الخبير في الشّؤون الدولية عبد القادر سوفي:

العالم يتّجـه نحو نظام ثــلاثــي الأقـطــاب

حوار: فضيلة بودريش

 ترقّب عـودة الحـرب البـاردة في شكـل جديـد

 أوروبـــا ستواجــه مأزقـــا أمنيـــا وأزمـــة اقتصاديـــة

 بعد أسبوع كامل من عمر الأزمة الأوكرانية لا زالت منطقة شرق أوروبا ساحة للتّصعيد والتوتر، وعدم الاستقرار الأمني، يضاف إليها تأكيدات روسية أنّ العملية العسكرية سوف تستمر إلى غاية تحقيق أهدافها، في وقت تتّجه الأنظار باهتمام وترقّب صوب جولات المفاوضات الروسية الأوكرانية.
وبخصوص التّطوّرات الميدانية للأزمة وتداعياتها على صعيد الجيو استراتيجي، تحدّث الخبير في الشؤون الدولية وأستاذ العلوم السياسية الدكتور عبد القادر سوفي بشكل دقيق واستشرافي عن أبعاد وتداعيات الأزمة الأوكرانية، وتوقّع في هذا السّياق تغييرا كبيرا في الساحة الدولية بداية من تسجيل التحول الجذري في موازين القوى إلى جانب عودة الحرب الباردة بثلاثة أقطاب، ويتعلق الأمر بكل من الولايات المتحدة الأمريكية القطب المهيمن المتآكل، إلى جانب الصين القوة الاقتصادية، بالإضافة إلى روسيا القوة العسكرية العالمية.

-  الشعب ويكاند: ما هي قراءتكم لتطوّرات الأزمة الأوكرانية؟
  الدكتور عبد القادر سوفي: تعتبر أوكرانيا من ناحية الجيوبوليتيكا نقطة لقاء أكبر قوة برية «أوراسيا» مع أقوى قوّة بحرية «طلاسوقراطيا»، الولايات المتحدة الأمريكية بمعية حلفائها في المياه الدافئة «البحر الأسود»، ويمكن القول أن هذا الصراع أصبح بمثابة أمر وجودي.
لذلك خانة الصّراع الأوكرانية بين القوتين ليست الوحيدة لكن حيوية خاصة بالنسبة لروسيا، إضافة لخانتي  كزاخستان وبلاروسيا التي تعرف أيضا صراع ولاء وتوجّه، ونقطتي مواجهة مباشرة مع أوكرانيا ومنطقة احتواء روسي بالنسبة لحلف الناتو والقيادة الأمريكية من الخلف. وفي هذا الوقت بالذات يسجّل تقدم عسكري للقوات الروسية في العاصمة الأوكرانية كييف من عدة اتجاهات، وتسعى موسكو في الوقت الراهن إلى تحقيق أهداف سطّرتها ولا يعلمها أحد، لأنّ بوتين سبق وأن أكّد أنّ روسيا لا تستطيع أن تشعر «بالأمان والتطور» بسبب ما وصفه بالتهديد المستمر من أوكرانيا. ومن وجهة نظر الرئيس بوتين، تعهّد الغرب عام 1990 بأنّ الناتو لن يتمدّد «شبرا واحدا إضافيا نحو الشرق»، لكنه فعل ذلك على أي حال.
وكان الاتحاد الأوروبي خلال الأيام الماضية قد تحرّك مع أمريكا لفرض عقوبات اقتصادية كبيرة، فقام بتقييد وصول روسيا إلى الأسواق المالية، وعزل صناعته عن أحدث التقنيات والدفاع، كما وافق على عقوبات واسعة تشمل جميع أعضاء البرلمان الروسي البالغ عددهم 351.
منع تمدّد الناتو نحو أسوارها
-   برأيك لماذا اتّخذ الرّئيس بوتين قرار العملية العسكرية؟ وإلى ماذا ستفضي التّطوّرات الميدانية؟
 من الناحية الإستراتيجية استطاعت روسيا أن تخلط أوراق القطب الغربي. ولطالما طبّقت الولايات المتحدة من خلال حلف الناتو سياسة الاحتواء ضد الاتحاد السوفياتي، واستمرّت في هذه السياسة مع روسيا.
الملاحظ أنّ عملية الاحتواء التي طالت روسيا، يمكن مقارنتها بمحاولة حلف الناتو تحقيق الانتصار «الشيخ مات» «échec et mat» مع تطبيق عملية سجين الرواق أو الموت بالاختناق في لعبة الشطرنج. لكن روسيا التي قدّمت الكثير من التنازلات منذ التسعينات عمدت إلى إستعمال حركات الفرس في لعبة الشطرنج لتحقيق أهداف إستراتيجية لا يمكن التنبؤ بها. ويمكن تفسير أهمية  هذه الحركة كما يلي:
أولا: حركة الجيوش الرّوسية على الحدود الأوكرانية بصفة دائما ومستمرة تجعل الطرف الآخر غير قادر على التنبؤ بإمكانية الهجوم أو توقيت أي عملية عسكرية بالأراضي الأوكرانية.
ثانيا: استعمال الخطاب الرادع وحتمية اللجوء إلى السلاح النووي في حالة تحرك أي طرف آخر نحو خانة الصراع (أوكرانيا) يعطي أهمية لاختبار الربح والخسارة قبل أي مبادرة غير محسوبة.
ثالثا: دخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا عملية استباقية لمنع التواجد الغربي في أوكرانيا تحت أي مسمى، ومنع تدفق الأسلحة أو جماعات مسلحة لدعم حكومة كييف.
رابعا: السّيطرة على الموقع يجعل القوى الغربية في موقف ضعف، ما يمكن روسيا من تحديد أساليب وطرق التفاوض من منطق القوة.
خامسا: تنفيذ العملية العسكرية على أوكرانيا هي عملية صفرية «مأزق الدجاجة» تجعل من الجبان هو الخاسر الأكبر.
وأهداف موسكو تتمثّل في جعل من أوكرانيا منطقة منزوعة السّلاح كما هو حال فنلاندا، كما تسعى إلى إقامة نظام موالي لروسيا مثل حال بلاروسيا، ومن ثم تحاول احتواء توسع الحلف الأطلسي الذي ترى أنه يتمدّد بالقرب من أسوار حدودها، وأيضا قد تكون روسيا تطمح كذلك إلى استرجاع مكانة الاتحاد السوفياتي.               
أوكرانيا خانة الشّطرنج الصّفرية
- ما مدى صحة من يعتقدون أنّ تداعيات الأزمة الأوكرانية ستكون بداية لنظام عالمي جديد؟
  بالفعل يتوقّع حدوث تغيير كبير على صعيد الساحة الدولية، بداية من تسجيل التحول الجذري في موازين القوى إلى جانب ترقّب عودة الحرب الباردة لكن هذه المرة بثلاثة أقطاب، ويتعلق الأمر بكل من الولايات المتحدة الأمريكية القطب المهيمن المتآكل إلى جانب التنين الصيني القوة الاقتصادية، بالإضافة إلى الدب الروسي القوة العسكرية العالمية البارزة.
ولا شك أنّ العالم ما بعد الأزمة الأوكرانية مقبل على سيناريوهات قاسية، في صدارتها أذكر أزمة اقتصادية عالمية حقيقية تلوح في الأفق، ومأزق أمني متعدد المداخل سيعصف بالقارة العجوز، وخلاصة القول أن أوكرانيا في كل هذا تعد خانة الشطرنج الصفرية.
لقد بدأ منذ بداية الأزمات الشمالية والاقتصادية والصحية مع بداية عام 2019، أنّ العالم يشهد تحوّلا غير مسبوق في طبيعة النظام العالمي، وتم تلمس التراجع الكبير للهيمنة الأمريكية، وكذا الدول الاستعمارية التقليدية لصالح فواعل صاعدة منها الجديدة ومنها من عاد بعد إعادة تأهيل.
صحيح أنّ النظام العالمي لم يعرف الاستقرار منذ سقوط الاتحاد السوفياتي والشيوعية في أوروبا، حيث دخل المجتمع الدولي في مرحلة انتقالية وتحول عميق في القيم والمفاهيم والتوجهات والتكتلات بين الأحادية والتعدد القطبي، لكن عودة روسيا إلى المسرح العالمي من خلال أزمة سوريا والاستعمال المزدوج لحق النقض لكل من الصين وروسيا في الأزمة السورية، بدأت بوادر العالم الثلاثي الأقطاب ترتسم ملامحه مع تراجع طفف للهيمنة الأمريكية على العالم. وهذا بالفعل ما  سيحدّد طبيعة العلاقات المستقبلية لعالم ما بعد الأزمة الأوكرانية.
الفعل الاقتصادي والرد العسكري
- هل فعلا أنّ العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا..الرابح فيها خاسر..ولن تتأثّر بها روسيا بقدر ما تطال الدول الغربية لأنّ هناك من يرى أن بوتين اختار الوقت الصحيح؟
  روسيا قبل إقدامها على اتخاذ قرار الحرب، قامت جيّدا بحساب جميع أنواع ردود الفعل الممكنة والمتاحة لدى القطب الأطلسي، وعكفت على وزن قدراتها على تحمّل الأعباء والتداعيات المحتملة. ما ساعد روسيا في اتخاذ القرار النهائي، والذي يكمن في:
أولا خطاب جو بايدن، الذي تحدّث عن الخيارات  المتاحة في حالة القيام بعملية عسكرية في أوكرانيا، والتي عدّدها في خيارين؛ الفعل الإقتصادي والرد العسكري.
ثانيا: اعتبار أوكرانيا نقطة تحوّل حيوية في طبيعة موازين القوى والعلاقات الدولية المستقبلية.
استشراف بوتين أنّ القطب الأطلسي لن يدخل في صراع مباشر مع روسيا النووية، بما أنّ هناك خيارين سيرجح خيار العقوبات الاقتصادية...
ثالثا: تقدير الحلفاء الأطلسيّين لصرامة روسيا، وتأكيد بوتين على اللجوء إلى حرب نووية كخيار وحيد في حالة عدم قبول شروطها أو الاعتداء عليها.
ستكون عواقب الأزمة الأوكرانية الأكثر ضررا على الاقتصاد العالمي، وخاصة على قارة أوروبا والدول الضعيفة بسبب الارتفاع الجنوني، الذي ستعرفه أسعار الطاقة والمواد الأولية، وكل ذلك مرشح أن ينعكس سلبا على أسعار المواد المصنعة، وبالتالي من شأنه أن يهدّد الأمن الغذائي ككل.
أما روسيا ستتأثّر بهذه الحرب لكن ليس بنفس الحجم، كون روسيا جمعت احتياطي صرف في حدود 600 مليار دولار، إضافة إلى فتح الأسواق الأسيوية لها خاصة السوق الصينية.
- ما هو شكل الخارطة الجيواستراتيجية..فيما بعد الأزمة الأوكرانية؟
  حسب تقديري قد يظهر تشكيل عسكري جديد خاص بأوروبا مع إمكانية المسبح المفرط لكل من:
1/ ألمانيا في أوروبا من أجل فرض نفسها، وإجلاء القواعد العسكرية الأمريكية من ألمانيا، ما يعطي حرية أكبر واستقلالية في صناعة القرار السياسي والسيادي بعيد عن الإملاءات الخارجية.
2/ اليابان في أسيا أمام الصّعود العسكري لكوريا الشمالية كقوة نووية غير موثوق فيها، وكذلك الصعود الصيني في منطقة أسيا الهادي، مع غياب تام للثقة في قدرة الحلف الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية في الدفاع عنها وعن مصالحها، مع إمكانية الأسلحة المفرط..»عوض عن المفرط».
- عدّة أسئلة منطقية وملحّة، تمّت إثارتها ليس من المتتبّعين للأزمة الأوكرانية وحدهم بل من طرف الجميع، ومن بينها..لماذا امتنعت أمريكا عن إرسال قواتها إلى أوكرانيا..على خلفية أنها عودت العالم على التواجد في مثل هذه الأزمات؟..فهل واشنطن ترفض الاصطدام بموسكو؟ وإذا كان الأمر صحيح..فما هي الأسباب؟
 استبعد الرئيس الأمريكي جو بايدن في آخر تصريح، إرسال قوات مسلحة إلى أوكرانيا، غير العضو في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، للدفاع عنها في ظل العملية العسكرية الروسية، رغم حزمة العقوبات التي فرضتها العواصم الغربية على موسكو.
نقلت مصادر إعلامية عن السّفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، قولها إنّ «إدارة الرئيس جو بايدن أوضحت أن الولايات المتحدة لن تضع جنودا على الأرض»، مؤكّدة أنه «لن نضع القوات الأمريكية في خطر».
على الرغم من إدانة الولايات المتحدة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث بذل الرئيس جو بايدن جهودا كبيرة لتوضيح أن القوات الأمريكية لن تدخل أوكرانيا وتشتبك مع روسيا مباشرة، فيما أكّد مرارا استعداد بلاده للدفاع عن كييف قبل العملية العسكرية.
وفي تصريح إعلامي، قال بايدن: «ستكون حربا عالمية إذا بدأ الأمريكيون وروسيا إطلاق النار على بعضهم البعض». بعبارة أخرى، قد يؤدي دخول الولايات المتحدة في الصراع مباشرة إلى اندلاع حرب عالمية.
وقال الجنرال المتقاعد مارك هيرتلنغ، محلل الأمن القومي والعسكري، إنّ «أساس الدبلوماسية هو الحد من احتمالات الحرب، ورغم أنّ العملية العسكرية في أوكرانيا مأساوية ومدمّرة، لكنها في الحقيقة لا تزال صراعا إقليميا».
وأضاف: «إذا أرسل الناتو أو الولايات المتحدة قوات إلى أوكرانيا لمساعدتهم في مواجهة الروس، فإنّ الديناميكية ستتحول إلى صراع متعدد الجنسيات له تداعيات عالمية محتملة بسبب وضع القوة النووية لكل من الولايات المتحدة وروسيا».
ونقلت مصادر إعلامية أنّ أكثر من 4 آلاف جندي من الجيش الأمريكي، الذين كانوا في أوروبا على أساس مؤقت سيتم تمديد فترة خدمتهم الآن، على الأرجح لعدة أسابيع، كجزء من الجهود الأمريكية لطمأنة حلفائها في شرق أوروبا خلال الأزمة الحالية.
وأضاف بايدن أنّ القوات الأمريكية مكلّفة بالدفاع عن «حلفائنا في الناتو، وطمأنة هؤلاء الحلفاء في الشرق. وكما أوضحت جيّدا، ستدافع الولايات المتحدة عن كل شبر من أراضي الناتو بالقوة الكاملة للولايات المتحدة».

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024