تأسيس مدارس فكرية في الجزائر حلم نتمنّاه
يرى الناقد والأكاديمي عبد القادر فيدوح، أن مفهوم المدارس الفكرية غائب عن الواقع الجزائري قبل العربي. وأشار إلى أن تأسيس مدارس فكرية في الجزائر «حلم نتمناه»، في ظل إمكانية وجود عوامل فكرية مشتركة بين المفكرين والمثقفين، توحد رؤيتهم.
قال الأكاديمي عبد القادر فيدوح في حوار لـ «الشعب ويكاند»، إنه بالإمكان تأسيس وعي فكري ينتمي إلى منظومة معرفية بجميع أطيافها، بما في ذلك ما يجري في الحياة اليومية، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا. وكشف عن وجود تحديات كثيرة تواجه المفكر الجزائري، يجب عليه الإسراع في وضع حد لإهمال الهوية الفكرية والثقافية حتى لا يصبها العجز.
عبد القادر فيدوح، ناقد وأكاديمي من مواليد 1948 بمدينة معسكر في الجزائر، عمل لسنواتٍ طويلة في «جامعة وهران»، و»جامعة الفاتح» بليبيا، و»جامعة البحرين»، ثم في «جامعة قطر». يهتمّ في دراساته بالنظرية النقدية المعاصرة، وبنظرية السرد، والدراسات السيميائية، له ما يزيد على خمسين كتابًا، كان آخر إصداراته (التاريخ والسياسة في الرواية الجزائرية الصادر عن دار ميم – الجزائر 2022). وقد وجهنا إليه هذه الأسئلة...
هل يمكن الحديث عن وجود فكر جزائري؟ هل يمكن تمييزه عن الفكر العربي أو الفكر الإسلامي؟
وثبًا على الجهود المبذولة لمفهوم الهوية الفكرية من المفكرين والفلاسفة، كل بحسب رغبته في الدفاع عن انتمائه، أو طريقة تناوله لهذا الموضوع العسير منذ مقولة سقراط الفلسفية الشهيرة (اعرف نفسك بنفسك)، ومنذ طرح سؤال الفكر اليوناني عن ماهية الوجود، وتحديد الحق على أنه (ما يكون هو ذاته بما هو ذاته)، ومرورا بالصورة الروحية التي يقبض عليها الإنسان لمعرفة ذات الجلال في ذاته، من خلال القول المنسوب إلى الحديث: «من عرف نفسه عرف ربه»، وصولا إلى البحث عن هوية الذات في الفلسفة الحديثة التي أجملنا رؤيتها في مقولة هيدغر Hei degger: «كيف يجب أن نكون نحن أنفسنا، والحال أننا لسنا نحن أنفسنا؟ وكيف يمكن لنا أن نكون أنفسنا، دون أن نعرف من نكون، حتى نكون على يقين من أننا نحن الذين نكون».
وتجاوزا لتلك الانزياحات العديدة التي تمر بها الدراسات في البحث عن خصوصية الهوية الفكرية، انطلاقا من «(هو) نحوي إلى (هو) منطقي، إلى (هو هو) أنطولوجي، ومن ثم إلى (هوية) أنطولوجية في الفلسفة العربية الكلاسيكية، إلى (هوية) أنثروبولوجية وثقافية في نظام الخطاب السوسيولوجي - التاريخي - اللاهوتي المعاصر»، كما يرى فتحي المسكيني. وثبًا على كل ذلك، فإن رهاننا الفكري في هذا المقام ينبني على تناول موضوع الفكر الإنساني عامة والفكر العربي على وجه الخصوص من منظور إمكان معرفة الذات، بوصفها مصدرًا للتواصل مع الوجود في جميع أشكاله، وهو ما ينبغي النظر إليه.
والحال، هذه إذا كانت الهوية الفكرية الجزائرية جزءا لا يتجزأ من المنظومة الفكرية العربية؛ بالمنظور الذي رسمه الإرث الفكري عبر التاريخ؟ فإن الأمر سيان في اعتقادي، ما يعني أن فكرنا العربي مازال يبحث في إمكانية نقل هذا الوعي من معناه الأنطولوجي إلى معناه الأنثروبولوجي الثقافي، والدراسات الثقافية على وجه التحديد.
ولعل هذا ما يدعونا إلى مطلب البحث في الكيفية التي من شأنها أن ننمي بها فكرنا وفق ما تستجيب له المنظومة الفكرية بوجه عام، بكل ما يحمله المعنى من فضاء معرفي يتناسب مع راهن المسار الفكري، والهم الذاتي، والمعطى الاستشرافي؛ لذا على مفكرينا أن يعتنوا بكل ما من شأنه أن يعزز مكانتنا الفكرية، وإلى البحث عن مدى ما يمكن أن يحرك فضاءنا من هواجسه، بوصفها منبعًا للرؤيا، وخوضا في التجربة.
- وهل توجد مدارس فكرية في الجزائر؟
هذا حلم نتمناه، في ظل إمكانية وجود عوامل فكرية مشتركة بين المفكرين والمثقفين، توحد رؤيتهم، لكن واقع الحال يقول غير ذلك؛ بالنظر إلى ما هو عليه الوضع؛ من حيث إن العقل العربي بوجه عام يعيش حالة تمزق، وتبعية خانقة، وفي كلتا الحالين يعيش الوعي العربي أزمة تأسيس فكري؛ عساه يجد له ما يشفع له بنهوض ناضج، على غرار ما كان عليه واقعنا الفكري، إبان مرحلة الازدهار مع بداية الحضارة العربية الإسلامية، التي كانت تنعم بالتوسع في الحرية المترامية الأطراف، التي سمحت للمفكرين – آنذاك - بأن يبنوا فكرا موازيا لبناء الحضارة في حينها؛ على عكس ما هو عليه راهن الفكر الذي بات يخضع لوازع التابع.
- كيف ترى واقع الفكر في الجزائر؟ وما مدى أهميته؟
عطفًا على ما سبق ذكره، فإن هناك عوالم كثيرة تغيرت مع إطلالة مفاهيم ما بعد الحداثة؛ بصيغها المتعددة الأوجه - في جميع المجالات - نظير مسوغات ضغوط الفكر الغربي، وتفاعله مع مجالات ثقافة الأطراف، وبموجب مؤثراته على وعينا المعرفي، وعلى القوى الاجتماعية، فيما لا تتجاوز منظور الاقتفاء إلى نسق الانجلاء، واستبدال الطرح التفاعلي بالسؤال (الكانطي) التنويري، الذي يتطلع إلى الشيء، ويتساءل عن الوجود بأسمى معانيه، بما في ذلك طرح المحمول في فهم المراد المطلق برؤية التابع - وإبداله - بالطرح الفعلي في سؤاله (السقراطي) الداعي إلى بلوغ حقيقة الموضوع.
وهما سؤالان يكملان بعضهما في العمق، أحدهما يبحث في نسيج التخلق والتألق، في حين يبحث الثاني في مرجعية تثبت المعرفة؛ وعلى هذا النحو يمكن تأسيس وعي فكري ينتمي إلى منظومة معرفية بجميع أطيافها، بما في ذلك ما يجري في الحياة اليومية، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.
وما بين هذا وذاك يغيب كلية مفهوم المدارس الفكرية في واقعنا الجزائري قبل العربي.
- في نظرك ما هي أهم التحدّيات التي تواجه المفكر الجزائري؟
يتراءى لي أن هناك تحدياتٍ كثيرةً تواجه العقل الجزائري في منظوره الفكري، لعل أول هذه التحديات ما يتبدى من ارتباك مفتعل في المنظومة التعليمية، التي كانت في مرحلة ما نتيجة تشويه متعمَّد، شنتها بعض العقول المحسوبة على الفكر التنويري (التضليلي).
وإذا لم نسرع في وضع حد لإهمال هويتنا الفكرية والثقافية سوف يصيبنا العجز، وليس لنا أمام هذا الوضع إلا «النفخ على الجمرة كي لا تنطفئ»، وإلا سوف نسهم في إخفاق المبادرات المجدية.