تواجه السلطة الانتقالية في مالي تحديات أمنية كبيرة لاجتياز المرحلة الانتقالية السياسية عقب انقلابين عسكريين كانت لهما تداعيات على البلاد، ورغم ذلك تبقى الامال كبيرة لتجاوز المرحلة الراهنة، بداية العام المقبل، بتنظيم انتخابات رئاسية، في ظل احترام اتفاق الجزائر للسلم والمصالحة الذي يؤدي دورا محوريا في عملية السلام وتعتبره بماكو حتمية لضمان الاستقرار.
تداعيات الانقلابين العسكريين في مالي لا تزال تلقي بظلالها على المشهد السياسي والأمني في البلاد ولا تكاد السلطة الانتقالية تحل مشكلة حتى تظهر أخرى، لكن ذلك لايعني حسب قادة المرحلة الانتقالية بقيادة الرئيس الانتقالي عصايمي غويتا، عائقا دائما للوصول الى المرحلة النهائية، المقررة شهر مارس 2022 تنظم خلالها انتخابات رئاسية، وفق اتفاق سلطات البلاد مع مجموعة دول غرب إفريقيا “اكواس”.
اتجاه صحيح
يرى الباحث في الشؤون الافريقية بالمدرسة العليا للعلوم السياسية بجامعة الجزائر، سالم قرش، أن مالي تتجه في المسار الصحيح نحو الخروج من الازمة السياسية، ويعتبر ان الاستفتاء على الدستور سيكون أول امتحان لنوايا السلطة الانتقالية التي قررت تعديل الدستور قبل تنظيم انتخابات وهو ما تم الاتفاق عيله مع مجموعة دول غرب افريقيا “اكواس”.
أكد الباحث قرش لـ “الشعب ويكاند” ، ان السلطة الانتقالية وضعت خارطة طريق وتعهدت بتنفيذها بعد الانقلاب الأول على الرئيس ابراهيم كيتا، لكن الانقلاب الثاني أدى الى تمديد الآجال لتمكين السلطة من التحضير الجيد للانتخابات التي سبقها تشكيل حكومة لمواجهة أوضاع اقتصادية صعبة تمر بها البلاد جراء فساد خلفه النظام السابق واستمرار تاثير الجماعات الارهابية على استقرار الوضع.
وذكر الدكتور قرش ان خطة السلطة المالية واضحة المعالم في انهاء المرحلة الانتقالية التي ستكون بدايتها بالاستفتاء على الدستور ثم الذهاب الى الانتخابات، مشيرا الى ان خارطة الطريق المتبعة لا تختلف عن أنموذج الجزائر المطبق بعد تنحي الرئيس السابق، وهي خارطة طريق ستتنجح من دون شك في الخروج بشكل سريع من مرحلة انتقالية نحو دولة مؤسسات في حال تمكن قادة مالي في تجاوز التحديات الامنية المتصاعدة.
ويمثل اتفاق الجزائر للسلم والمصالحة الموقع في 2015 صمّام أمان لاستقرار مالي في هذه المرحلة الصعبة، ويجسد الاتفاق حتمية لتفادي الصراعات الطائفية وهو ما أكدته السلطة الانتقالية على لسان وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب خلال زيارته الاخيرة للجزائر.
مبادرة وحيدة
وفي هذا الصدد، أوضح الدكتور قرش ان الجزائر لم تتخل أبدا عن مالي وهي تسعى الى الحفاظ على اتفاق السلام كونه المبادرة الدولية الوحيدة لحماية مالي من التحديات الراهنة، وتطرق الى حيثيات الاتفاق الشامل والكامل لبقاء مالي موحدة وهوما تعتبره باماكو صمام امان لخروجها من الازمة الامنية والسياسية لاسيما في ظل سعي أطراف خارجية حسب الباحث الى التأثير على جهود الجزائر في حلحلة الاوضاع .
ومنذ التوقيع عليه في 2015، يعتبر اتفاق الجزائر مرجعية للامم المتحدة في استقرار مالي وحتى منطقة الساحل الافريقي بالنظر لعمق جمهورية مالي في الغرب الافريقي، مبرزا ان الاتفاق هو المبادرة الدولية الوحيدة التي مكنت من تفادي انقسام البلاد جراء الصراعات الايديوليجية، لكن وقوف الجزائر مع الشعب المالي كان له الاثر الايجابي الكبير عبر انهاء الصراع بين مختلف الفرقاء وأنهى أطماع خارجية استغلت الوضع الاجتماعي لصالح نفوذها.
لكن نوايا الجزائر الصادقة بحسب قول الاستاذ قرش، مكنتها من حشد الحلفاء لمواجهة الجماعات الارهابية وكانت هي أول بلد يصل مسؤولوه الى باماكو كلما حلت مشكلة بين الفرقاء، قائلا ان الجزائر لم تتخل عن مالي أبدا وتقف معها في السراء والضراء، منتهجة في ذلك دبلوماسية الجوار في اطار بعدها الافريقي ما جعلها محل ثقة كل الحلفاء. حيث ان تحرك الجزائر يأتي في اطار مبادئ الاتحاد الافريقي.
وتمثل الجزائر بالنسبة لمالي شريكا استراتيجيا وحليفا قويا تعوّل عليه سلطة مالي في تعزيز الشراكة الامنية لمواجهة التحديات الراهنة لاسيما بسط الامن على الحدود بعد الانسحاب الفرنسي في اطار قوة “برخان”. إذ تمثل الجزائر دولة محورية في المنطقة بتشاركها الحدود مع دولتي من دول الساحل وكلاهما يعيش مرحلة صعبة لاسيما بتدهور الوضع الامني في تشاد التي تشارك النيجر ومالي حدودا طويلة.
ويشكل عدم استقرار الوضع في مالي هاجسا كبيرا لدول المنطقة نظرا لوجود توترات إقليمية أخرى قد تتشابك وتستغل الجماعات الارهابية الوضع الامني للانتشار، ويركز الباحث في الشؤون الافريقية على مسألة تعزيز الأمن على الحدود ويربط الوضع الامني في مالي بالازمة الليبية، إذ من الممكن ان يجعل المرتزقة المنتشرين في ليبيا من مالي ملاذا آمنا في حال تمكن المجتمع الدولي من اخراجهم وفق ما تم التوصل إليه خلال مؤتمر برلين.
ولايستبعد الدكتور قرش هذا الامر بالنظر لمرحلة غموض تعيشها مالي رغم مؤشرات على الاستقرار، فالجماعات الارهابية تسعى دائما الى استغلال الوضع الاقتصادي والاجتماعي الهش للدول لتنفيذ هجماتها، موضحا ان هناك جماعات دموية تخضع لقوى خارجية لاتريد الاستقرار في مالي وتعيق التنفيذ الكامل لاتفاق الجزائر وهو ما يعتبر تحد كبير في الوقت الحالي.
تنسيق متواصل
ولمواجهة التحدّيات الامنية في مالي تواصل الجزائر مشاوراتها لبحث العلاقات الإستراتيجية مع باماكو وتحديات الأمن في المنطقة واتفاق السلم المنبثق عن مسار الجزائر. وشكلت زيارة وزير الخارجية المالي الى الجزائر مع زيارة مماثلة لرئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) القاسم وان، محطة لبحث دور البعثة الأممية في إرساء الأمن في مالي والساحل الصحراوي.
وجاءت الزيارة أشهرا قليلة على نهاية المرحلة الانتقالية. ووفق بيان صادر عن الخارجية الجزائرية، اندرجت زيارة وزير الخارجية المالي في إطار المشاورات والحوار القائم بين البلدين، وسمحت لوزيري خارجية البلدين بعقد الجلسة 17 للجنة الثنائية الإستراتيجية الجزائرية المالية من أجل تناول حالة التعاون الثنائي ودراسة آفاق تعزيزها وتعميقها.
وتعوّل السلطة الانتقالية المالية على الجزائر كثيرا في تعزيز الشراكة الامنية في المرحلة الانتقالية. وصرح ديوب بأنه يزور الجزائر حاملا رسالة من الرئيس الانتقالي المالي العقيد أسيمي غويتا، إلى نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، من دون أن يكشف عن مضمونها. واصفا العلاقات بين الجزائر ومالي بأنها “قوية ومتينة”، مشيرا إلى أنهما يرتبطان بتحديات مشتركة على غرار “الأمن والاستقرار”. وقال إن زيارته تأتي لدعم وتوثيق الشراكة “الإستراتيجية” القائمة بين البلدين.
وتبحث السلطة في مالي كيفية العمل على إرساء إستراتيجية “تسمح بحماية الشعب، وجعل المنطقة بمنأى عن الأخطار جراء تصاعد العنف في الآونة الاخيرة. واعتبر ديوب أن مالي تجتاز مرحلة “صعبة” في ظل مرحلة انتقالية سياسية، بالإضافة إلى التحديات الأمنية التي تواجهها، وهي “فرصة لتبادل الرؤى مع الجزائريين، حول فهمنا لكافة التحديات التي تواجهها بلدان المنطقة”.
أولويات المرحلة
ومنذ تولي شوغيل كوكالا مايغا زعيم المعارضة ورئيس حركة 5 جوان رئاسة الوزراء يؤكد دعم السلطات الانتقالية لاتفاق الجزائر للسلم والمصالحة في مالي، داعيا جميع الفاعلين الى ضرورة الالتزام بمبادئه الأساسي، باعتباره “الإطار الوحيد الكفيل” بإعادة استتباب الأمن والاستقرار وتحقيق السلام في البلاد.
وفي أول مشاركة له في أشغال الدورة 44 للجنة متابعة تنفيذ اتفاق الجزائر للسلم و المصالحة في العاصمة باماكو، أعرب مايغا عن إرادة السلطات المالية في تجسيد الاتفاق المنبثق عن مسار الجزائر بـ “طريقة ذكية” قصد إنجاحه، متعهدا بالعمل مع جميع الأطراف “للمضي في تنفيذه”. وشدد على “ضرورة تقريب في وجهات النظر، والعمل من أجل كل ما يساهم في إصلاح الوضع المتأزم في البلاد بالتعاون مع الجميع، دون أقصاء”، لافتا الى أن، تنفيذ اتفاق السلم و المصالحة المنبثق عن مسار الجزائر، وتنظيم الانتخابات والاصلاحات السياسية و المؤساستية، واصلاح الدولة “تعتبر جميعها أوليات المرحلة الانتقالية”.
وأبدى الماليون رغبة حقيقية في المضي قدما نحو تنفيذ بنود الاتفاق، باعتباره “في بلادهم، حيث تعهدت السلطات الانتقالية المالية، بالتزام بالإسراع في تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة. شهدت مدينة كيدال انعقاد لأول مرة اجتماع لمتابعة اتفاق الجزائر وهو ما اعتبره آنذاك الفاعلين “بادرة أمل” لتحقيق السلم و استعادة الاستقرار في كامل الاراضي المالية.
وفي 30 مارس المنصرم عقدت لجنة متابعة اتفاق السلم و المصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر دورتها 43 في مدينة “كاييس”، غرب البلاد، برئاسة الجزائر. وكانت الحكومة المالية والجماعات السياسية والعسكرية المالية وقعت في ماي عام 2015 على اتفاق السلام الشامل، والذي يقضى بإعادة سيطرة الحكومة المالية على مناطق التوتر في الشمال، والإدماج التدريجي لعناصر هذه الحركات ضمن الجيش المالي، ومكافحة الإرهاب، ووضع برامج تنمية موجهة لهذه المناطق، وضمان تمثيلها في مؤسسات الدولة المالية. وتسهم هذه التوافقات في تعزيز الأمن في منطقة شمال مالي والساحل، وتطمئن الجزائر بشأن أمنها الحدودي الذي توليه اهتماما خاصاً.
التزام ثابت
ولايمكن تجاوز المرحلة الانتقالية في مالي دون دعم الجزائر المتواصل والمرافقة التي تحظى بها في اطار التعاون الثنائي. ولقي هذا الدعم أشادة رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي واصفا ذلك بـ«الالتزام الثابت” للجزائر لصالح مسار السلام في مالي.
وثمن القاسم وان، الالتزام الثابت للجزائر لصالح مسار السلام في مالي”، مضيفا أن الجزائر التي تقود الوساطة الدولية للجنة متابعة اتفاق السلام تعد شريكا “أساسيا”. وفي هذا الشان قال الباحث سالم قرش ان الجزائر تعمل وفق أجندة دولية وتعد مبادرتها للسلام فريدة ووحيدة في المنطقة تؤكد التزامها الثابت تجاه قضايا افريقيا وفي مقدمتها دول الجوار على غرار دعمها للجمهورية الصحراوية العربية الديمقراطية.
الجهود الجزائرية لم تقتصر حسب الباحث في الشان الافريقي على الدعم السياسي فقط ولكن قبل ذلك عملت السلطات الجزائرية على اعتماد مقاربة اقتصادية تسمح باستمرار التبادل التجاري الحر بين دول الجوار، ولجأت الى سياسة الحدود المفتوحة أمام التجارة إدراكا منها بأهمية المقاربة الاقتصادية في مواجهة التحديات الامنية، وهي المقاربة التي ترافع لأجلها في المحافل الدولية لمواجهة التحديات الامنية.
ورغم انتشار وباء كورونا حرصت الجزائر على استمرار فتح الحدود مع مورتانيا والنيجر ومالي في اطار اتفاق الدول الافريقية للتبادل التجاري الحر، وذلك يسمح لمواطني الحدود بحرية التجارة والتنقل ضمن مساعي ايجاد سبل احياء المناطق الحدودية الفقيرة حسب الدكتور قرش، قائلا: ان هذه المقاربة سمحت بتعزيز أواصر التعاون وحسن الجوار لمواجهة التحدّيات الأمنية”.
لا إفلات من العقاب
ومنذ الانقلاب الاول على كيتا، عرف القضاء المالي انفتحا كبيرا من خلال فتح ملفات فساد كثيرة تورط أغلبها في مأساة الشعب المالي وشملت محاكمات اطلقتها السلطات رجال نافذين وذلك احتراما للإرادة الشعبية المطالبة باسترجاع حقوق المدنيين، لكن سياسة الافلات من العقاب في مالي تعتبر تحديا للبلاد. إذ أدانت الأمم المتحدة انتشار “الإفلات من العقاب” حيال انتهاكات حقوق الإنسان في مالي، وتقول إنه يشكل خطرا جدّيا على حماية المدنيين، وندّدت بتدهور الوضع هناك.
وحثت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدةالسلطات المالية على “كسر حلقة الإفلات من العقاب وإجراء تحقيقات سريعة ومعمّقة وحيادية وفعّالة بشأن جميع الادّعاءات بانتهاكات لحقوق الإنسان والتعدي على هذه الحقوق، بما في ذلك تلك المرتكبة من جانب الجيش. واعتبرت ذلك ضامنا ليسود السلام”. لكن رئيس الوزراء المالي أعلن أخيرًا أنه يتعهّد بوضع حدّ للإفلات من العقاب.
«مينوسما” إلى 2022
وتشكل البعثة الاممية المتعددة الابعاد لحفظ السلام “مينوسما” آلية مهمة في تحقيق السلم بمالي، ويراها متابعون تكملة لتنفيذ اتفاق الجزائر في ظل تصاعد الهجمات الارهابية، ولحماية الاستقرار، وقد وافق مجلس الامن الدولي بإجماع أعضائه الـ15 على مشروع قرار أعدّته فرنسا بشأن تمديد عمل البعثة الأممية، مشدّدا في الوقت نفسه على ضرورة استعادة المدنيين السلطة من العسكريين وتنظيم انتخابات عامة في 27 فبراير المقبل.
وينتشر نحو 13 ألف عسكري من عدة دول في مالي ضمن بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام. وطلب القرار من الحكومة الانتقالية في مالي تنظيم “انتخابات رئاسية حرّة ونزيهة”، واستفتاء دستوري وانتخابات تشريعية وأخرى لمجالس الولايات والبلديات.
اتفاق السلم والمصالحة في سطور:
اتفاق السلم والمصالحة، هي اتفاقية تمت بين مالي والجماعات السياسية والعسكرية المالية، توسطت وأشرفت عليها الجزائر وهي نتائج مفاوضات طويلة وقعت بمدينة الجزائر العاصمة في 1 مارس 2015.
الأطراف الموقعة:
الأطراف الموقعة هي كل من حكومة مالي المركزية والحركة العربية للأزواد، التنسيقية من أجل شعب الأزواد، تنسيقية الحركات والجبهات القومية للمقاومة، الحركة الوطنية لتحرير الأزواد، المجلس الأعلى لتوحيد الأزواد، وحضر مراسم التوقيع ممثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
أهم بنود الإتفاقية:
- احترام الوحدة الوطنية.
- إلغاء العنف.
- احترام حقوق الانسان.
- تعزيز سيادة القانون.
- تمثيل لجميع مكونات الشعب المالي في المؤسسات.
- إعادة تنظيم القوات المسلحة والأمن.
- إلتزام الأطراف بمكافحة الإرهاب.
- تسهيل عودة وإدماج اللاجئين
- المصالحة والعدالة وقضایا الإنسانیة
- تھدف ھذه الاتفاقیة إلى تھیئة الظروف لسلام دائم في مالي، والمساھمة في الاستقرار الإقلیمي والأمن الدولي.
- تتفق الأطرف الموقعة على تعزیز مصالحة وطنیة حقیقیة تستند إلى العناصر التالیة:
- تطویر میثاق وطني للسلام والوحدة والمصالحة الوطنیة؛
- إنشاء آلیات العدالة الانتقالیة، بما في ذلك من خلال تفعیل لجنة الحقیقة والعدالة والمصالحة.
- إنشاء لجنة إنفاذ ضد الفساد والجریمة المالیة.
- إنشاء لجنة دولیة للتحقیق لتسلیط الضوء على جمیع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانیة، وجرائم الإبادة الجماعیة، والجرائم الجنسیة والانتھاكات الخطیرة.