نخبة الانتصارات

20 أوث 2021

مرت بالأمس ذكرى أخرى غالية، وغالية جدا، في تاريخنا، إنها ذكرى رسخت الثورة وعمقت القطيعة مع النظام الكولونيالي، وذكرى وضعت للثورة نظام عمل وآليات اتخاذ قرار.
نعم، يمكن القول إن الذكرى المزدوجة للعشرين من شهر أوت، 1955 و1956، تخلّد محطتين من المحطات الأساسية في تاريخ ثورتنا. فالذكرى الأولى كانت قرارا سياسيا نضاليا في رفع الضغط عن الولاية الأولى التاريخية، وكسرت ادعاءات فرنسا أن «التمرد» يتوقف على منطقة واحدة من الجزائر.
لقد كان قرار الشهيد زيغود يوسف ورفاقه الشهداء والمجاهدين، قرارا ثوريا حكيما فاعلا وفعالا، فقد رسخ الثورة وعممها، بشكل لا غبار عليه، وفضح ادعاءات سلطات الاحتلال لدى الرأي العام العالمي.
أما الذكرى الثانية، فإنها أسست الأرضية الأولى لما يمكن تسميته «نظام جبهة التحرير»، وهو تنظيم متعدد الأبعاد، فهو سياسي تشريعي، مع تأسيس المجلس الوطني للثورة وهو تنفيذي ودبلوماسي، من خلال لجنة التنسيق والتنفيذ ومن خلال البعثة الخارجية.
ويبقى المهم في الذكريين، هو أن ثورة التحرير المجيدة، أثبتت عمليا للعالم أجمع، أنها ثورة شاملة عارمة، كما أظهرت أيضا، تلك العبقرية التي ميزت قيادات الثورة في شتى المجالات.
لقد ظهر التفوق الواضح لنخبة نوفمبر على الإدارة الاستعمارية وعلى جيشها ومخابراتها ودبلوماسيتها. وإذا قلنا إن كل ذلك بدأ مع تفجير الثورة في أول نوفمبر المجيد، فإن 20 أوت 1955 و1956 كانا لحظتين مؤسستين للنظام الثوري وتمثيله المنتظم ونظامه الجدي الراسخ.
لقد أوجدت نخبة جبهة التحرير أول شيء جيش تحرير يقوده مناضلون، وليس عسكريون محترفون، ووضعت له نظام أداء ونظام علاقات بين المجلس الوطني وبين لجنة التنسيق والتنفيذ ثم مع الحكومة المؤقتة، بين جبهة التحرير وبين جيش التحرير، وبين قمة هرم الثورة وقاعدتها، أي بين القيادة الثورية والجزائريين.
إن الذين يحاولون أحيانا إثارة الجدل حول «خلافات» في التقدير بين قيادات الثورة، خاصة في موضوع «...أولوية السياسي على العسكري وأولوية الداخل على الخارج...» فإنهم، في بعض الحالات، يثيرون ذلك بشكل مغرض؛ ذلك أن الجدل واختلافات التقدير لا يمكن أن تنسينا الأساسي، وهو أن الخلافات هي خلافات عادية بين المناضلين العاملين في حقلي العمل العسكري والسياسي، وهي خلافات تنوع وليست خلافات تناقض، بدليل أن الثورة ظلت تزداد قوة وظلت تحقق الانتصارات تلو الانتصارات.
إن آليات التنظيم التي وضعتها نخبة جبهة التحرير، في مؤتمر الصومام ثم في باقي المراحل اللاحقة، قد كانت مظفرة على جميع الأصعدة، أولا على صعيد تثوير الشعب الجزائري في جل مكوناته وتنظيم جهده الجماعي بشكل ثبت أنه فعال وناجح، وثانيا في إعطاء الثورة المجيدة الكثير من الجدية التي نالت احترام وتقدير جل دول العالم، حتى الغربية منها، وثالثا، في الاحتفاظ باستقلال القرار. فبالرغم من العلاقات المميزة مع عدد من البلدان العربية وغير العربية، لم تسقط الثورة، مؤسساتها ونخبتها، تحت تأثير أي دولة من الدول، وتمكنت من حماية قرارها السياسي وحماية دبلوماسيتها، من كل تبعية أو حتى تأثير، غير ما تقرره هي.
إن عبقرية زيغود يوسف ورفاقه في قيادة عملية سياسية ثورية، وعبقرية النخبة التي وضعت تنظيما للثورة ومؤسساتها، هي التي ينبغي عدم نسيانها وينبغي التذكير الدائم بها. لأن باقي تفاصيل أحداث ووقائع الثورة، في مختلف المراحل، يمكن أن «تشوش» على الأساسي، وهو هذه القدرة الخارقة للعادة في بناء نظام ثوري جدي وناجح، حقق الغاية التي ثار من أجلها وهي كسر النظام الكولونيالي واستعادة سيادة الدولة الجزائرية واستقلالها.
لهذا ولغيره، فإن الذكريين كان لهما الأثر الأبرز، على استمرار ثورة نوفمبر، وعلى الانتصار النهائي، وإخراج النخبة والشعب الجزائري كله من «الاستكانة» ومن الانسداد والعطل، ودفعه بشكل منظم نحو آفاق جديدة. تلك إنجازات نالت حينها تقدير واحترام الأصدقاء في كل مكان، ووفرت للثورة السند الواسع والدعم العملي عسكريا ودبلوماسيا.
لهذا، فالمهم والأساسي هو نتائج الذكريين السياسية والدبلوماسية والتنظيمية، وهو كيف تمكن هذا النظام الذي أبدعته نخبة جبهة التحرير، ولم تستورده ولم تنتظر أن يفرض عليها من أي جهة كانت، من تحقيق التفوق على أدوات الإدارة الاستعمارية، سياسيا وإعلاميا.
إن إرادة النخبة، وهي إرادة وطنية صادقة، صنعت التاريخ، بل شرف تاريخنا، وأعطتنا مرجعية، حبذا، لو تمسكت بها النخب اليوم، خاصة بمنهجيتها وقدرتها على حماية استقلال قرارها وعلى تحقيق انتصارات أكيدة وتعزيزها بشكل مضطرد حتى تحقيق الانتصار الأكبر.
لهذا ولغيره، علينا أن نمجد هؤلاء العباقرة الأخيار، وأن نحمي مشروعهم الوطني المؤسس للجزائر المعاصرة ودولتها ومؤسساتها، وأن نستمر على نهجهم في إتمام تجسيد هذا المشروع، لأنه التوافق الذي كان والتوافق الذي ينبغي أن يتواصل وأن يحمينا من كل فرقة ومن كل محاولات «الانتقام» من ثورة نوفمبر ومن نخبها الوطنية والثورية.
لهذا فكل بناء جديد ينبغي أن يقوم على مثل ثورة نوفمبر ومنهجها، لأن ذلك هو ضمان تحقيق مزيد من الانتصارات الأكيدة.
نحب الجزائر نحبها في الشهور كما أحبها أسلافنا في كل العصور.
«الشعب»

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19639

العدد 19639

الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
العدد 19638

العدد 19638

الإثنين 02 ديسمبر 2024
العدد 19637

العدد 19637

الأحد 01 ديسمبر 2024
العدد 19636

العدد 19636

السبت 30 نوفمبر 2024