــون بــلاعــلاج
المصابون داخل المستشفيات القليلة العاملة في القطاع، مر بعضهم بعملياتٍ دون مواد مخدرة، ولم يتلقوا ضمن بروتوكولاتهم العلاجية إلا مسكنات خفيفة في ظل الشح الحاد في قائمة الأدوية التي وصلت نسبة العجز فيها بحسب وزارة الصحة بغزة إلى 60 بالمائة، مقابل 83 بالمائة من نقص في قائمة المستهلكات.
أصوات أنينهم داخل المستشفيات خاصة في مدينة غزة التي تعيش حصارا مضاعفا منذ بدء العملية البرية على القطاع في 27 أكتوبر 2023، يدمي قلوب أهاليهم، وسط عجزهم عن توفير عقاقير بتأثيرات قوية قادرة على التخفيف من آلامهم.
بعضهم لفظ أنفاسه الأخيرة بانتظار حصوله على الأدوية أو السفر للخارج بغرض العلاج، فيما يهدد الموت العشرات من بين 12 ألفا و650 جريحا و3 آلاف مريض هم بحاجة لمغادرة القطاع للعلاج، وفق المكتب الحكومي.
هؤلاء غير قادرين على تلقي الخدمات الطبية المتقدمة في القطاع بعدما استهدف الجيش الصهيوني المنظومة الصحية بشكل شبه كامل على مدار 15 شهرا، حيث أخرج 34 مستشفى و80 مركزا و162 مؤسسة صحية عن الخدمة فيما دمر 136 سيارة إسعاف.
المحظوظ من يُدفن “جثة كاملة”
أما الناجون على مدار 15 شهرا، فيعيشون فصولا من الخوف والفزع جراء مشاهد خلفتها عمليات قصف وصفتها مؤسسات أممية بالوحشية على مناطق مختلفة من القطاع.
فمع كل مجزرة باستهداف منزل مأهول ضمن 9 آلاف و973 مجزرة ارتكبتها القوات الصهيونية منذ 7 أكتوبر 2023- وفق ذات المصدر-، تتناثر أشلاء الضحايا الذين يكونوا في معظمهم من الأطفال والنساء بنسبة تصل إلى 70 بالمائة، فصاحب الحظ في القطاع وفق قول الفلسطينيين هو من يُدفن “جثة كاملة وبكفن”.
وفي الفترة الأخيرة، ومع اشتداد الإبادة، بات الفلسطينيون يجمعون أشلاء أجساد شهدائهم في أكياس من البلاستيك ويدفنوهم بدون أكفان بعد فُقدانها من القطاع بسبب كثرة أعداد الضحايا وسط حالة من القهر تتملك ذويهم.
مآسي النازحين
النازحون قضوا أياما عديدة من تلك الشهور بين الهرب من الموت قصفا أو قنصا وبين خوض صراع البقاء من خلال البحث عن مأوى وطعام.
وتعرض الآلاف منهم لحصار بآليات الجيش الاحتلال في مناطق مختلفة، هذا الحصار كان يتزامن مع إطلاق كثيف للنيران متعددة المصادر: برا وجوا وبحرا، ما أشعرهم بأن لحظاتهم الأخيرة باتت أقرب من أي وقت مضى.
فمن داخل المباني المحاصرة كان المشهد أكثر جنونيا، وميض انفجارات الصواريخ والقنابل كان يُضيء نوافد الغرف التي تؤوي النازحين، فيما كانت تلك النوافذ شاهدة على جرائم منها إعدام نازحين وافتعال حرائق في مبان ومرافق قريبة وفق ما نقله شهود عيان من عدة مناطق خاصة محافظة الشمال.
وكان هذا الحصار ينتهي دائما بتهجير قسري للفلسطينيين يمرون خلاله بحواجز تفتيش صهيونية، يخضعون فيها لعمليات فصل بين النساء والرجال، في واحدة من التجارب القاسية التي مروا بها خلال الإبادة.
فقلوب الأمهات تُلاحق أبناءها الذين فصلهم الجيش وسيكون مصيرهم مجهولا إما القتل أو الاعتقال أو الترحيل، بينما تتعلق عيون الآباء بعائلاتهم خاصة الأطفال منهم حيث تكون نظراتهم وكأنها “الأخيرة للوداع”.
وعمليات التهجير والتطهير العرقي جاءت ضمن خطط الاحتلال الصهيوني غير معلنة أشار إليها الإعلام الصهيوني لتفريغ الأرض من سكانها وسط دعوات صهاينة متطرفين لإعادة احتلال القطاع وإنشاء مستوطنات فيه.
لا وجـود لمناطـق آمنـة
منذ بداية الإبادة، توجه غالبية النازحين البالغ عددهم نحو مليوني فلسطيني إلى ما نسبته 10 بالمائة فقط من مساحة القطاع التي ادعى الجيش أنها “إنسانية آمنة”، حسب المكتب الحكومي، كان أبرزها منطقة “المواصي” الممتدة على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط من جنوب مدينة خان يونس وحتى شمال دير البلح (وسط).
تلك المناطق تعرضت لنيران كثيفة على مدار أشهر الإبادة ما أسفر عن استشهاد وإصابة المئات من النازحين.
فكانت الرمال الناعمة التي أنشئت فيها خيام النازحين تبتلعهم نياما بعدما تترك الصواريخ الصهيونية حفرا ذات أقطار كبيرة في المكان.
كما احترق نازحون أحياء بعد اشتعال خيامهم ومراكز إيوائهم بالنيران بسبب القصف الصهيوني، على مرأى ومسمع العالم، في حين بلغت عدد مراكز الإيواء التي استهدفها الجيش منذ بدء الإبادة حوالي 216 مركزا بحسب المكتب الحكومي.