الكتابة قادرة على إعادة إعمار روح عاثها الخراب
تحدّثنا الرّوائية والكاتبة الصحفية فريدة بن سليم، صاحبة رواية «محرقة الذاكرة..لفحة حنين ما بين القاهرة والجزائر»، في هذا الحوار عن أول تجربة لها في عالم الرواية، وأول مولود أدبي لها خرج إلى النور، حيث لخصت فيه حجم المعاناة وخيبات الأمل التي مرت بها وتجاوزتها بشق الأنفس، مشيرة إلى أن الرواية هي بداية لحياة جديدة بالنسبة لها، بعد معركة طويلة من الاكتئاب والخيبات والظلم الذي تجرعته.
- الشعب: بداية من هي فريدة بن سليم؟
الرّوائية فريدة بن سليم: بالنسبة للكتاب ولي شخصيا إنّه سؤال صعب الإجابة عنه، فهو بمفهومي سؤال وجودي، لكن سأكتفي بالإجابة العادية والمختصرة، فريدة بن سليم هي كاتبة صحفية وروائية جزائرية، متحصّلة على دكتوراه في علوم الإعلام والاتصال، وأملك مشوارا لا أقيسه بعدد السنوات ولكن بالخبرات ما بين الصحافة المكتوبة والالكترونية في كتابة التقارير والبورتريهات، ما بين مواقع جزائرية وصحف عربية آخرها الحياة المغربية وحتى الصحف العالمية الناطقة بالعربية وعضو في المجلس الوطني للصحفيين الجزائريين، مهتمة بقضايا المرأة ولديّ العديد من الدراسات في هذا المجال، كما لدي اهتمامات بمجال النقد السينمائي.
- كيف ولجت فريدة عالم الكتابة؟ وما الدوافع والمؤثّرات؟
بدايتي مع الكتابة كانت منذ الطفولة ويعود الفضل لوالدي، فقد شجّعني كثيرا على المطالعة والكتابة، مع أنّ تعليمه كان فرنسيا لكن كان دائما يطلب مني في سهرات المساء أن أقرأ له ما أكتب، وفي أعياد ميلادي كان يهديني كتبا للمطالعة، فقد كان أبي أول قرّائي عندما لم يكن لي قرّاء.
وفي المدرسة حظيت بتشجيع من أساتذتي، كنت أشارك في مسابقات المدارس في كتابة القصص والخواطر، مع أنه وقتها لم أفز في أي مسابقة، ومع الوقت صارت الكتابة بالنسبة لي حياة عندما أفرح أسرع نحو الأوراق وأكتب، وعندما أحزن أعتكف في محراب الكتابة، فكان القلم والورق هما رفقائي، رفقاء السفر، رفقاء الوحدة، رفقاء الخيبات والانكسارات، رفقاء النجاحات والانتصارات.
- البيئة والظّروف تؤثّر في المبدع كما يؤثّر فيها، ماذا أضافت لك بيئتك المحيطة بك؟
الكاتب والمبدع ابن بيئته، وإن لم تكن القصص والأحداث في كتاباته من وحي الواقع والتجارب والخبرات الحياتية، فالبيئة قد تؤثر في الكاتب بطريقتين سلبية وإيجابية وإن كانت حتى السلبية تصب في فائدة الكاتب، فغالبا الإبداع يولد من رحم المعاناة والوجع والظروف المحيطة التي غالبا ما تأتي معاكسة لما يشتهيه طموح الكاتب هو ما يدفعه للكتابة ويكون مادة دسمة له ليبدع، فالإيجابية من ناحية صقل شخصيته وتكسبه نضجا أدبيا، أما بالنسبة للسلبية بعيدا عن ظروفه الحياتية لكن البيئة الخارجية كفقدان الأمن والسلام، الظروف الاقتصادية، الإحباط والقنوط في المجتمع وغيرها كلها تؤثر في الكاتب ويتأثر بها، إن لم تكن كمادة إبداعية تسيل حبره للكتابة قد تكون كتجربة تصقل موهبته.
فالكتابة هي فرصة الكاتب للبوح، ونحن نستكشف شخصيات كتابنا من خلال كتاباتهم وإن اعترفوا بعكس ذلك، بالنسبة لكتاباتي تعبر عني وعن أفكاري وقناعاتي، ونفس الشيء بالنسبة للكتاب وكأننا لا نتجرأ أن نقول هذه قصتي ونبقى كروائيين لقصصنا حتى لا نفضح أمام القرّاء الذين يدركون جيدا أنها تعبر عنا.
- رواية «محرقة الذّاكرة» أول رواية لك، حدّثينا بشكل مفصل عن هذه التجربة الأدبية؟
«محرقة الذاكرة»، ليست أول مولود أدبي ورقي لي، فالكثير يكتبون عن أعمالهم الإبداعية، لكن أنا سأقول أنه وجعي حتى وضعت تنويها في بداية الرواية، فمحرقة الذاكرة كانت البداية الجديدة التي قرّرت أن أختطفها من الحياة، لأنّني استحققتها بعد معركة طويلة من الاكتئاب والخيبات والظلم الذي تجرعته.
كانت رحلة معاناة طويلة قرّرت التعافي منها، وقد ساعدتني الكتابة وقتها كنت آخذة بنصيحة إحداهن، حين قلت لها الكتابة بالنسبة لي هي دواء لروحي المغتربة، فقالت لي إذن اكتبي لتشفي يا عزيزتي.
الكتابة انتشلتني من تبعثري ورمّمت بداخلي كل ما شوّهته مآسي الحياة، فوحدها الكتابة وقتها كانت قادرة على إعادة إعمار روح عاثها الخراب، وحده القلم كان له القدرة السحرية على إخماد نيران تلك الذكريات والخيبات التي كانت تحرقني وكان الاكتئاب يتلاشى، وكأن القلم كان يجبرني ويشفيني. فرواية «محرقة الذاكرة» المستوحاة من قصة حقيقية لخّصت معاناة البطلة ولخّصت معاناتي من فترة صعبة تجاوزتها بشق الأنفس، وتضمّنت الرواية وإن كانت رومانسية اجتماعية لكن تعددت فيها الخيانات.
لم أركّز على خيانة الحبيب لكن تجاوزته لخيانة الأب، خيانة الصديق، خيانة الصحة وحتى خيانة الوطن، وأسوء الخيانات كانت خيانة نفسك في الرواية أنها تخون نفسك، حين تدخل البطلة في مرحلة إيذاء النفس، كما أنّ في الرواية أحداث وقصص ثانوية تتقاطع مع الرئيسية من حيث التركيز على قضايا المرأة.
- ما هي الصّعوبات التي واجهتك أثناء توثيقك لعملك الروائي؟
أي عمل إبداعي يمر بصعوبات ولكن هنا تكمن اللذة حين ترى عملك بعد معركة كفاح طويلة ليستلذ طعم النجاح، والنجاح الذي لا يقيسه المبدع الحقيقي بالربح المادي، لكن يقيسه بما يخلفه العمل في نفوس القراء فأعظم إنجاز لأي كاتب هو الأثر.
وحتى تكتب لا تحتاج فقط لورقة وقلم عبارة كنت قد قرأتها ذات مرة، بت موقنة جدا بها لنكتب نحتاج لوجع وهبتها الحياة لنا، عن معارك خضناها حتى يصبح ذلك الحلم حقّا ونلامسه ونحتضنه، وبعيدا عن الصعوبات التي خضتها مع نفسي هناك صعوبات دور النشر والصعوبات المادية.
بداية وعندما فكرت في النشر الورقي خضت مرحلة بحث طويلة عن أفضل دور النشر الجزائرية، لكن في المجمل معظمها اشتركت في التكلفة المالية المبالغ فيها التي يتكلفها الكاتب كمبدع، يقضي وقتا طويلا ويبذل مجهودا في الكتابة، وفي الأخير يحتكر عمله ولا ينال شيئا، بل وهو الذي يدفع مقابل عمله، فشروط دور النشر الجزائرية وبنود العقود لم تساعدني ككاتب، فتوجّهت نحو دور النشر المصرية، وقد كانت دار المصرية السودانية للنشر والتوزيع.
- وماذا عن مشاركة روايتك في معرض القاهرة الدولي مؤخرا؟ وما هو شعورك وأنت ترين إنتاجاتك الأولى بين أيدي القرّاء؟
شاركت روايتي ضمن محفل ثقافي وعلمي يعتبر الأفخم، فهذا المعرض هو ملتقى القراء والكتاب من مختلف جنسيات العالم، ومشاركتي في المعرض في حد ذاته إنجاز وفخر بالنسبة لي بعيدا عن المبيعات التي نوّهت سابقا أنها لا تهم الكاتب المبدع، كنت سعيدة جدا بعملي لأنه كما قلت كان تذكرة مروري نحو عالمي الجديد في الحياة التي بت أعيشها بسلام داخلي.
وسعادتي عندما أسمع أن الرواية عبرت عن القارئ، فغالبا ما تصلني تعليقات «وكأنّها قصتي»، حتى مديرة دار النشر قالت إنّ الرّواية أعجبتها لأنّها مرّت بقصة مشابهة لها، فسعدت أن حاولت ونجحت ولو بشيء بسيط أن أكتب ما يلامس القارئ، ويشعر أن الكلمات كتبت له خصيصا ومن واقع حياته.
- من هم الكتّاب الجزائريّين أو العرب الذين تأثّرت بهم فريدة بن سليم؟
قرأت للعديد من الكتاب العرب وفي الأدب العالمي منذ طفولتي، كان أول من قرأت له هو الشاعر السوري الراحل نزار قباني، كنت أقرأ لجبران خليل جبران، نجيب محفوظ، طه حسين، مصطفى لطفي المنفلوطي، غادة السمان، مي زيادة، محمود درويش، غسان الكنفاني، وغيرهم.
بالنسبة للجزائريّين لا يمكن أن أقول تأثّرت ولكن اعتبرها ملهمتي وقدوتي في الكتابة النسوية سيدة القلم العربي «أحلام مستغانمي»، التي اعتبرها مدرسة في الكتابة النسوية في مجال الرواية، وأسعد حين يقولون لي أسلوبك في الكتابة يشبه أسلوب أحلام مستغانمي مع أنّني لا أعتقد ذلك، لأنّ لا أسلوب يشبه أسلوبها والفرق بيني وبينها يكون بفرق سنين ضوئية، وكما أنّني أحاول أن أشق طريقي في مجال الكتابة ويكون لي لغتي وأسلوبي المتفرد، وبصمة خاصة لفريدة بن سليم التي تميزها ككاتبة...
- ما رأيك في مكانة الرّواية اليوم وفي المشهد الثقافي الجزائري؟
منذ فترة قرأت تعليقا للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي وأوافقها بشدة فيه، إذ قالت في الجزائر ما يقارب 45 مليون نسمة، فلو كان لكل مليون منا كاتب..صراحة وللأسف الشديد، وكلنا نعلم أن المناخ في الجزائر لا يساعد على الإبداع، فكيف تتوقّع من كاتب يعاني من الظروف المعيشية الصعبة ومهدد بالطرد من بيته، والفواتير المتكدّسة على رفوف مكتبه أن يكتب؟؟ فالكاتب يعاني من التهميش ومجال الإبداع غير مربح وبدوره يخضع لقوانين العرض والطلب، وباتت العملية الإبداعية لا تختلف عن السلعة المادية مع جشع دور النشر واحتكارها.
ومع عدم وجود قوانين تحمي المبدع من الملكية الفكرية، الحقوق المادية والمعنوية وغيرها، فمجال الكتابة الإبداعية في الجزائر والمشهد الثقافي يخضع لفوضى خلاّقة مع سيطرة بعض الفئات من أشباه المبدعين والمفكرين والكتاب وحتى النقاد، ومع تراجع المقروئية نتيجة لغلاء الكتب من جهة، واكتساح منصات التواصل وتغير القارئ من جهة أخرى، فقارئ اليوم غير قارئ الأمس، ومع تغير الذوق الجماهيري اكتسحت الساحة الإبداعية تلك النوعية التي لا ترقى بمستوى الفكر والوعي، لكن مع ذلك نملك العديد من المبدعين والكتاب وفي السنوات الأخيرة، كان للجزائر النصيب الوافر في جائزة البوكر للرواية العربية، فالجزائر تملك مبدعين شباب كانت لهم تجارب ثرية في مجال الإبداع الأدبي.
- بعيدا عن عالم الرّواية، هل لديك ميولات أو طموحات آخرى تتطلّعين إلى تحقيقها؟
أتطلّع لاقتحام مجال الكتابة السينمائية تحديدا كتابة السيناريو، فالواقع الحياتي الجزائري يزخر بالقصص التي يستحق أن ترى مرئيا، مع أنّنا نملك العديد من المبدعين الشباب والطاقات الشغوفة بالفن والإبداع التي باتت تظهر مؤخرا، وهناك أعمال إبداعية شاركت في مهرجانات عربية وعالمية، وإبداع الجزائر لا يتوقف هنا، فهي تملك الكثير لتقدّمه بعد أن غيّبت لسنوات عن المشهد الإبداعي العربي والعالمي لابد أن تستعيد مكانتها.
- ما أهم القضايا التي تشغل البال في الوقت الحاضر؟ وما مشاريعك المستقبلية؟
الكاتب وجب أن يحمل قضية حتى لا يكون كاتب بلا نضال، ولعل هذه المهمة الصعبة أن توجه قلمك لتحمل قضية قد تعود بك منتصر أو قتيلا، كما أن الكتابات الملتزمة هي التي تنتصر للحق والعدالة وللإنسان وتلك التي تصمد أمام الزمن.
وبالنسبة لي مهتمّة بقضايا المرأة بالدرجة الأولى، وقضية الهوية الجزائرية والتراث الجزائري، فتواجدي خارج الوطن جعلني أشعر بنوع من المسؤولية تجاه وطني خاصة من ناحية التعريف به، فكثيرا ما تصادفني الأسئلة الفضولية عن الجزائر، وكيف أنّها مغيبة عربيا ومعلوماتهم عنها تكاد تكون ضئيلة فيجهلون التراث الجزائري، بالرغم من تنوعه ويسألونني عن الشخصية الجزائرية، عن التراث الجزائري واللهجة الجزائرية، وللأسف نعاني من ضعف تسويق لكل ما هو جزائري مع أنها البلد القارة.
لديّ مجموعة قصصية أفكّر في نشرها قريبا تناقش قضايا المرأة الجزائرية، كما ستكون لدي الأكيد العديد من الرّوايات.
- رسالتك للقرّاء؟
نصيحتي للقارئ اقرأ كل ما يقع بين يديك، وطبعا النص الذي يغريك ويدفعك إلى إكماله أو يدفعك بعيدا عنه، وإن لم يعجبك النص فهو لم يكتب لك اقرأ غيره المهم طالع، مارس هوايتك، تعلم لغات، أكتب، أرسم، تعلّم موسيقى، طوّر من نفسك وتمتّع بالحياة، ولا تضيّع وقتك في المشاعر السّلبية، وابتعد عن المثبطين والسلبيين، والأهم آمن بنفسك وكل تجربة تبيّنك، وتزيدك نضجا ومعرفة.