أستاذ العلوم السياسية مبروك كاهي لـ «الشعب ويكاند»:

خارطة التّحالفات المستقبلية أساسها المصلحة

حوار: فضيلة بودريش

التّاريخ أثبت محدودية فعالية العقوبات الاقتصادية

 قدّم الدّكتور مبروك كاهي أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، تحليلا استشرافيا حول الحرب الرّوسية الأوكرانية، مستعرضا في قراءته للتّطوّرات أبعاد وسيناريوهات الأزمة، وتأثيراتها على الأمدين المتوسّط والطّويل، خاصة على صعيد تشكل بنية لبروز نظام دولي جديد، وتداعيات الحرب على أوروبا والعالم، كما قلّل من مدى فعالية العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا كونها تفرض عليها خارج القانون، أي بعيدا عن موافقة مجلس الأمن الدولي، ولأنّ التّجربة التاريخية تؤكّد ضعف تأثيرها على الدول المعاقبة.

-  الشعب ويكاند: هل حان الوقت للحديث عن ظهور بوادر نظام دولي جديد، بدأت تتشكّل ملامحه عقب اندلاع الحرب الرّوسية - الأوكرانية؟
 الدكتور مبروك كاهي: في بادئ الأمر يجب الوقوف على حقيقة أنّ النظام الدولي هو الثابت، والمتغير هو الدول التي تتشكّل ضمن هذا النظام، وفق السيطرة على الثروة والتحكم فيها وبناء أحلاف إستراتيجية، إضافة إلى تسيير المنافذ والممرات الإستراتيجية سواء البحرية أو البرية وحتى الجوية، وتاريخيا لم يعرف الاستقرار فهناك دول تحافظ على مكانتها إلى وقت ما، وأخرى تتراجع وتفقد أدوات السيطرة، والحرب الروسية - الأوكرانية، تمثّل أحد التّجاذبات التي يعرفها النّظام، وإعادة التمركز للدول إمّا باستعادة مراكز فقدتها في مرحلة ما، أو البحث عن مراكز جديدة تضمن لها مكانا ضمن هذا النظام الدولي تتحكّم من خلاله في دواليب اللعبة بما يحفظ مصالحها وكدولة فاعلة في العالم.

السّيطرة على المنافذ الإستراتيجية

-  إلى أي مدى يمكن التّأكيد بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية قريبة من اقتسام زعامتها مع أقطاب جديدة صاعدة؟
 من وجهة نظري إنّ الانفراد بزعامة العالم لم يتحقّق عبر التاريخ البشري، صحيح أنّ الولايات المتحدة الأمريكية هيمنت على الساحة الدولية في إحدى الفترات لاسيما بعد انهيار المعسكر الشرقي، لكن يمكن اعتبار الأمر لحظة تفوّق وليس زعامة، وهي لحظة ظرفية سرعان ما تراجعت، فالولايات المتحدة الأمريكية ومن خلال التجربة أدركت صعوبة تحقيق الزّعامة الدولية، كما أدركت أيضا أنّ هذه الزّعامة مكلّفة وتستنزف مواردها المالية والبشرية وحتى القيمية والأخلاقية، وتجلّى هذا الأمر بوضوح مع مطلع الألفية الجديدة، بحيث سابقا وبعد أن كان النّظام الدولي يتصارع فيه قطبان الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، وبعد انهيار الأخير لم يتأخّر الأمر طويلا ليفرز ثلاث قوى جديدة الولايات المتحدة الأمريكية – روسيا – الصين، مع وجود عامل تفوّق يحدّده التحكم في الثروة والسيطرة على المنافذ الإستراتيجية وقوة الأحلاف ومتانتها.

- كيف سيكون شكل التّحالفات الإستراتيجية العالمية مستقبلا؟
 إنّ التّحالفات الإستراتيجية المستقبلية تتحكّم فيها عدة عوامل، أبرزها المصلحة فالدول التي تشترك في ذات المصلحة سوف تعمد إلى إقامة تحالف استراتيجي مشترك من أجل الحفاظ على المصلحة التي تجمعها، أمّا المحدد الثاني فهو مرتبط بالعنصر التاريخي والحضاري، فالدول التي لها تاريخ مشترك وتتقاطع شعوبها حضاريا سوف تعمد إلى التحالف حفاظا على الإرث المشترك وتعزيز الرّوابط بين شعوبها، أمّا المحدد الثالث فتتحكّم فيه القوى الكبرى، والتي تمكّنت من حجز مكان أعلى في النظام الدولي، وتتقاسم العالم فيما بينها وفق تفاهمات مع نظيرتها من القوى الكبرى الأخرى، أي تحديد مراكز النفوذ.

 الناتو مطالب بتعديل قانونه لاستمراره

-  هل يمكن رؤية حلف عسكري يكون ندّا للناتو خلال السّنوات المقبلة؟
^^ قبل ذلك لا بد من مناقشة مستقبل بقاء هذا الحلف، إذ أصبح مهدّدا لبقاء الدول التي تنتمي إليه بعد أن وجد من أجل حمايتها، ووضعية الدول التي ترغب للانضمام إلى هذا الحلف، لأنّ هناك من يعاني من مشكل الحركات الانفصالية والنزاع الحدودي مع دول أخرى، وهو ما يتعارض مع ميثاق الحلف الذي ينص في أحد مواده أنّ شرط الانضمام أن تكون الدولة كاملة السيادة، حتى لا تورّط الحلف في نزاعها، كذلك الأمن الجماعي لدول الحلف وتورّط بعض أعضائه في نزاعات أو مناوشات تجر الحلف إلى حرب هو في غنى عنها، عدم التزام بعض أعضائه بدفع المستحقات المالية المقدرة بحوالي 2 % من ميزانية الدولة، وهو ما صرّح به الرئيس الأمريكي السابق ترامب حول جدوى بقاء الحلف، في حين أن بعض الدول لا تلتزم بدفع المستحقات المالية، وعليه فإنّ الحلف لضمان بقائه واستمراريته مطالب بمراجعة قانونه الأساسي وتعديله وفق التطورات الحالية والتنبؤات المستقبلية، أما الأحلاف المنافسة شخصيا فأستبعد الأمر، وأن تحل محل الحلف المصلحة الظرفية سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو حتى عسكرية، لتجاوز عقبة ما قبل أن يتم الجلوس لطاولة المفاوضات لإنهاء الخلاف.

 السّيناريو الثاني الأقرب للتّجسيد

-  ما هي السّيناريوهات المتوقّعة لنهاية الحرب الأقرب إلى التجسيد على أرض الواقع، بمعنى مآل الأزمة الأوكرانية؟
 يجدر التّذكير أوّلا أنّ أوكرانيا هي الحلقة الأضعف في هذا الصّراع، وأنّ الصّراع الحقيقي هو بين روسيا والغرب الذي يدعم أوكرانيا بشتى الطرق والوسائل ما عدا المواجهة العسكرية النظامية المباشرة، والنقطة الثانية هي أنّ جميع السيناريوهات ممكنة ومتاحة، فالسيناريو الأول نجاح العملية العسكرية الروسية، وضم أوكرانيا للاتحاد الفديرالي الروسي كما حصل مع الشيشان سابقا، ومع شبه جزيرة القرم مؤخرا عبر استفتاء قد يكون شكليا، وهذا الضم قد يكون ظرفيا وكورقة ضغط قوية على الغرب، وجعل الدول الأوروبية الشرقية الأخرى تعيد حساباتها، أما السيناريو الثاني استجابة قادة أوكرانيا للمطالب الروسية باعترافهم بروسية شبه جزيرة القرم والاعتراف بجمهوريتي الدونباس، وأن تكون أوكرانيا دولة حيادية منزوعة السلاح، وتفقد مفاعلاتها النووية وتنقل إلى روسيا مع بقاء القوات الروسية على الأراضي الأوكرانية، والسيناريو الثالث فشل العملية العسكرية الروسية والوصول إلى اتفاق بين الطرفين، لكن يبقى السيناريو الثاني هو الأقرب مع وجود امكانية تعديلات في بعض تفاصيله لاسيما بقاء القوات الروسية على الأراضي الأوكرانية.

 العقوبات خارج القانون

-  هل ستنجح روسيا في التّغلّب على العقوبات الاقتصادية؟ وما مدى تأثير ما يجري على الاقتصاد العالمي؟
 فيما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية، فإنّ التجربة التاريخية أثبتت محدودية جدوى هذا الإجراء، بل العديد من الدول تمكّنت من التكيف معه، وحفّزها لاتخاذ إجراءات بديلة من أجل التخفيف من هذه العقوبات وضمان استمرارية عملها، فضلا عن قدرتها على التحايل وعدم التزام بعض الدول الغربية بهذه العقوبات حفاظا على مصالحها، فالنظام العراقي السابق بقيادة صدام حسين تعرّض لعقوبات وحصار اقتصادي خانق، ومع ذلك بقي صامدا ولم ينهار إلا بعد الغزو الأمريكي مطلع القرن الحالي، أيضا إيران تمكّنت من التكيف مع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من الغرب، واستطاعت الوصول إلى بدائل تضمن استمرارية أداء مؤسساتها، فضلا عن دول أخرى مثل كوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية، أما روسيا فالأمر مختلف تماما فهي دولة عضو دائم في مجلس الأمن الدولي وتملك حق الفيتو، وهو ما يعني أن العقوبات الاقتصادية لا تحمل الطابع الأممي، وتبقى خارج القانون مما يتيح لروسيا التحرك والضغط والالتفاف عليها، دون الإغفال أن روسيا دولة فاعلة في النظام، كما أنّ المكاسب التي سوف تجنيها روسيا في حال نجاح عمليتها العسكرية وتحقيق أهدافها لا تقارن بالعقوبات المفروضة. ومن جهة ثانية العقوبات يمكن وصفها بالمحتشمة، فهي ضد أشخاص ومؤسّسات وليس ضد روسيا كدولة كما الحال مع إيران وفنزويلا وغيرها، ومن جهة أخرى فالعقوبات الاقتصادية هي عقوبات ظرفية تنتهي مع انتهاء العملية العسكرية، ففي نهاية الأمر الجميع سيجلس لطاولة المفاوضات، وقبل الوصول إلى الطاولة يحاول كل طرف تحقيق مكاسب تعزّز موقفه، وتفرض مطالبه في الطاولة.
أما التأثير على الاقتصاد العالمي فبطبيعة الحال سوف تتأثّر أسعار المحروقات على اعتبار روسيا المنتج الأول للغاز الطبيعي في العالم، وحتى تحتل المراكز الأولى في إنتاج النفط، كما تحتل الصدارة في إنتاج القمح، كما ستتأثّر عمليات تداول العملات على اعتبار روسيا سوقا استثمارية واعدة، لكن التأثر وكما ذكرت سيكون ظرفيا، وهو مرتبط بانتهاء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

شتاء نووي مدمر

-  إلى أي مدى تهدّد الحرب الرّوسية الأوكرانية استقرار وأمن القارة العجوز؟
 بخصوص تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية على استقرار القارة الأوروبية، فهي أنتجت حقيقة أن عدم الاستقرار والتوتر لا يقتصر فقط على الضفة الجنوبية للكرة الأرضية، وإنما أيضا يشمل الضفة الشمالية الأخرى، ممّا يجعل أوروبا بؤرة للتوتر تهدّد الأمن والسّلم الدوليين، فالصّراع يقع في قلب القارة الأوروبية من جهة تفكك الدولة، وفقدان أوكرانيا لعديد أراضيها شبه جزيرة القرم والجمهوريتين اللتين انفصلتا من جانب واحد واعترفت روسيا بهما، وما يشكّله من تهديد حقيقي يشجّع على العودة القوية للحركات الانفصالية في أوروبا الشرقية وحتى الغربية، بمعنى أنّ القارة الأوروبية أكثر هشاشة أمنية من دول العالم الثالث في إفريقيا وآسيا وحتى أمريكا الجنوبية، وأنّ الطفرة الاقتصادية هي من كانت تغطّي الهشاشة الأمنية الأوروبية.
فالنّزاع الروسي - الأوكراني سوف تكون له تداعيات مباشرة على الأمن الأوروبي، ومن جهة ثانية الإجراءات التي يعتمدها الغرب لمجابهة روسيا المعتمدة على تجنيد المرتزقة، وما يشكّله من تهديد حقيقي على أمن القارة الأوروبية، بحيث ستكون أوكرانيا جرّاء ذلك على شاكلة سوريا وأفغانستان والصومال، هؤلاء المرتزقة هم في قلب أوروبا يحملون أسلحة بعيدا عن سلطة الدولة، وما سيشكّلونه من تهديد حقيقي للمصالح الأوروبية داخل العمق الأوروبي مع فوضى السّلاح، وقد يمتد الأمر لتهديد طرق الملاحة الجوية والبحرية وحتى البرية، ويعيد مسألة غلق الحدود ومسؤولية أمن كل دولة بنفسها، وهو ما يخلفه من صعوبة وتأثير مباشرين على حرية تنقل الأفراد والجماعات، واستمرار النزاع الروسي –الأوكراني، وطول مدته قد يخرج عن السيطرة، ويتسبّب في تورط دول لاسيما القريبة من النزاع مثل بولونيا والتشيك، وما يخلفه من أزمة أمنية أي يضع القارة ككل بين فكي التهديدات الصلبة واللينة، الأولى الصادرة من الشرق ممثلة في الصراع المسلح والأفراد والجماعات الحاملة للسلاح (المرتزقة) الخارجة عن سلطة الدولة، وأخرى لينة ممثلة في الهجرة غير الشرعية القادمة من الجنوب من آسيا وإفريقيا، ما يجعلها تتأثّر بمكانتها ضمن النظام الدولي، وتراجعها هو تعزيز لمكانة دول مسيطرة، وظهور دول جديدة على الساحة، وعليه فالتهديد الأمني يتطلّب العقلانية والرشادة في تدبير الأزمة دون إغفال تهديد الرئيس الروسي باستخدام سلاح الرّدع النّووي، وطلبه من قادة الجيش الروسي تفعيل جاهزيته بما ينذر بشتاء نووي مدمّر للقارة الأوربية في حال غياب العقلانية في حل الأزمة.

 10 ملايين لاجئ قد يتدفّقون على أوروبا

-  يجري الحديث عن دور جديد وأكبر للصين في العالم..ما هو؟
 بخصوص دور الصين من الأزمة وموقفها من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، يمكن وصفه بالمترقّب وعدم التورط في الصراع، وعدم الانحياز لأي طرف سواء الروسي أو الغربي، وانتظار ما ستؤول إليه الأمور، ويمكن تفسير ذلك من خلال طبيعة النظام السياسي الصيني الذي يسيطر عليه الحزب الشيوعي الحاكم، والآلية المتأنية لاتخاذ القرار إذ يمر عبر دوائر عديدة ومتعدّدة قبل أن يستقر على موقف واحد مع الأحداث المتسارعة، ممّا يجعل القرار السياسي الصيني متريثا يراقب الأحداث، وتفضيله الابتعاد والاعتماد على السياسة المرسومة سلفا، وهي الاستفادة الطبيعية من نتائج الصراع ولاسيما الاقتصادية وتوسيع نفوذها، وقد تكون أوكرانيا بعد انتهاء العملية العسكرية نقطة وقاعدة التغلغل الصيني في أوروبا من خلال الحصول والظفر على عقود إعادة الاعمار، وبناء البنية التحتية التي دمرت في هذه العملية العسكرية، إضافة إلى أنّ الصين تعمل على بسط نفوذها على بحرها الجنوبي، وتهتم بمنطقة المحيط الهادي.

- هل بات ملف اللاّجئين يهدّد فعلا الاتحاد الأوروبي؟
 من الآثار السّلبية للحروب والنزاعات الدولية أزمة اللاجئين والفارين من الأعمال القتالية، فالتعداد السكاني لدولة أوكرانيا يتجاوز 40 مليون نسمة، أي أن عدد اللاجئين في حال ما طال النزاع وازدياد وتيرة العنف لن يقل عن عشرة ملايين لاجئ سوف يتدفّقون على أوربا الغربية بالدرجة الأولى ألمانيا وفرنسا، وبدرجة أقل إيطاليا، وبأقل حدة بريطانيا لطبيعتها الجيوسياسية، هؤلاء اللاجئون سوف يتطلّب من دول أوربا الغربية تخصيص ميزانيات كافية للتكفل بهم من حيث الإيواء والإطعام والاهتمام الصحي، فضلا عن المعضلات الأمنية وتفضيل بعضهم البقاء على العودة إلى أوكرانيا حتى بعد انتهاء العملية العسكرية. ومن جهة أخرى ينتاب الغرب الأوروبي فوبيا اللاجئين، وما قد يتسلّل في صفوفهم من عناصر إرهابية تهدّد أمنهم، وتعمل على زعزعة الاستقرار وفوبيا تسلل عناصر روسية تعمل على تخريب المنشآت الاقتصادية. فقط للإشارة في إقليم الدونباس كانت تنشط جماعات عنصرية أو ما تطلق على نفسها النازيين الجدد (مقاتلي آزوف)، التي ارتكبت أعمال إجرامية في حق مواطنين أوكرانيين من أصول روسية، أن يتسلّلوا بين اللاجئين وينقلون معهم فكرهم.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024