ثـــــــورة نــــــوفــــــمـــــــبر ســــــتــــــبــــقــــى ملــــــــهـــــــمــــــة الـــــســـــيـــــنـــــمـــــائـــــيـــــين في كــــــلّ زمـــــــان ومــــــكــــــان
أكّد الباحث والسينمائي ومدير المعهد الوطني العالي للسينما بالقليعة، الياس بوخموشة أنّه تمّ تخصيص أغلفة مالية كبيرة لدعم الأفلام الثورية، بداية من سنة 2025 حتى العام 2027، تزامنا مع ذكرى سبعينية الثورة التحريرية.
وأضاف بوخموشة في حوار مع “ الشعب” أنّ الجزائر لم تكن نموذجا في ثورتها فقط، بل أبدعت في نقل رسالتها من خلال السينما. مشيرا إلى قدرة السينما الجزائرية على ابتكار أدواتها واستقطاب شخصيات حتى من الطرف الفرنسي، ممّن اقتنعوا بالانضمام إلى الثورة بعد رؤية عدالة قضيتها.
ويرى بوخموشة بأنّ الثورة الجزائرية تظلّ مادة خام تلهم السينمائيين لأعمال قد تدخل الجماهير إلى قاعات العرض وتصل إلى العالمية بحصد الجوائز الكبرى.
الشعب: أولا كباحث وسينمائي، كيف ترى العلاقة بين الثورة الجزائرية وبدايات السينما في الجزائر، وكيف ساهمت السينما الجزائرية أثناء الثورة في فضح جرائم المستعمر وإبراز صورة المجاهدين والمقاومين؟
الياس بوخموشة: العلاقة بين الثورة والسينما في الجزائر هي علاقة منشأ، فهناك دولتان في العالم العربي بدأت فيهما السينما أثناء الثورة، وهما السينما الجزائرية والسينما الفلسطينية. هذان البلدان العربيان الوحيدان اللذان بدأت فيهما السينما مع الثورة واندلعت من خلالها. وفي الجزائر، تطوّرت هذه السينما التي كانت في البداية عبارة عن أفلام وثائقية تسعى إلى فضح وتعرية الوجه الحقيقي للمستعمر وكشف جرائمه، وفي المقابل، كانت تبين صورة المقاومين والمجاهدين الذين كانوا يعملون في صف واحد ضدّ هذا الاستعمار.
وبطبيعة الحال، لم تكن هذه السينما وهذا الشكل من السينما شكلا مختلفا عن الأشكال التي وجدناها سابقا ونراها حتى الآن في العالم، فيما يعرف بالسينما المناضلة والسينما المكافحة، التي تمثل سينما الأقليات وسينما المقاومين ضدّ كلّ أشكال الاستبداد في العالم.
فقد كانت الجزائر نموذجا يحتذى به في ثورتها وسينماها المتميّزة، حيث نجحت في ابتكار أدواتها وإقناع الآخرين، حتى من كانوا ينتمون إلى صفوف العدو الفرنسي، بالانضمام إلى الثورة الجزائرية. برزت أسماء مثل “بيار كليمون” و«روني فوتييه” وغيرهم، ممّن آمنوا بحمل الكاميرا والنضال جنبا إلى جنب مع الثورة الجزائرية ضدّ الاستعمار الفرنسي.
ما هي أهمية فهم عالم الصورة وإتقان أدوات صناعة الصورة في ظلّ التغيرات الثقافية الحالية؟
هناك متغيرات متعدّدة في الثقافة، متغيّرات على مستوى البناء الحضاري الذي يمكن القول إلى ذروته وصلت مع التكنولوجيات المعاصرة ومع تطوّرات الصورة وكيفية عرضها. من الشاشة الكبيرة وصلت الآن إلى الشاشة الصغيرة والصغيرة جدّا الموجودة بين أيدينا في الهاتف النقال. وبالتالي أصبح التعامل مع الصورة أمرا خطيرا جدّا، حيث تمحو الصورة الحالية أختها، فنشاهد حدثا ثم يمحو هذا الحدث الذي يليه وهكذا. لذا نحن بحاجة إلى فهم عالم الصورة أولا، وإتقان أدوات صناعة الصورة ثانيا، والشروع في إنتاج هذه الصورة التي يجب أن تعبر عنا، ولا ندع الآخر يصورنا ويعبر عمّا يريد من خلال صورتنا التي يصنعها بأدواته وإمكاناته.
لذلك جاءت أفكار متعدّدة في العالم الثالث، وفي الدول السائرة نحو التقدّم مثل الجزائر، بفتح مجال التكوين في صناعة الصورة، فعلى غرار تلك الدول، بادرت الجزائر في السنوات الأخيرة بالانفتاح على التكوين، ومن بين المساحات التي فتحتها للتكوين ما نشاهده اليوم في ولاية الجلفة، حيث ينفتح أهلها الكرماء على “بانوراما سينما الثورة”، التي من خلالها يتكوّن مجموعة من الشباب والشابات في كتابة السيناريو، وفي الصورة، والصوت، والمونتاج. وهذه الورشات المتعدّدة نأمل أن تتكرر وتصبح عادة وتقليدا، لنكون من خلالها رهطا من السينمائيين من ولاية الجلفة الذين يتقنون أدوات صناعة الصورة السينمائية، ويصنعون أفلاما تستطيع أن تصل إلى المهرجانات المحلية والوطنية والدولية، وتنافس الصورة التي يسعى الآخر لتقويضنا بها في هذا العالم المتوحّش الذي لم يعد يرحم الضعفاء في كلّ المجالات، لاسيما الاقتصادية والثقافية.
وكيف يمكن استخدام أدوات السينما الحديثة للتأثير على الشباب ونقل رسالة الثورة الجزائرية؟
لكلّ جيل أدواته في الخطاب وطرقه في تلقي الخطابات الأخرى، ولكلّ جيل أيضا أسلوبه في الاستماع والمشاهدة، أعتقد أنّ هذا الجيل يختلف عن الأجيال السابقة بحكم ما سبق ممّا تحدثنا عنه من هذه التكنولوجيا المتكاثرة في صورها عبر وسائط مختلفة، مثل التلفزيون والإنترنت والسينما وغيرها، وبالتالي، كي نصل إلى هؤلاء الشباب ونوصل إليهم رسالة الثورة الجزائرية، أعتقد أنّه يجب أن نشتغل على أدوات السينما والفضاءات التي يتواجدون فيها، مثل الإنترنت وغيرها، لإحضارهم لهذه المواضيع، لأنّ موضوع الثورة متشاكل وبطبيعة الحال يأخذ عدّة أبعاد، ويمكن أن يؤثر في اللاحق كما أثر في السابق، ويؤثر أيضا في الحاضر.
يمكن القول إنّ التأثير في شبابنا من خلال الأفلام التي نصنعها يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ما يشاهدونه هم وكيف يتفاعلون معه ويتأثرون به. ومن هنا نستطيع تحسين الصورة التي نقدّمها لهم.
يمكن اعتبار السينما والصوت والصورة والمونتاج كعلبة، بينما المحتوى هو الثورة..فهذه العلبة تتزيّن بزينة العصر، فإذا كانت العلبة مزيّنة بزينة قديمة جدّا، قد لا نستفيد من محتوى هذه العلبة، رغم أنّه قد تكون جائزة عظيمة وجميلة، لكن إذا زيّنا هذه العلبة، يمكن أن تصل لمستوى المحتوى، وبالتالي تستطيع أن توصل هذا المحتوى بجاذبية وجمالية وتقبّل.
قلت بأنّ النقد السينمائي يمكن أن يسهم في تطوير الفيلم السينمائي الذي يتطرّق للثورة الجزائرية، كيف ذلك؟
الجامعات الجزائرية عملت على إدخال مقياس النقد السينمائي في كثير من أقسامها..أقسام الفنون..وأيضا هناك اهتمام كبير للصحافة في الاشتغال على النقد السينمائي، يمكن أن يسهم النقد السينمائي في إثراء وتطوير الفيلم السينمائي الثوري الذي يتطرق للثورة الجزائرية عندما يمارس الناقد نقده بكلّ مسؤولية، وكي يصل إلى هذا المستوى يجب أن يضع نصب عينيه أنّ مهمته سوف تساعد في تطوير هذه الأفلام من خلال تقديمه قراءة تقنية تارة، وقراءة في محتوى الأفلام تارة أخرى..يبقى الإشكال والعائق هنا، هو كيف تصل هذه القراءات النقدية للمهنيين وللمشاهدين..ولإيصال هذه القراءات النقدية نحتاج إلى مجلات الكترونية ومجلات ورقية ومجلات مختلفة في وسائط مختلفة، هذه المجلات كلّها يمكن أن تثري صناعة الأفلام السينمائية الثورية..
وما يمكن أن يرقى بنا إلى مخاطبة الآخرين هو الاهتمام بجانبين أساسيين، أولا جمالية الفيلم السينمائي: يجب إعادة النظر في جمالية الفيلم السينمائي المعاصر وإدخال هذه الجماليات في أفلام الثورة ولا أقصد هنا الصوت والصورة..أقصد فلسفة الجمال، مراجعة ذوقنا الجمالي لكي ينسجم مع ما هو مطلوب في السينما اليوم.
كذلك من ناحية المحتوى، يجب مراعاة أو الأخذ في الاعتبار بأنّنا لسنا وحدنا في العالم، فهناك عدّة خطابات وقراءات بمستويات مختلفة، ويجب على السينمائي وخصوصا كاتب السيناريو أن يستوعب هذه القراءات وهذه الفضاءات أو المساحات الفكرية والتحدّيات والرهانات الفكرية العالمية، والتي منها مثلا الغيرية أو الانفتاح على الآخر أو الانغلاق على الذات، تعزيز مكامن الهوية الوطنية، فما معنى أنّني أنا ولست الآخر؟ وما معنى أنّ الآخر يحترمني ويقبل بي؟ أو أنّه ينتقص مني ويراني غريبا؟ هل بالفعل خرجنا من فترة الكولونيالية إلى الكولونيالية الجديدة؟ هذه أسئلة تحدّد لنا هذا الجمهور الذي يشاهد أفلامنا في الخارج، ومن خلال الإجابة عن هذه الأسئلة سوف نستطيع أن نجيب عن سؤال المحتوى في الفيلم السينمائي للثورة الجزائرية.
ما هي أهداف تأسيس المعهد الوطني العالي للسينما في الجزائر، وما الاختصاصات التي يقدّمها؟
تنفيذا لبرنامج رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبّون، قامت وزارة الثقافة والفنون بتأسيس المعهد الوطني العالي للسينما وفتح أبوابه ابتداء من 1 أكتوبر 2024. ليحتضن ثلّة من الشابات والشباب الذين تكونوا في ثانوية الفنون علي معاشي اختصاص سينما، حيث كلّ من يتخصّص في دراسة السينما في الثانوية له الحقّ أن يلتحق بدون أيّ مسابقة بالمعهد الوطني العالي للسينما. أما الطلبة من حاملي شهادة البكالوريا من اختصاصات أخرى علمية وأدبية، يستطيعون الالتحاق بهذا المعهد شريطة أن يحصلوا على معدل مناسب ويجتازوا امتحان شفهي ويقدّمون سيرهم الذاتية وربما يكون لهم الحظ في الالتحاق بهذا المعهد.
الآن المعهد يحتضن 40 طالبا وطالبة، وهو متواجد بالقليعة، مرفق جديد أعدّ لاستضافة أنشطة التكوين السينمائي. هؤلاء الطلبة كلّهم من الأوائل من ناحية المعدلات في البكالوريا. وقد حاولنا أن نقلّل عدد الطلبة لأننا نشتغل ونبحث عن الجودة، لذلك نحن صارمون نوعا ما في الانتقاء، وهذا طبعا لصالح التكوين، وصرامتنا هذه تجعلنا نأخذ الطلبة المجدّين.
نكوّن الطلبة في اختصاص الصورة واختصاص الصوت والمونتاج، اختصاص السيناريو ومعه الإخراج، اختصاص الإنتاج ومعه التوزيع واستغلال القاعات. إذن هي ثلاث أقسام: قسم الصورة والصوت، قسم السيناريو، وقسم الإنتاج. وبدأنا بهذه الأقسام قبل أن ننفتح على الأقسام الأخرى لسببين: السبب الأول لأنّها هي الأساس في صناعة الصورة السينمائية، ثانيا حسب احتياج السوق أو حسب احتياج الوسط السينمائي، فالسينمائيون الآن يحتاجون إلى مصوّرين محترفين، ملتقطي الصوت محترفين، كتّاب سيناريو محترفين، ومنتجين محترفين. وهذا ما ينقصنا وينقص السوق، لذلك بدأت المبادرة بهذه المهن الأساسية التي سوف تتفرّع لاحقا حسب نظام (LMD)، لأنّنا خاضعين لهذا النظام أو تحت وصاية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.
فهذا معهد عال يسلّم شهادات ذات طابع مهني علمي أيضا، وبالتالي يستطيعون الانفتاح لاحقا على الماستر، ثم هناك فئة منهم تميل إلى البحث العلمي يمكنها أن تتجه نحو الدكتوراه، والبقية يتجهون إلى ممارسة المهن السينمائية سالفة الذكر.
وكيف يساهم المعهد الوطني للسينما في تطوير ودعم سينما الثورة؟ وهل هناك برامج أو مبادرات خاصّة لتشجيع إنتاج أفلام عن الثورة التحريرية؟
لا يجب أن ننسى بأنّ المعهد الوطني العالي للسينما في الجزائر، سمي بـ«محمد لخضر حمينة” ولا ننسى أنّ هذا الأخير هو السينمائي العربي الوحيد الحاصل على السعفة الذهبية سنة 1975، وبالتالي الفيلم العربي الوحيد الحاصل على السعفة الذهبية كان فيلم ثورة، ومحمد لخضر حمينة عندما حصل على جائزته حصل عليها كجائزة دولية عالمية في مهرجان دولي عالمي مشهور من صنف “أ”، وحصل عليها بفيلم عن الثورة الجزائرية..وبالتالي الثورة الجزائرية كانت ومازالت وستبقى دائما مادة خام للاشتغال عليها بأفلام يمكن أن نصل من خلالها إلى إقناع الجمهور لدخول القاعات، ويمكن أن نصل من خلالها إلى الجوائز الدولية الكبرى، فقط هذا المعهد يريد أن يكون وفيا لهذا الإرث ويحاول أن يصنع الجودة في صناعة هذا النوع من الأفلام..
كما أنّ وزارة الثقافة والفنون منفتحة على إنتاج أفلام عن الثورة الجزائرية، فهي تقدّم دعما سنويا خاصّا للأفلام، من بينها أفلام الثورة الجزائرية، إلى وزارة المجاهدين التي لها مؤسّسات فرعية تدعم إنتاج الأفلام السينمائية الوثائقية الروائية عن الثورة، ولا ننسى أنّنا في ذكرى مهمّة جدّا، ذكرى سبعينية الثورة الجزائرية، حيث خصّصت أظرفة مالية كبيرة جدّا من طرف الوزارات، من بينها وزارة المجاهدين التي سوف تدعم الكثير من الأفلام الثورية خلال هذه السنة، وسوف نشهد خلال سنوات 2025 و2026 و2027 كمّا هائلا من الأفلام التي سوف يتمّ دعمها وإنتاجها خلال التظاهرات القادمة لذكرى الثورة الجزائرية.