يرى الدكتور أحمد بوفتحة أنّ الإنشاد الديني يعد من الفنون العريقة المتصلة بالحضارة العربية والإسلامية، إذ ظلّ على مر العصور وسيلة تعبيرية راقية تجمع بين الشعر والموسيقى في إطار وجداني وروحي. وأوضح أن هذا الفن، في الجزائر، يحمل بصمات ثقافية واجتماعية متميزة، مما يجعله جزءًا من الهوية الفنية والدينية للبلاد، غير أنّ هذا الارتباط التاريخي لم يمنع بروز تحديات تعيق تطوره وانتشاره.
أشار الدكتور أحمد بوفحتة في تصريح لـ “الشعب”، إلى أن الإنشاد الديني ارتبط ارتباطا وثيقا بالشعر الصوفي وشعر المديح النبوي، حيث كان أبرز أعلامه في الجزائر أبو مدين شعيب الغوث التلمساني، صاحب رائعة “ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا”. وقد ظل هذا الفن متأثرًا بالسياقات التاريخية المختلفة، محافظًا على طابعه التقليدي الذي يقوم على الأداء الجماعي في المناسبات الدينية، مثل المولد النبوي، شهر رمضان، والأعياد الإسلامية.
وذكر احمد بوفتحة، أن الإنشاد في الجزائر يطغى عليه الطابع الجماعي، حيث تُؤديه فرق متخصصة بدلًا من المنشدين الأفراد، وهو ما يعكس خصوصية المشهد الإنشادي الجزائري. إلا أن هذا الطابع يحدّ من انتشار هذا الفن ويجعل التجارب الفردية نادرة، مما يؤثر على فرص تطويره ويقلل من إمكانية تجديده.
رغم عمق هذا الفن وأصالته، أوضح المتحدث أن الإنشاد الديني في الجزائر يواجه تحديات كبيرة، أبرزها محدودية النصوص الجديدة، حيث يعتمد أغلب المنشدين على قصائد كلاسيكية في المديح النبوي تعود إلى حسان بن ثابت، البوصيري، وأحمد شوقي. وهذا التكرار يؤدي إلى فقدان عنصر الابتكار، مما يجعل الجمهور يشعر بالرتابة، خصوصًا في ظل التحولات الفنية الحديثة.
ومن بين الإشكاليات الأخرى التي تعترض طريق تطور الإنشاد الديني - بحسب بوفتحة - افتقار كثير من المنشدين إلى ذائقة أدبية عالية، حيث يعتمد بعضهم على الأداء دون الاهتمام العميق بمعاني الكلمات أو جماليات النصوص الشعرية.
في هذا السياق، يؤكد بوفحتة أن الإنشاد هو أحد أرقى أشكال قراءة الشعر، لذا يحتاج المنشد إلى امتلاك مهارات لغوية وصوتية تُمكنه من إيصال المعاني بإحساس مرهف، مشيرًا إلى القول الشهير:
«تغنَّ بالشعرِ إما كنتَ قائلَهُ…إنّ الغناءَ لهذا الشعر مضمارُ”.
كما شدّد الشاعر على ضرورة البحث عن سُبل تجديد الإنشاد الديني، وذلك من خلال التعاون مع الشعراء المعاصرين لإنتاج نصوص جديدة تحمل روح العصر دون التفريط في القيم الروحية والجمالية. ويرى أن استمرار الفرق والمنشدين في إعادة تقديم نفس الأعمال القديمة يجعل هذا الفن أقل جاذبية للأجيال الشابة التي تبحث عن التجديد في المضامين والأساليب.
وحذّر بوفحتة من هيمنة الأعمال الفنية السطحية على الذائقة العامة، حيث أصبحت الساحة الموسيقية تعج بأغانٍ تفتقر إلى القيمة الفنية، الأمر الذي جعل الجمهور بين مطرقة الرداءة وسندان فقدان البدائل الراقية. ويرى أن الحل يكمن في تقديم فن ملتزم وجميل في الوقت ذاته، بحيث يُنافس الأعمال السائدة بجودته العالية وعمقه الروحي.
وختم بوفحتة حديثه بالقول، إنّ الإنشاد الديني يمكن أن يكون أحد الحلول لمقاومة التراجع الفني الذي يشهده المشهد العام، وذلك عبر إحيائه بطريقة حديثة تلائم متطلبات العصر، دون أن يفقد أصالته. ومن الضروري العمل على نشر ثقافة الإنشاد بين الأجيال الجديدة، من خلال إدخاله في المناهج الموسيقية والتربوية، وتشجيع المواهب الشابة على خوض غماره بأساليب تتماشى مع ذوق الجمهور الحالي.