إنجـاح الانتخابـات حتميـة لاستكمـال البنـاء المؤسسـاتي
شكّل 24 ديسمبر، التحدي الأبرز الذي ميز عام 2021 في ليبيا، فعلى هذا التاريخ عقد الليبيون آمالهم لإجراء انتخابات تمهد لانطلاق مرحلة جديدة تكون للاستقرار والسلام، غير أن عجز ترسانة التشريعات والقوانين المنظمة للاستحقاقات حال دون إجرائها في موعدها المحدد، وهو ما يعد بمثابة انتكاسة حقيقية لليبيا مجتمعا ودولة.
«الشعب ويكاند» وقفت عند هذا الحدث الليبي المصيري من خلال حوارها مع أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر 3، الدكتور فارس لونيس، الذي تطرّق إلى أسباب تعثر العملية الانتخابية في ليبيا، وتداعيات هذا التعثر على المسار السلمي والمخرج من هذا الانسداد، وغيرها من المسائل المرتبطة بالأزمة الليبية.
*«الشعب ويكاند»: كما كان متوقعا، تعثرت عملية تنظيم الانتخابات الليبية في موعدها، ما يعني انتكاسة لمسار السلام الذي كان معولا عليه للخروج من الأزمة، كيف تعلقون على هذا الحدث؟
** شكلت قضية تأجيل الانتخابات الرئاسية الليبية وتعثر إجرائها في وقتها المحدد انتكاسة حقيقية لليبيا مجتمعا ودولة، خاصة في ظل الأزمات العديدة التي تعيشها والتي كادت أن تعصف بوجود الدولة الليبية، وهذا بالنظر إلى حجم التراكمات التاريخية والآنية التي أدت إلى الوضع الحالي والذي خلف فشلا سياسيا، حربا أهلية، صراعات سياسية، انتشار السلاح وتفشي الإرهاب، وخاصة ما تعلق بتكالب الأطراف الخارجية الدولية وما دون الدولة على الثروات الليبية، وبالتالي يمكن القول إن ليبيا قد ضيعت فرصة حقيقية نحو إمكانية تحقيق الاستقرار ونشر السلام واستكمال البناء المؤسساتي الضامن للمرور نحو عودة ليبيا إلى مكانتها الحقيقية.
*لا شك أن عوامل عديدة وأسباب كثيرة عرقلت تنظيم الاستحقاقات الليبية في 24 ديسمبر، ومنها على وجه الخصوص، المرتبطة بغياب الإطار القانوني والقاعدة الدستورية، وأيضا القانون الذي أصدره البرلمان والمفصل على مقاس أحد المرشحين، ما قولكم؟
** الوضع الذي آلت إليه الانتخابات الرئاسية في ليبيا وتأجيلها لم يأت من العدم وإنما هو راجع إلى مجموعة من الأسباب القانونية والمؤسسية التي عرقلت إجراءها. فترسانة التشريعات والقوانين المنظمة للانتخابات في ليبيا لا تعمل على إخراج ليبيا من أزماتها وتحقيق الاستقرار وإنما ستؤدي إلى تأزيم الوضع أكثر هذا بالنظر إلى الفراغات الكبيرة التي جاءت فيها، مما سمح لأكثر من شخص أن يترشح بالرغم من أنها أسماء ساهمت في انتشار الفوضى وتردي الوضع الليبي وارتباطها بقوى خارجية. وهو ما أنتج تصاعد أصوات مجتمعية رافضة لترشح عديد الأشخاص، وفي نفس السياق، شكل ترشح بعض الشخصيات السياسية الأخرى تعارضا مع بعض القوانين التي تقر بضرورة الاستقالة من المنصب الذي تشغله في حال الترشح.
*التدخلات الخارجية كانت على الدوام عنصر تعطيل وعرقلة لجهود التسوية السياسية في ليبيا، فهل كان لها دور في تأجيل الانتخابات؟
** لعبت الأطراف الخارجية عاملا أساسيا في تعثر إجراء الانتخابات الرئاسية في ليبيا، وهذا بالنظر إلى ارتباط هذه القوى ببعض المترشحين، إذ تعمل كل دولة على الضغط من أجل فوز وإيصال أحد عملائها للحكم، وهو الأمر الذي لا يرغب الشعب الليبي في حدوثه لكونه سيؤثر على مستقبل ليبيا سلبيا. فالهدف من إجراء هذه الانتخابات بالنسبة للشعب الليبي هو الوصول بليبيا إلى بر الأمان وتحقيق الاستقرار والسلم والازدهار لدولتهم من خلال إجراء انتخابات شفافة ونزيهة بعيدة عن مصالح الأطراف الخارجية والتي من مصلحتها بقاء الوضع على ما هو عليه.
وإقامة نظام سياسي فاشل وخلل وظيفي يزيد من الصراعات والانقسامات التي ستتفاقم حدة العنف والشروخات المجتمعية.
* عودة المبعوثة الأممية ستيفاني ويليامز تثير تفاؤل الكثير من المتتبعين للوضع الليبي لما حققته في مهمتها الأولى، فهل تشاركون هذا التفاؤل وماذا بإمكان ويليامز القيام به؟
** تسعى المبعوثة الأممية إلى ليبيا ستيفاني ويليامز اليوم للعمل على مساعدة ليبيا في تجاوز الوضع المتأزم من خلال التزامها بدعم ومرافقة تنفيذ مسارات الحوار الليبي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكذا إجراء الانتخابات الرئاسية، لكن يبقى هذا الجهد محاطا بجملة من التحديات ورهينة خاصة لمدى قدرتها على مواجهة الضغوط الخارجية وتحركات القوى العالمية للتسيّد والتحكم في الداخل الليبي بما يخدم مصالحها الخاصة.
فهل تقدر ستيفاني ويليامز على مجابهة هذا التحدي الذي ما فتئ يعرقل رغبة المجتمع الليبي من أجل الاستقرار وبناء السلام واستكمال البناء المؤسساتي وتجاوز المرحلة الحالية؟
*لم تتوقف الجهود، سواء الدولية أو الإفريقية وحتى التي قادتها دول الجوار، في محاولة تسوية الأزمة الليبية، وقد حققت هذه الجهود العديد من النتائج الإيجابية لعل أهمها وقف القتال، فهل تتوقعون إمكانية تجاوز العقبات التي ما زالت تعترض المسار الانتقالي الليبي؟
**المساعدات الواجب تواجدها في ليبيا هي القائمة على الحلول السلمية كوساطة تقوم بها أطراف ثالثة موثوق بها من قبل الجانبين، مثل ذلك الذي سعت له عديد الدول وخاصة الجزائر التي استطاعت ان تلقى بمواقفها قبولا رسميا وشعبيا في ليبيا، إذ أن محاولة أجنبية في ليبيا خارجة عن نطاق الوساطة والحل السلمي ومساعدة الليبيين في تحقيق الاستقرار سيلقى رفضا شعبيا ورسميا. الجهود الدولية اليوم في ليبيا يجب أن تتمحور حول معالجة قضية التسلح وتأمين الحدود الليبية، وأيضا إصلاح قطاع الأمن الوطني وإعادة بنائه، ودعم الانتقال إلى حكومة ممثلة لشرائح الشعب، ونزع سلاح الميليشيات وتسريحهم وإعادة إدماجهم سواء في المجتمع المدني أو في خدمات القوات المسلحة الجديدة في ليبيا. بالإضافة إلى المساعدات الاقتصادية غير المشروطة وإعادة بناء وإعمار ليبيا. هذه الجهود ستكون هي الضامنة لتجاوز المرحلة الانتقالية وما دون ذلك سيصب كله في خانة العنف وإطالة عمر الأزمة.
*هناك من يطرح اليوم مسألة مستقبل الحكومة المؤقتة، هل ستستمر أم سترحل؟
** تعد مسألة استمرار الحكومة الليبية المؤقتة من عدمه أمرا يشوبه الغموض، خاصة أنها استطاعت وإلى حد كبير تحقيق نوع من الاستقرار لليبيا وجعلت المجتمع الليبي يتنفس الصعداء بعد أن نجحت في بعث نوع من الأمل في الأوساط الشعبية بعد عقد من الفوضى والعنف، ومن جهة أخرى تلقى هذه الحكومة دعما دوليا وإقليميا من عديد الدول التي خرجت بتصريحات تؤكد هذا الدعم. يبقى استمرارها من عدمه هو ما ستنتجه الانتخابات المقبلة وطبيعة المرشح الفائز فيها.
*الأزمة الليبية تحتاج إلى حل واضح، والانتخابات تحتاج إلى مسلك محدد المعالم، فكيف سيتمكن الليبيون من تجاوز كل العقبات وإجراء استحقاقات لا يطعن أحد بنتائجها ولا بمن يشارك فيها؟
**حقيقة مستقبل الدولة الليبية واستقرارها وعودتها، إنما هي مسألة ليبية بحتة وهي تخص الليبيين بدرجة أولى ودرجة وعيهم بحقوقهم ووعيهم بمن سينتخبونه، فالوقت الراهن لم يعد وقتا للمشاحنات القبلية والعشائرية والطائفية في ليبيا، وإنما الظرف الراهن يتطلب التحاما شعبيا بالدولة الليبية، وتعبير حقيقي عن درجة المواطنة، الظرف الراهن يتطلب من الليبيين الوقوف أمام أي محاولة للمساس بليبيا وبمستقبلها سواء من أطراف خارجية أو حتى من أطراف داخل ليبيا، إذ البداية تكون بالمطالبة بنظام انتخابي ديمقراطي ونزيه وليس نظام يتم تقنينه على مقاس جهة أو مترشح معين، كما أن الأمر الثاني الذي على الليبيين التفطن له هو نوعية وطبيعة المترشحين وإذا سمح لهم القانون بالترشح فلابد للشعب الليبي أن يكون حذرا وأن يتوجه لصناديق التصويت حتى يقطع الطريق أمام هؤلاء الانتهازيين وممن كانوا جزء من الأزمة، فمستقبل ليبيا رهينة مؤسسة تشريعية مستقلة تقر قانون انتخابي شفاف ونزيه وديمقراطي ويجسده وعي الشعب بمن ينتخبونه.
*تحدّيات كثيرة تعترض إقرار السلام في ليبيا، لعلّ أهمها هو إخراج المقاتلين الأجانب والمرتزقة، ما تعليقكم؟
**إخراج المرتزقه والمقاتلين الأجانب من ليبيا ضرورة حتمية ولها أهمية بليغة عل الحاضر والمستقبل الليبي، فأي محاولة من أجل تحقيق الاستقرار وأي عملية سياسية في ليبيا سيكون مآلها الفشل ما لم يتم إخراجهم من ليبيا، كما أن بقاءهم إنما هو ضرب لكل المساعي من أجل السلام. وفي هذا الصدد تم إنشاء اللجنة العسكرية 5+5 والتي تضم ممثلين عن القيادات العامة للجيش وممثلين عن حكومة الوفاق للبحث عن سبل إخراج المرتزقة من الأراضي الليبية وتنفيذا لهذا الغرض وجب العمل تحت مظلة بعثة الأمم المتحدة ومراقبين دوليين ومراقبين من الطرف الليبي حتى لا يكون هناك أي خطأ في عملية الإخراج.
*التدخلات الخارجية هي الأخرى يجب أن تتوقف فكيف السبيل إلى ذلك؟
**حقيقة يبقى مستقبل الاستقرار والسلام متوقف على ما ستسفر عليه إرادة الشعب الليبي والسياسيين والمترشحين للانتخابات الرئاسية، لكن هذا لن يتأتى ولن يتحقق في ظل استمرار التكالب والتهافت الخارجي والدول الأجنبية على تدمير وإفشال المحاولات الداخلية لذلك، فالدولة والمجتمع اليوم هي نتاج تفاعل العوامل الداخلية والخارجية، ولهذه الأخيرة تأثير كبير على مساراتها، والحالة الليبية هي مثال حي لذلك، فأكثر عامل أثر على الاستقرار والسلم في ليبيا سلبا هو التدخل الخارجي منذ الوهلة الأولى لإسقاط النظام السابق، من خلال التدخل باسم الديمقراطية وحماية المجتمع والتدخل الإنساني وصولا إلى المقاتلين الأجانب والمرتزقه التي وظفتهم دولا معينة في ليبيا، وهي المسميات التي أصبحت مدخلا لتحقيق الأطماع الخارجية مساهمة في انتشار الفوضى وتدمير النسيج المجتمعي وانتشار العنف والإرهاب.
إن التصدي لهذه الأطماع الخارجية في ليبيا تتوقف على نتائج الانتخابات الرئاسية واستكمال البناء المؤسساتي، ومدى وعي المجتمع الليبي بما يحاك ضده، كما أن دور البعثة الأممية يجب أن تعمل جاهدة لإيصال الوضعية الراهنة وحقيقة الإرهاب الدولي ومخلفات التدخل الأجنبي في ليبيا إلى الأمم المتحدة من أجل التصدي لاستمرارية هذا التدخل.
كما أن دور الدول الصديقة والجارة لليبيا يبقى كبيرا في هذا الصدد من خلال تكثيف الجهود الدبلوماسية والمساعدات المادية والمعنوية الضامنة للمرور السلس نحو الاستقرار والبناء المؤسساتي.
*باعتقادكم، ما هو الدور الذي يمكن للجزائر أن تقوم به لمساعدة الأشقاء الليبيين على تجاوز محنتهم؟
**جسّد الدور الجزائري في ليبيا المعنى الحقيقي للدبلوماسية والمساعدات الرامية لتجاوز الأزمة، فالجزائر لم تتوان للحظة في لعب دور محوري في حل الأزمة الليبية خاصة منذ عودة الدبلوماسية الجزائرية إلى الواجهة، وحتى قبل ذلك لم ترضخ الجزائر إلى الضغوطات والمطالب الأجنبية بالتدخل الأجنبي في ليبيا، بل بقيت ثابتة على مبدئها القائل بعدم التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول.
الدور الجزائري لم يتوقف فقط عند التنديد والمطالبة بعدم التدخل الأجنبي في ليبيا، بل رافعت الجزائر من أجل أن يكون الحل ليبيا ليبيا وفقط، ورأت وترى دوما أن الدور الذي يمكن لغير الليبيين لعبه في هذه الأزمة لا يخرج عن المساعدات المادية والوساطات، وهو ما جسدته الجزائر في عديد المرات بجمع أطراف النزاع الليبي حول طاولة واحدة لإيجاد الحلول اللازمة، وكذا الزيارات المستمرة للقيادات الليبية إلى الجزائر والتباحث معها حول الحلول، وكذا تقديم المساعدات المادية وكذا الإلحاح على التصدي للتواجد الأجنبي في ليبيا، وهي الجهود التي طالما أكدت عليها السلطة الجزائرية ممثلة برئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، وكذا وزارة الخارجية الجزائرية.
والدور الجزائري لن يتوقف عند الحاضر وفقط بل سيستمر في المستقبل القريب والبعيد لمساعدة ليبيا على الخروج من أزمتها وتحقيق الاستقرار والسلم ومساعدة الشعب الليبي من خلال الاستثمار وإعادة الإعمار.
*في كلمة أخيرة، ما هي قراءتكم لمستقبل المشهد الليبي، وهل من انفراجة في الأفق؟
**حل الأزمة الليبية ليس مستحيلا وهو مرتبط بمدى تحقيق التالي:
- الاستفادة من الماضي كسبيل للبحث في المستقبل وإصلاح الفترة الحالية: فليبيا والوضع الراهن بها لم يأتي من العدم وإنما من جراء تراكمات تاريخية (اجتماعيا، سياسيا، اقتصاديا، ثقافيا،...)، والبحث في الخروج منها والتطلع إلى مستقبل أفضل يحتم قراءة التاريخ من أجل عدم الوقوع فيها مستقبلا.
- القضاء على الطائفية والخلافات الهوياتية، فالحديث عن وحدة ليبية يحتم الاعتراف بحقوق الآخرين من الجماعات الليبية المختلفة، وجعله مجرد اختلاف في بعض الخصائص وليس خلاف، فحق كل الجماعات في العيش بخصائصها الخاصة لا يعارض الاعتراف بالآخر وفق هوية جامعة تتمثل في الهوية الوطنية الليبية.
-بناء اقتصاد متنوع، فالهشاشة الاقتصادية في ليبيا لم تكن لتحصل لولا الاعتماد على قطاع واحد في الاقتصاد، وهو ما يتطلب البحث في قطاعات أخرى تكون كبديل لقطاع المحروقات (اقتصاد بديل).
- تمثيل سياسي لعموم الليبيين، وهذه المرحلة لن تتم إلا في ظل تشكل حكومة وسلطة تجمع كل الفرقاء الليبيين بحيث تجعل كل جماعة تشعر بالحس المواطناتي بما أنها لها ممثلين في السلطة.
-العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية: بناء الدولة الليبية من جديد وتجاوز المرحلة الصعبة التي تمر بها، يفرض الاهتمام بالضحايا ومحاسبة بقايا النظام السابق والمتسببين في الظروف الحالية من جهة، ويحتم أيضا التنازل على بعض من التعصب المجتمعي للأفراد والمجتمعات بما يحقق الوحدة الوطنية.
- المساعدات الخارجية البناءة: كما هو معلوم أن التدخل الأجنبي في ليبيا لم يحقق النتائج الإيجابية بالقدر الذي زاد من المأساة وتأزم الأوضاع، ولهذا لابد من البحث في آليات أخرى لضمان إيجابية المساعدات سواء الاقتصادية أو السياسية وحتى الأمنية... وتحت رعاية منظمات وهيئات دولية لا ترضخ لأي جهة، بدءا من انسحاب القوات الأجنبية وإخلاء المرتزقة من الأراضي الليبية.
- وعي الليبيين بما يحاك ضدهم وضد وطنهم وضرورة الابتعاد عن التعصب لطرف دون آخر، إنما التعصب المطلوب والمحبذ في هذه الحالة يكون بحب الوطن وبنائه.
- إنجاح العملية الانتخابية الشفافة والتوجه نحو صناديق الاقتراع من أجل استكمال البناء المؤسساتي.
- الأزمة الليبية حلها ليبي بمساعدة الدول الصديقة التي تعمل حقيقة في مساعدة الليبيين في الوصول إلى بر الأمان.