في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي، يبرز تحدٍ حيوي يتمثل في كيفية الحفاظ على كنوزنا المعرفية والتاريخية للأجيال القادمة. وفي الجزائر، حيث تزخر المكتبات والخزائن الخاصة بآلاف المخطوطات العربية، يكتسب مشروع رقمنة هذه الثروة أهمية قصوى. يسعى مخبر مخطوطات الحضارة الإسلامية في شمال إفريقيا بجامعة وهران إلى تحقيق هذه الغاية، ليتحوّل من مجرّد مركز بحثي إلى منارة تكنولوجية تضيء دروب الباحثين وتصون إرث الأجداد.
ويرى الأستاذ مولاي الحمد أن دراسة المخطوط العربي، لا تقتصر فقط على كونه مصدراً للمعلومات، بل هو “قطعة مادية تمكن الباحثين من اكتشاف جانب من تاريخ حضاري مازال مجهولًا”. وفي ظل وضعية المخطوطات العربية، سواء في المكتبات العامة أو الخاصة، باتت حمايتها وصونها أمراً ملحاً. هنا تأتي أهمية تكنولوجيا المعلومات بشكل عام والرقمنة على وجه الخصوص، التي تتيح “للمخطوطات في شكلها الرقمي”، مما يسهل الوصول إليها للباحثين حول العالم.
ويعرّف الكاتب الرقمنة بأنها “العملية التي يتم بمقتضاها تحويل البيانات إلى شكل رقمي، لمعالجتها بواسطة الحاسوب”. وفي سياق المخطوطات تحديداً، تعني “تحويل المخطوطات، من أشكالها التقليدية الورقية إلى أشكال رقمية، يمكن معالجتها بواسطة الحاسوب، بواسطة أجهزة الرقمنة، ينتج من خلال ذلك، مخطوطات رقمية”. ويوضّح المقال نوعين رئيسيين من عمليات الرقمنة: الأوّل هو “الرقمنة في شكل صورة”، الذي يتم فيه “حفظ الوثائق بشكل صورة، غير قابلة للتحوير أو التغيير”. هذه الطريقة تعدّ مناسبة “لرقمنة المجموعات الكبيرة من الكتب، لأن التكلفة باعتماد هذه الطريقة تكون منخفضة”، وتحافظ على “فكرة الكتاب الصفحة والتصفّح”. أما النوع الثاني فهو “الرقمنة في شكل نص”، الذي يسمح “باسترجاع المعلومات، مع إمكانية إدخال بعض التحويرات والتعديلات عليها، وذلك باستخدام برنامج خاص، بالتعرف الضوئي على الحروف OCR”.
تذليل الصعاب وتعزيز البحث العلمي
للرقمنة تأثير إيجابي كبير على البحث العلمي وتسهيل عمل الباحثين - يقول الباحث - فعندما تُحوّل المخطوطة إلى الشكل الرقمي، “يمكن للمرء استرجاعها في ثوان، بدلا من عدّة دقائق”. وهذا يذلل عقبة “تكاليف الوصول إلى تلك المكتبات التي غالبا ما تصدر فهارس ورقية ناقصة”. كما تتيح الرقمنة إمكانية “للعديد من الأشخاص قراءة المخطوطة نفسها أو رؤية الصورة نفسها في الوقت نفسه”، مما يخفّف الضغط على المخطوطات الأصلية، حيث “سيستريح القائمون على حفظ المخطوطات من عملية جلب وإعادة المخطوطات، في الوقت نفسه، وسيتفرغون لعملية فهرسة وتصنيف المخطوطات بدّقة تسمح باسترجاعها بسهولة”.
تتيح النسخ الرقمية للمخطوطات للباحثين “الاطلاع عليها عبر الانترنت دون أن يكونوا مضطرين للتنقل إلى مقر تواجدها”، مما يوفر المادة العلمية للمستفيدين. وتعدّ “إمكانية تقاسم المعلومات” من أبرز هذه الإيجابيات، حيث أن “عملية رقمنة المخطوطات وإتاحتها إما داخليا أو خارجيا، سوف تمكن عددا هائلا من الباحثين الاطلاع عليها إلكترونيا”. وهذا يؤدي إلى “الإتاحة الدائمة للمخطوطات”، متجاوزاً “الكثير من العقبات، في سبيل التواصل مع المستفيدين بواسطة النشر الالكتروني، والبريد الالكتروني، مما يوفر إمكانيات هائلة، دون إرهاق الميزانيات”. أخيراً، تتيح الرقمنة “القدرة على طباعة المعلومات منها عند الحاجة، وإصدار صور طبق الأصل عنها، وإمكانية التكامل مع الوسائل الأخرى الصورة، الصوت، الفيديو.. إلخ”.
مشروع الرقمنة في مخبر وهران
يشير الأستاذ مولاي الحمد إلى أن مخبر مخطوطات الحضارة الإسلامية في شمال إفريقيا بجامعة وهران “يحاول الوصول إلى مكتبة رقمية للمخطوطات، من خلال رقمنة المخطوطات التي توجد في مكتبة المخبر، بالإضافة إلى المخطوطات المرقمنة من خلال بعض الخزائن الشعبية”. ومع ذلك، يواجه المشروع “بعض الصعوبات والعراقيل”.
تتطلب عملية الرقمنة الناجحة موارد بشرية متكاملة، حيث “لا تتم بجهود فردية، وإنما تحتاج إلى تكاثف العديد من الجهود”. هذه الجهود تشمل “مسؤول المكتبة” للموافقة على المشروع والحصول على الدعم، و«المكتبيين” للأعمال الإدارية وتقدير التكلفة، و«المتخصصين لهم خبرة في رقمنة المخطوطات” لتحديد المخطوطات المرقمنة واختيار المعدات وتكوين قاعدة البيانات ونشرها. كما يلعب “الباحثون” دورًا في تحقيق ومراجعة وفهرسة المخطوطات، إضافة إلى دور “المنظمات الدولية” في تقديم المساعدات التقنية. كما تحتاج الرقمنة إلى “غلاف مالي، يكفي لإعداد المشروع بنجاح، هذا بغض النظر عن تخصيص مبالغ مالية، لصيانة المشروع ومراقبة المنتوج المرقمن”. ويقدّم الكاتب تقديرًا لتكلفة رقمنة 100 مخطوط (ما يعادل 2000 صورة) بمبلغ إجمالي تقديري يبلغ 38584 دولارًا أمريكيًا.
على صعيد التجهيزات، فإن “الماسحات الضوئية (scanner) تعتبر رمز عملية الرقمنة”. إذ يجب أن يكون الماسح الضوئي “من نوعية جيّدة، لكي يعطي صور طبق الأصل، عن المخطوطات سواء كانت مكتوبة على الورق، أو الرق لإظهار صفاتها المادية، بدقة متناهية”. كما يجب أن يتوفر على كاميرا “لها صفات، ذات حساسية خاصة للألوان تصدر كميات قليلة من الأشعة فوق البنفسجية، لكي لا تؤثر سلبا على المخطوطات الأصلية” ، وتحتوي على مصفاة لتعطي “نسخة طبق الأصل عن الألوان الأصلية” ، وأن تكون “لها، صفات ذات قدرة فائقة للتحكم لكي يتم من خلالها، التركيز على الصفحة كاملة لإظهار كتابات الحواشي”.
وعلى الرغم من الاهتمام المتزايد بالمخطوطات في الجزائر، والذي تجلى في “الملتقيات الوطنية والدولية في مجال المخطوطات” وتهافت المؤسسات التي تهتم بها، إلا أن “هناك مجموعة من الصعوبات التقنية، والاجتماعية، والاقتصادية والجغرافية والقانونية والمؤسساتية تعترض مشروع الرقمنة بالمخبر”. ما دعا مولاي الحمد، إلى “تسليط الضوء على مختلف الصعوبات بغرض الوصول إلى حلول لها”.
يمثل مشروع رقمنة المخطوطات في جامعة وهران خطوة رائدة نحو صون ذاكرة الأمة وتيسير سبل البحث العلمي، فتذليل الصعاب التي تواجهه سيفتح آفاقًا أرحب لخدمة التراث الإسلامي العريق وتنميته.