متى استجابت الإرادة الشّعبية لإملاءات خارجية خسرت رهان التّغيير
قبل عشر سنوات، اشتعلت شرارة ثورات شعبية لم يتوقّع أحد حدوثها في العالم العربي، أثارت أحلاما بالحرية، قبل أن تتدحرج كرة اللهب في معظم الدول التي انتقلت إليها لتحطّم آمالا كثيرة، لكن هذا الحدث التاريخي غيّر وجه المنطقة برمتها.
عند الذكرى العاشرة لما يسمى بالربيع العربي، تحاور «الشعب ويكاند» الدكتور رضوان مجادي (جامعة تيسمسيلت) لتبحث معه في مآلات الثورات العربية، خلفيات نشوبها وأسباب فشلها، والعبر التي تكون الشعوب قد استخلصتها منها.
*الشعب ويكاند: عشر 10 سنوات مرّت على ما يسمّى «الرّبيع العربي»، الذي كان على غير المتوقّع عاصفا ومدمّرا، ما قولكم حول هذا الفصل الذي مرّ على بعض الدول العربية وأدخلها في متاهة العنف والفوضى؟
** د. رضوان مجادي: في الحقيقة، الطبيعة البشرية تواقة إلى التغيير والانتقال من ظروف غير مرغوبة إلى مستوى أفضل تناشد به الإرادة الشعبية، لكن ليس دائما ما تريده الإرادة من تغيير وإصلاح يتحقق.
ما مرّت به بعض الدول العربية منذ سنة 2011، وما تكابده من نتائج غير مرغوبة، كان بفعل الحركات الاجتماعية والتحولات السياسية التي عصفت بأنظمتها، وأدخلت شعوبها في دوامة الفوضى والعنف السياسي والمادي.
عند دراستنا لخلفيات نشوب تلك الحركات، وبروز التحولات الكبرى في الدول التي مسها ريح التغيير، يحتم علينا الأمر البحث في العوامل والخلفيات التي استهدفت دولا عربية دون غيرها في النسق الإقليمي والدولي.
من زاوية، بعض الدول التي مسحها ضوء «الربيع العربي»، نعتبرها دولا مهمة في نظر القوى الكبرى، وقد أضحت الأخيرة تهندس لزعزعة استقرارها وتفكيك بنيتها السياسية والإخلال بوظيفة دولتها في استتباب أمنها، عن طريق تمزيق أوردة مؤسّساتها الأمنية، الأمر الذي أدّى إلى نشوب حالات من الصراع الدامي والانفلات من رقابة الدولة وضبطها الاجتماعي، في ظاهره يعكس صورة الصراع على السلطة، ومحاولة إسقاط الأنظمة السياسية من المنظور الذي يجسّد الإرادة الشعبية، لكن باطنه هو حركة تغذيها قيم خارجية هدفت إلى خدمة أجندة المشروع التفكيكي والانفصالي والتقسيمي، من خلال تعبئة الجماهير وهندسة الرأي العام العربي، وشحذه بقيم تعادي الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي.
فما ركّزت عليه أجندة القوى العالمية الخفية، وما زالت تؤكّد عليه وتتمسّك بخياراته، حول السياق السياسي الذي صوّر في المخيال الشعبي أحقية التغيير، وضرورة قطع الصلة مع كل ما يرمز للدولة وأمنها الوطني من مؤسسات وأجهزة أمنية وعسكرية في محور الدول العربية.
الاندفاع الشعبي، وهو رد فعل عكسي، أسهم في صناعة مفاهيم التغيير في مختبرات خارجية، حيث أسهم في التأسيس لحتمية التغيير الجذري باستخدام خيار «الثورة»، وحقيقة ذلك أنه كان تعبير عن حالة سيئة استثمرتها الأجندات، بدل أن تحتويها أنظمة تلك الدول العربية المستهدفة من ثورات «الربيع» العربي.
من جهة أخرى كذلك، لا يمكن أن ننكر تأثير الظروف السياسية على فعل الإرادة الشعبية في صناعة مشهد الثورات، والمحاججة هنا أن كل ما حدث كان تعبيرا دقيقا عن فشل سياسي متجذّر في المخيال الشعبي، والحالة البعدية كنتيجة أبرزت الكثير من المواقف الأيديولوجية والتعصب والانقسامية غير المروّضة بأدوات سياسية، وحلول استعجالية تسمح بتحقيق نوع من الاستيعاب الشعبي حول خطورة المنعرج الخطير للثورة.
* بميزان الرّبح والخسارة، ما الذي جنته الشّعوب العربية من حركة التغيير التي عرفتها في 2011، وما حجم الخسائر التي تكبّدتها؟
** هنا يأتي الجدال حول الآثار التي خلّفتها حركات وأفعال ما سمي بالربيع العربي وانعكاساتها على الشعوب والأمم، إن كانت إيجابية أم سلبية.
في الجانب الإيجابي، هناك دائما دروس نتعلّمها من التجارب والوقائع السياسية المتزامنة مع أحداث الربيع العربي، فمن جهة أظهرت الحركات الاجتماعية والتحولات الكبرى عن جانبها المشرق لتفعيل الرقابة على أداء الأنظمة السياسية، ودفع الأخيرة إلى مراجعة وتكييف سياساتها بما يستجيب وتطلعات الإرادة الشعبية؛ إن على مستوى بعض الدول العربية التي نجح فيها الربيع العربي كتجربتي مصر وتونس.
في المقابل، كانت تكلفة الربيع العربي باهظة، وليس هناك من شك أن حجم الخسائر كبير جدا، على الأقل في مستوى الأنظمة السياسية التي كانت تشكل حجر أساس الدولة.
* عد مرور عقد كامل، هل يمكن القول بأن «الرّبيع العربي» كان حركة عفوية فرضتها رغبة التغيير الجامحة والمشروعة، أم أنّه كان فعلا مقصودا يرمي بالأساس إلى الزجّ ببعض الدول في أتون الحرب؟
** دوافع وحوافز الثورات والربيع العربي كانت كثيرة وواردة ومطروحة في سياق التغيير ضمن أجندة، سواء تخدم المصلحة الوطنية أم المصالح الخارجية.
عندما نقرأ المشهد العام للثورات في بعض تجارب الدول العربية، نستنتج أن الواقع السياسي كان يوفر الأسباب لضرورة إحداث التغيير. وفي بعض الدول العربية، اعتبرت التحولات الكبرى عفوية فرضتها إرادة التغيير والإصلاح نتيجة فشل بعض الأنظمة السياسية وعدم اقتناع قيادتها السياسية بضرورة تكريس مبادئ التداول السلمي على السلطة، فكان بمثابة العامل الداخلي الذي أجّج الأوضاع السياسية ورجّح كفة الصراع السياسي على العقلانية في تسيير شؤون الدولة، ممّا انعكس بالسلب على مناحي التنمية والأمن، ناهيك عن بعض المبررات التي دفعت إلى ضرورة المطالبة بالتغيير ولو بالطرق العنيفة.
فالأسلوب الثوري العنيف كان يراد به خيارا مفروضا لإسقاط أنظمة بعض الدول العربية، والرمي بها إلى قاع الحروب والدموية، وبالتالي لا يمكن التسليم بعفوية الثورات ما دامت الحجج في التجارب تقر بالأفعال المقصودة للانحراف بإرادة الشعوب العربية في الإصلاح المطلوب.
* الأكيد أنّ كلفة الرّبيع الدموي كبيرة جدّا، فما تعليقكم على أرقامه؟
** إضافة إلى التكلفة السياسية الباهظة التي استنزفتها ثورات بعض الدول العربية منذ سنة 2011، لم يسلم النسيج الاجتماعي من الدمار الذي سبّبه الخطاب الثوري الهوياتي والطائفي التمزيقي، الذي أودى بحياة أكثر من مليون ونصف مليون قتيل.
كما نجم عن ذلك أيضا خسائر مهولة شملت البنى التحتية، الأمر الذي يحتاج إلى إنفاق شامل يفوق 500 مليار دولار أمريكي، حسب ما أوردته بعض تقارير الأمم المتحدة لإعادة إعمار مناطق الدول المدمرة، وإعادة تشييد المنشآت القاعدية.
* من سوريا إلى اليمن وليبيا، انحرف مسار التغيير إلى العنف والحرب، بتقديركم لماذا ظلّت «الثّورات» العربية الطريق؟
** فعلا، لقد انحرف مسار التغيير الديمقراطي إلى هامش العنف والصراع والحرب الأهلية، وتعود أسباب ذلك إلى ثلاثة، وهي أنّها نجحت نسبيا في إعلاء صوت الحرية، وإعلاء حق التعبير وإبداء الرأي لكنها فشلت بعدها في بناء الحكومات الديمقراطية والسياسية، والسبب الثاني يرجع أساسا إلى هدم قواعد ومؤسسات الدولة والمجتمع ممّا أثقل كاهل الإرادة الشعبية في إعادة البناء والترميم والإصلاح، ويتجلى السبب الثالث والبارز في أنّ تحولات التغيير لم تثبت على مطلبية احترام القواعد التشريعية والدستورية والأمنية، الأمر الذي قادها إلى بؤر التوتر وأدخلها في حيز الاحتدام الدموي اللاّمتناهي.
* سوريا كانت الأسوأ حظّا، حيث تحوّلت رغبة شعبها في التغيير إلى حرب أتت على الأخضر واليابس، كيف تقرأون الحالة السورية، وما الدوافع الحقيقية التي كانت سببا في تدميرها؟
** تبقى سوريا واحدة من الدول التي عرفت الثورة الشعبية ضد نظام حكمها، لكن مطالب التغيير كانت متطرّفة وغير عقلانية، تتحكّم بها أجندات إقليمية ودولية.
ما تعيشه سوريا اليوم هو تحوّل حركات التغيير من وضع سلمي إلى حرب أهلية شاملة الأبعاد، حيث خلّفت أكثر من 500 ألف قتيل وضحية ومفقود حسب تقدير تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان الصادر عام 2020، بالإضافة إلى تهجير السكان نتيجة تزايد عدد مناطق النزاع.
تجربة سوريا مع «الربيع» العربي كفيلة بدراسة طبيعة العوامل التي حوّلت مسار التغيير الديمقراطي في مضمار الحروب والنزاعات، حيث كانت المطالب الشعبية اجتماعية وسياسية لتحسين الظروف المعيشية، والارتقاء بالتنمية الاقتصادية والدعوة إلى تكريس الديمقراطية، وهو ما أجج الوضع واشتدت وطأة العنف المادي والأيديولوجي إلى أن وصل الأمر إلى حالة من المعارضة والانقسام في صفوف القوى السياسية والاجتماعية.
ومن نتائج مطالب التغيير غير العقلانية، هي حصر سوريا بين إرادة القوى الكبرى، قوى تدعم نظام الحكم وأخرى تموّل وتساند حركات المعارضة والمليشيات المسلّحة للإطاحة بما تبقى من رموز نظام الحكم، وقد تأثر حوالي 2.2 مليون سوري مدني من إصابات وإعاقات نتيجة هذا التنافس الدامي في المنطقة، وبلغ عدد المهجرين قسريا حوالي 6.8 مليون سوري، في حين تنامي ظاهرة اللجوء في الخارج بما يزيد عن خمسة ملايين لاجئ سوري، حسب تقرير مفوضية الأمم المتحدة للاجئين الصادر سنة 2021.
وعن الدوافع التي أدّت بسوريا إلى هكذا حالة هي تأثير سيطرة الفواعل الخارجية السلبية من خلال الميليشيات والجماعات الإرهابية المسلحة، كذلك نتيجة تأثير التعددية الأيديولوجية والعرقية والطائفية التي احتقنت الوضع السياسي، واستبعدت كل الحلول السياسية، وكذلك إلى خذلان جامعة الدولة العربية لدولة سوريا وعدم مشاركتها في حلحلة أزمتها الأمنية.
* وضع ليبيا لم يكن أفضل، والدليل سنوات من الاقتتال ثم إخفاق في استكمال المسار الانتقالي وإجراء الانتخابات، ما تعليقكم؟
** السياق الذي تحاول فيه ليبيا أن تبني حلولها لا يمكن أن يؤتي أكله بسبب تأثير النعرات الجهوية، وما تغذيه الطوائف من قيم إيديولوجية يعرقل مسار الانتقال الديمقراطي.
وعن فشل أجندة الانتخابات في ليبيا، فهو يرجع بالأساس إلى فقدان سلطة الضبط الاجتماعي مع غياب قوة عمومية تلزم الأطراف باحترام قواعد اللعبة السياسية لاستكمال العملية الانتخابية بعيدا عن جو المشاحنات، مما يفتح سيناريوهات العودة إلى مربع الصراع الدامي.
حتى تونس، تواجه تحدّيات صعبة على كلّ الأصعدة، فما الذي قاد هذه الدولة التي كانت تقدّم كنموذج للتغيير الناجح إلى هذا المنحدر؟ وكيف السّبيل للخروج من أزمتها؟
تعتبر التجربة السياسية في تونس من أبرز النماذج العربية التي خرجت رابحة، ولو مؤقتاً، من حراك «الربيع» العربي، وانتصرت الإرادة الشعبية على الفوضى والعنف الذي ساد بعض الدول العربية، وترجع عوامل ذلك إلى الإرث التاريخي الذي خلّفته الممارسات السياسية المريرة والخبرة الديمقراطية في التعاطي مع التحولات الكبرى، إضافة الى موقعها الجواري الذي وفّر لها الضمانات السياسية والأمنية للخروج من نفق الثورة، واجتياز خط الخطر والانزلاق الأمني.
وكلّلت جهود قيادة القوى السياسية والتعاضد الشعبي بتجذير الإصلاحات السياسية والدستورية، وانتخاب المؤسسات الديمقراطية بعد سنة 2014، وانتعاش التجربة بنوع من الاستقرار والهدوء بعد موجة قوية أسقطت جل مؤسسات الدولة.
وجدير بالذكر أنّ مؤسسات المجتمع المدني في تونس لعبت دورا محوريا في الانتقال الديمقراطي، الهامش الذي حافظ على وحدة النسيج الاجتماعي، وكان بمثابة السد المنيع للاختراقات الأمنية، كما كان الحال دائماً في آخر المستجدات والتطورات السياسية الحاصلة.
لكن، غالبا ما تعاني الانظمة السياسية العربية والمغاربية، من التململ الوظيفي الذي حال دون الارتقاء بمستوى الأداء السياسي والحكومي، وكان ذلك نتيجة الصراع على السلطة والانقسامية الإيديولوجية التي ميّعت دور الدولة في تنمية المجتمع.
فما يحدث في تونس اليوم هو بسبب ارتدادات الصراع والازدواجية الوظيفية التي أقرّها دستور 2014 بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتعطيل مسار الإصلاح السياسي وتوطين بعض المؤسسات الدستورية، إلى أن وصل الامر بتونس لوضع يشير إلى غطرسة حالات الانسداد على تسيير شؤون الدولة والمجتمع.
ولتجاوز هذه المعضلة، على قادة تونس أجمعين، رجال سياسة ومجتمع مدني، أن يتجنّدوا ويرصّوا صفوفهم لتقوية مؤسسات الدولة، من خلال التمسك بالخيارات الدستورية والأساليب الديمقراطية لإعادة انتخاب أعضاء هياكل تمثيل الإرادة الشعبية بعد تعديل الدستور، وإصلاح مواطن الخلل فيه وبصفة مستعجلة.
* يبدو أنّ مسار التّغيير ما زال يعصف ببعض الدول العربية مثل السودان، ما قولكم؟
** بطبيعة الحال، أن تتوقف موجات الربيع العربي ومطالب التغيير، سواء كان مؤسسا أو غير مؤسس ذلك التغيير، قد يبدو بعيد المنال ما دام أن الجسد الاجتماعي والسياسي في السودان يعاني من تبعات مشروع التفكيك والتقسيم، المشروع الذي زج بالإرادة الشعبية في أتون الحرب والنزاع الدامي بين الشرائح المجتمعية ومؤسسات الدولة.
والخروج من محور الزوبعة لن يكون سهلاً ما لم تقتنع القيادة السياسية والعسكرية بضرورة التخلي عن الإملاء الخارجي، او على الأقل التعامل مع الأجندات بحكمة وروية من أجل تحقيق التوافق السياسي وإعادة السودان إلى سكته الحقيقية.
* بتصوّركم، هل كان بالإمكان تفادي النتائج الكارثية للربيع الدموي؟ وهل كان التغيير سينجح لو اتخذ طريقا آخر؟
** في اعتقادي، كانت الإرادة الشعبية قادرة على تحقيق مطالبها، وبلوغ الأهداف الأساسية التي ثار من أجلها المواطن العربي للمطالبة بالتغيير والإصلاح الشامل من دون تسجيل أي خسائر مادية وبشرية.
والحديث عن احتمالية نجاح مطلب التغيير، بالإمكان أن تحقق أي إرادة سياسية مبتغاها المرجو لو لم يتم الخروج عن الخيارات الدستورية، والحفاظ على مؤسسات الدولة والمجتمع، ومتى استجابت الإرادة الشعبية لإملاءات خارجية خسرت رهان التغيير المنشود والسلس.