انعقد مؤتمر برلين 2 في ظروف ليبية داخلية تتسم بالشقاق بين الفاعلين المحليين، وانشطار الرأي الداخلي وعدم استقرار أمني، بسبب استمرار القتال ووجود قوات أجنبية ومرتزقة وميليشيا تحاول كل منها فرض وجهة نظر الجهة السياسية التابعة لها ولو بلغة السلاح. وفي ظل تنافس دولي محتدم، خاصة بعد بروز الدور الروسي الذي ترفضه الولايات المتحدة الأمريكية، وقامت على إثره بحراك دبلوماسي في الأسابيع الأخيرة، اتضحت ملامحه في لقاء بايدن -أردوغان على هامش قمة الدول أعضاء حلف الناتو.
يبحث مؤتمر برلين 2 تنظيم الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها يوم 24 ديسمبر 2021 إلى جانب ذلك ملف إخراج المرتزقة من ليبيا البالغ عددهم 20 ألفا، بحسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة قادمين من سوريا والتشاد والسودان، وسحب القوات الأجنبية حيث ينتشر مئات الجنود الأتراك بنص اتفاق بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني السابقة، بعد فشل مؤتمر برلين في ذلك.
رغم توالي المبادرات الدولية والإقليمية والوساطات لحل الأزمة الليبية، إلا أن السمة السائدة للمشهد الليبي هي استمرار الانقسام بين الشرق والغرب الليبيين وكذا الجنوب.. بين أنصار حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليا، بقيادة عبد الحميد الدبيبة، ومؤيدي خليفة حفتر، ومساندي سيف الإسلام القذافي بصفته من بقايا النظام السابق ومن بين المُطالبين بتسبيق الانتخابات الرئاسية، ومُناد بضرورة تنظيم الاستفتاء على مسودة الدستور أولاً.
انعكست هذه الحيثيات في مواقف أعضاء ملتقى الحوار السياسي، الذي جرت أحداثه نهاية الشهر المنصرم، حيث قال عضو اللجنة القانونية لملتقى الحوار السياسي الليبي عبد الرحمان السويحلي، إنه « لا يوجد شارع سياسي واحد في ليبيا، بل هناك شوارع سياسية»، وأضاف أن «الأهم من إتمام القاعدة الدستورية للانتخابات العامة هو تهيئة بيئة سياسية للوصول إلى انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية»، في إشارة منه إلى عدم إمكانية انتخاب رئيس ليبيا في اقتراع يختار فيه الشعب رئيسه مباشرة. بينما تدفع القوى الدولية المعنية بالأزمة الليبية إلى إجراء انتخابات رئاسية أولا وتأجيل باقي القضايا التي يمكن معالجتها حال انتخاب الرئيس.
ابتزازات وضغوطات
شهدت الفترة الأخيرة اضطرابات أمنية في ليبيا، منها تفجيرات إرهابية في مدينة سبها جنوب ليبيا، استهدفت حاجزا أمنيا أسفر عن مقتل رَجُلي أمن وإصابة آخرين بجروح، عملية تبناها تنظيم الدولة في العراق وسوريا الذي انتقل منذ 2014 للنشاط في ليبيا بعد انهزامه في العراق (أو بالأحرى انتهاء المهمة الموكلة له هناك)، وهي طريقة تعتمدها أطراف لا تخدمها عودة الاستقرار والأمن إلى ليبيا، وتذكير بأنه يستحيل تنظيم العملية السياسية في ظل هذا الاضطراب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يعمد خليفة حفتر قائد قوات شرق ليبيا، إلى خرجات مناسباتية في كل مرّة يكون هنالك اجتماع حول الأوضاع في ليبيا، قصد الابتزاز وتحصيل مكاسب، أو للضغط على المعنيين لأخذ وجوده بعين الاعتبار» على أنه فاعل مؤثر»، حيث قام مطلع الأسبوع الجاري بدفع قواته إلى الحدود الجزائرية الليبية التي أغلقت أحد المعابر الحدودية وأعلنته منطقة عسكرية، وربما يريد حفتر بهذه الخطوة استفزاز الجزائروالتشويش على ما تم احرازه على صعيد المصالحة الوطنية الليبية غير أنّ الجزائر لم تعر تحركه اهتماما وبقيت على موقفها بالبقاء على مسافة واحدة من جميع الأطراف.
وكانت الجزائر أعلنت نهاية ماي المنصرم إعادة فتح الحدود مع ليبيا على مستوى معبر الدبداب لمرافقة الأشقاء في ادراك برّ الأمان. كما يتزامن هذا التحرك المضاد مع انعقاد مؤتمر برلين 2 الذي تقدمت فيه بمبادرة لحل الأزمة في ليبيا وقالت إنها تحظى بقبول مجلس الأمن والقوى الكبرى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
تحركات حفتر هذه يبدو أنها عمل فردي خاصة بعد أن فقد الدعم السياسي الذي كان يقدمه له برلمان طبرق قبل أن يعترف بحكومة الدبيبة، وكذا تسليم قيادة الجيش الليبي إلى المجلس الرئاسي باعتباره القائد الأعلى للجيش الليبي، الذي نشر القوات على مناطق واسعة من الغرب الليبي، لتأمينها ومكافحة الجريمة والإرهاب هناك، وبالتالي لم تعد لتحركات حفتر أي سند داخلي أو دولي.
المبادرة الجزائرية.. مصداقية الدبلوماسية
لم تحد الجزائر عن موقفها إزاء الأزمة الليبية، منذ أعلنته العام 2014، عندما تحوّل التنافس السياسي إلى نزاع دموي، غداة الانتخابات التشريعية هناك، وأكدت دائما أن الحل في ليبيا لا يكون إلا بانتهاج المسلك السياسي، وأن اللجوء إلى السلاح والحل العسكري قد فشلاَ فشلاً تاما، وما زاد الأمور سوءا هو التدخل الأجنبي، حيث رفضته منذ البداية، واقترحت بدلا عنه حلا سياسيا فيما عرف بـ «مبادرة الجزائر» للحوار بين جميع الفصائل السياسية والعسكرية بما فيها بقايا النظام السابق، واستثنت من ذلك الجماعات المسلحة الإرهابية، وفق مبدئها القائم على عدم التفاوض مع الجماعات الإرهابية. وهدفت المبادرة إلى تقريب وجهات النظر بين المتنازعين، تمهيدا لإيجاد حل شامل للأزمة، في وقت كانت مصر وفرنسا تدفعان إلى تدخل عسكري ثان، كان سيزيد من تعفين الوضع الأمني وتهديد الأمن الوطني الجزائري على الحدود الجنوبية ذات الطبيعة الصحراوية، وما ينجر عن هذه الطبيعة من صعوبة المراقبة والحماية.
وعليه قامت مبادرة الجزائر الأولى على جمع أكبر عدد من الأطراف الليبية المتنازعة إلى طاولة الحوار، لوقف القتال وبدء حوار جاد يفضي إلى حل سياسي للأزمة بأقل التكاليف المادية والبشرية، من جهة، وإبطال حجج القوات الأجنبية للتدخل العسكري من جهة أخرى، إلى جانب بناء مؤسسات الدولة منعا لانتشار الفكر المتطرف، خاصة بعد انتقال نشاط تنظيم داعش إلى ليبيا وسيطرته على مناطق النفط. وهذا ما سيؤثر على كامل منطقة الساحل وليس ليبيا فقط، إضافة إلى إقامة سلطة مركزية قوية تحتكر حيازة السلاح منعا لاستعماله على نطاق واسع، وبالتالي تقليص مساحة العنف الداخلي ومنه ضمان عدم انتشاره إلى دول الجوار. وكذلك اقترحت مبادرة الجزائر فتح الحدود في المناطق الجنوبية بين الجزائر وليبيا لتخفيف الضغط على السكان هناك.
تلت هذه المبادرة خطوات فعلية من طرف الجزائر حيث استقبلت عددا من الفاعلين في الأزمة الليبية، منهم عقيلة صالح رئيس مجلس نواب برلمان طبرق وخليفة حفتر العام 2016، ثم عبد الحكيم بلحاج العام 2016، وتنظيم عددا من اللقاءات بين دول الجوار الليبي مصر وتونس، وأسفرت المساعي الجزائرية، ابتداء من 2016، عن تشكيل حكومة وفاق وطني معترف بها دوليا تولت السلطة في منطقة الغرب الليبي إلى غاية 2020.
وبعد مرور نحو 7 سنوات على المبادرة الأولى التي قدمتها الجزائر، اقتنعت الأطراف الداخلية والقوى الأجنبية المعنية بالملف الليبي، أن الحل لا يمكن إلا أن يكون سياسيا، وفعلا اعتمدت مبادرة الجزائر في اتفاق جنيف، المنعقد شهر أكتوبر من السنة الماضية، المبنية على هذا المبدأ، وتضمن الاتفاق من بين ما تضمن نزع سلاح الميليشيات تمهيدا لدمجها في جيش موّحد، وتعجيل العملية السياسية لتمكين الشعب الليبي من اجراء انتخابات لاختيار رئيس للبلاد.
لكن اعترضت المبادرة الجزائرية عدد من الصعوبات حالت دون تنفيذها على أرض الواقع، منها تعدد الوساطات خاصة من الطرف المغربي الذي لم يكن يرغب من وراء حشر نفسه في الملف الليبي سوى التشويش على الجزائر، حيث جنى ثمار المساعي الحثيثة للجزائر لرأب الصدع بين الفرقاء الليبيين، من خلال احتضان اجتماع بين الأطراف الليبية المتنازعة في مدينة الصخيرات، فيما عرف فيما بعد باتفاق الصخيرات العام 2015، لكنه سرعان ما فشل بسبب عدم تمثيله لكل الأطراف. واحتضن عددا من اللقاءات بين مختلف المسؤولين الليبيين على مدار السنوات السابقة دون التمكن من التوصل إلى حل يذكر. كما استقبلت بداية جوان الجاري رئيس البرلمان الليبي في طبرق عقيلة صالح، ورئيس الحكومة المؤقتة، لإجراء مباحثات حول قضايا تعتبر من صميم الشأن الداخلي السيادي الليبي، ويتعلق الأمر بتباحث تولي المناصب السيادية على رأس المؤسسات الاستراتيجية السبع، وهي البنك المركزي الليبي، ورؤساء كل من: ديوان المحاسبة رئيس جهاز الرقابة الإدارية، والمفوضية العليا للانتخابات، وهيئة مكافحة الفساد والمحكمة العليا، وكذا النائب العام.
لكن يلاحظ تزامن هذه الوساطة وزيارة رئيس الوزراء الاسباني بيدرو سانشيز إلى ليبيا، وهو ما يطرح تساؤلات حول تحرك طرفين يشوب علاقتهما توتر منذ أشهر، في حين تتسم العلاقة بين الجزائر وإسبانيا بتوافق المواقف حول عدد من القضايا أهمها قضية الصحراء الغربية، سبب التوتر المغربي الاسباني، فهل يتحرك الطرفان في اتجاهين متعاكسين أم أنها مجرد صدفة.
لعب المغرب مدعوما من أطراف معروف توجهها حيال تأجيج الوضع في ليبيا، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تدفع حاليا إلى الحل السياسي، ولو بطريقة أخرى، بل والتعجيل بإنهاء الأزمة التي طال أمدها من خلال الضغط على أطراف الأزمة الداخلية وإبعاد الأطراف الخارجية، ويأتي هذا الحراك الدبلوماسي الأمريكي بعد تنامي الدور الروسي في الأزمة الليبية، فبعد سكوتها عن تدخل الناتو في ليبيا وعدم الاعتراض عليه أو استعمال حق النقض، تدخلت روسيا، خلال السنوات الأخيرة، بحثا عن موطئ قدم ثان في المياه الدافئة، ومعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية يزعجها أي توسع لروسيا في أية منطقة في العالم. ويمكن تفسير اللقاء بين الرئيس التركي طيب رجب أردوغان ونظيره الأمريكي جو بايدن على هامش قمة حلف الناتو ببروكسل، يوم 16 جوان 2021، على انه دعم أمريكي لتركيا فيما تعلق بالأزمة الليبية في مواجهة التمدد الروسي هناك.