الدولة مؤسسات، والدولة الناجحة هي تلك التي تُتقن نخبها جعل المؤسسات قوية وفاعلة وفعّالة، خاصة في إنفاذ القانون وفي تلبية طلبات المجتمع وتطلُّعاته وتنجز ما تَعِدُ به. تلك خلاصة عامة تترجم الغايات التي يسعى الرئيس عبد المجيد تبون تحقيقها عبر أسلوب حكم جديد، يقوم خاصة على تقنيات اتصال حديثة تحمل خطابا سياسيا عمليا، من دون أن يخلو من لحمة معرفية ومن خيارات أساسية قوامها وأساسها مبادئ أول نوفمبر وكل ميراث الحركة الوطنية.
انطلاقا من هذا، فإن ما أعلنه الرئيس تبون من قرارات في خطابه، مساء الخميس 18 فبراير، يأتي استمرارا لمسار سياسي يجسّد بعضا من التزاماته 54.
قبل الخطاب، كان هناك التشاور السياسي مع تيارات سياسية وقوى سياسية مختلفة في قراءتها للوضع وتقديراتها لبدائل الحلول، وهو أسلوب دأب عليه الرئيس منذ تقلده مهامه.
ولعل الغاية الأولى التي يمكن استشفافها من القرارات المُعلنة، تصميمه على تقوية مؤسسات الدولة وتعزيز مصداقيتها وفعاليتها، من ذلك الذهاب بسرعة لتحكيم المواطنين في اختيار من يمثّـلُهم ويعبّر عن طلباتهم وعن تطلّعاتهم، وفي الوقت نفسه تجسيد أحكام الدستور الجديد في بناء علاقة أخرى بين المؤسسات، لاسيما الفصل بين السلطات وقيام سلطة رقابية فعلية على عمل السلطة التنفيذية، ومن ذلك أيضا إنشاء مؤسسات جديدة، منها ما يسمى في العلوم السياسية «المؤسسات المحايدة» وتتعلق بالمؤسسات غير المعنية بالتدافع على السلطة والمصالح، أي قوى المجتمع المدني، حتى تساهم في بناء علاقة جديدة بين المجتمع والسلطات العمومية.
الخطاب حمل جديدا غير مسبوق في أسلوب إدارة الشأن العام، فالرئيس تبون هو أول رئيس يفضل التعامل الشفاف ويعلن عن تعديل وزاري قبل القيام به، يُطلع عليه القوى السياسية التي دعاها للحوار والتشاور وللاستماع لها ولتقديراتها، ويعلنُه للرأي العام فيجعل الإشاعة بلا وظيفة.
إن مزيج القرارات المعلنة من قبل الرئيس، الرفع من الأجر القاعدي وحلّ المجلس الشعبي الوطني وتنظيم انتخابات تشريعية مسبقة والعفو عن مسجونين، يجعلها، مجتمعةً، تشكّل رسالة سياسية واضحة، الرئيس في خدمة طلبات اجتماعية رفعها الحراك بقوة، لاسيما تقوية المؤسسة التشريعية بشرعية جديدة وغير مطعون فيها، والتخفيف من تراجع القدرة الشرائية الملموس، وتوفير عوامل تهدئة سياسية اجتماعية.
كما أن النقد الموجّه لبعض الوزارات وأداء مسؤوليها تلاقى مع تقييم الرئيس وهو ما جعله يقرّر إحداث تعديل، بعدما عمل على تهيئة الرأي العام لذلك عندما قال، قبل سفره الأخير لاستكمال العلاج، «الحكومة فيها وعليها»، وهنا أيضا نسجل أسلوب عمل وتعامل مع قضايا البلاد الأساسية، أسلوب الرئيس تبون يزداد وضوحا يوما بعد يوم ويُصبح مفهوما أكثر يوما بعد يوم.
إن ما يدوم ويثمر ليس الرجال، وإن كان الرجال وصدقهم وإرادتهم أمرا أساسياً في تاريخ كل المجتمعات البشرية، ما يدوم هو المؤسسات. واضح اليوم أن واحدة من مشكلات الدولة الجزائرية تأتي نوعية المؤسسات بمصطلحات فرانسيس فوكوياما، فقد عرفت الكثير منها، مثلها مثل الكثير من الإدارات، تدهورا خطيرا في أدائها ومن ثمة في مصداقيتها عند الناس.
استعادة الثقة في المؤسسات وفي النخب المختلفة، في السلطة وخارجها، غاية من الغايات المتوخّاة، وهو السبيل الذي لا مندوحة من السير فيه، من أجل ضمان استقرار راسخ وضمان مشاركة حقيقية، للكثير من مكونات المجتمع، في الديناميكيات التي يطلقها القرار السياسي.
إن الأساليب السلطوية، وأحيانا التسلّطية، أثبتت محدوديتها، وحتى مساوئها ومفاسدها، لهذا فتغيير أسلوب الحكم وتغيير العلاقات بين المؤسسات والعلاقة بين السلطة والناس هي طريق بناء الجزائر الجديدة.
وذلك مسار قائم اليوم يقوده إصرار وإرادة تأكدا ويتأكدان يوما بعد يوم.
«الشعب»