فلسفة ما بعد الحداثة مجرد وعاء نضع فيه إخفاقاتنا النقدية
في هذا الحوار يتطرّق الدكتور محمد الأمين لعلاونة إلى فلسفة ما بعد الحداثة، في علاقتها بنصوصنا وثقافتنا الراهنة وعلاقة النصوص الإبداعية بالواقع، إذ أنها علاقة تكاد تكون منعدمة. ثم لخص بشكل يسير ما ورد في كتابه «كيمياء الرواية» ومشاريعه المستقبلية في مجال النقد والكتابة. الباحث محمد الأمين لعلاونة من مواليد 1988 من برج بوعريريج، متحصل على دكتوراه الأدب وتحولات ما بعد الحداثة بجامعة مولود معمري، تيزي وزو، وعضو بمخبر تحليل الخطاب، وبهيئة تحرير مجلة «الثقافي» الصادرة عن المنتدى الثقافي الجزائري.
الشعب ويكاند: ماهي قراءتك للنص ما بعد الحداثي الذي يحتفي برؤية تتجاوز الواقع ويتلاعب بمنطق السرد؟
** محمد الأمين لعوانة: فلسفة ما بعد الحداثة، أو فكرة المابعديات التي طغت على العالم، هي مجموعة من الإيديولوجيات والأفكار التي وُضعت من أجل تحطيم كل القيم الإنسانية التي وضعتها الفلسفة الغربية في فترة الحداثة. ففكرة المابعد لم تنشأ في بيئة أدبية أو جاءت لتساير الأدب في تحولاته؛ بل النصوص الأدبية هي التي حاولت مسايرة ما بعد الحداثة في المجتمعات الغربية الليبرالية التي تتحكم المادة في كل تمفصلاتها، لذلك عندما نتحدث نحن عن ما بعد الحداثة، فإننا نتحدث عن فكر غربي لم نستثمره بكل حمولاته لغياب المرجعية الفكرية من جهة، ولتخلفنا عن مواكبة الحضارة الغربية من جهة أخرى. ومنه فالحديث عن نصوص ما بعد حداثية في بيئتنا العربية وواقعنا الثقافي والفلسفي والفكري وحتى الصناعي هو حديث عبثي نحاول من خلاله القفز على مراحل عدَّة وتحولات كبرى عرفتها المجتمعات الغربية للوصول إلى حالة ما بعد الحداثة، مجتمعاتنا ونصوصنا لم تعرف الحداثة، بل عرفت نوعا من التغريب جعل كل نصوصنا تقريبا نصوصا هجينة لا هي احتكمت للواقع ولا هي انتصرت لما بعد الحداثة.
* هل هناك تعارض بين النص ما بعد الحداثي والواقع الذي من المفروض أن يعكسه؟
** الواقع، هذه الكلمة التي لم تعد تعني أي شيء في نصوصنا الروائية؛ ذلك أنَّ الرواية اليوم أصبحت تدافع عن ثيمات تحركها الجوائز الأدبية أو البحث عن الشهرة بعيدا عن الحياة اليومية التي يعيشها المواطن البسيط. هناك العديد من الروايات التي تتحكم في صناعتها الإيديولوجيا الخاصة بالكاتب، الذي لا يعلم ما يدور في محيطه أو في واقعه، نظرا للجدار الفاصل الذي صنعته البرجوازية الثقافية وأحاطت نفسها به. ما يُفسر ذلك، النمط السردي الغريب الذي أصبحت عليه مختلف رواياتنا. نحن لا نمتلك اليوم مثقفا عضويا، كما لا نمتلك روائيا يعيش بين الشعب وينقل التفاصيل الحياتية للمواطن البسيط عن طريق صناعة نص يحاكي من خلاله الواقع الذي انطلق منه، كل ما نملكه هو رواية إما تكون نخبوية ذات ثيمات تخاطب المسكوت عنه -من قبيل الجنس والنسوية...- أو رواية بعيدة كل البعد عن الأنموذج الأمثل الذي كانت عليه الرواية الجزائرية في فترة السبعينيات من القرن الماضي، دون أن أنسى دور النشر في صناعة نوع جديد من النصوص الهجينة التي لا يمكن بمكان تصنيفها في أي حقل من الحقول الأدبية.
* في إصدارك الأخير «كيمياء الرواية» حاولت حصر تجربة الكتابة الروائية الجزائرية من منظور نقدي ثقافي، ماهي قراءتك لهذه التجربة؟
** كتاب «كيمياء الرواية» عبارة عن مجموعة من المقالات التي أنجزتها خلال ثلاث سنوات، كانت النصوص ربما متباعدة من حيث المضمون، غير أنني ركزت على النصوص المغمورة، أو النصوص التي رأيت أنها تعبر عن الواقع الجزائري، كرواية «هايدغر في المشفى» لمحمد بن جبار التي اعتبرها نصا استشرافيا بامتياز، حيث تنبأ فيه الروائي بالحراك المبارك، ورواية «قضاة الشرف» لعبد الوهاب بن منصور التي تعتبر رواية أشبه بالروايات الواقعية، رغم حمولاتها العرفانية التي ضمنها السارد في الرواية. فنص ديهية لويز - رحمها الله- الذي كان نصا مؤلما، لا أعتبر انه ينتمي إلى النصوص النسوية أو النصوص المدافعة عن النسوية، قدر اعتباري انه نص يتحدث عن المرأة/ الشابة الجزائرية وهي تعيش نوعا من التيه الوجودي أو الهوياتي الذي حرمها أبسط حقوقها، فـ»محمد ديب» في نصه « السيمورغ» وعندما أتحدث عن نص السيمورغ، فإنني أتحدث عن تجربة حياتية لمحمد ديب. للأسف، بقيت مغمورة، حيث لم تدرس باللغة العربية إلا من طرف باحث أو باحثين على الأكثر، رغم أنها مدونة عالمية تتحدث عن ثيمات مختلفة، كالتصوف والعولمة وثنائيات الشرق والغرب في ظل فلسفة الحداثة وما بعدها، ما جعلني أخصص لها حيزا واسعا في الكتاب، محاولا إخراج محمد ديب النمطية التي عُرف بها في ثقافتنا الجزائرية وارتباط اسمه بالدار الكبيرة والحريق، رغم أن له نصوصا أخرى تنتظر القارئ الذي يفكك ثيماتها ويخرجها للنور وهو ما سأعمل عليه في كتاب قادم، إن شاء الله.
أما عن رأيي في الكتاب، فهذا متروك لنقد النقد الذي غاب عن الساحة الثقافية والنقدية الجزائرية لأسباب مجهولة، ما جعلنا نعيش نوعا من التخمة المعرفية الجافة، سواء من حيث النصوص النقدية أو الروائية.
* هل يتعالى النص أو بالأحرى الإبداع على جدلية القراءة والمنهج؟
** النص لا يجب أن يتعالى عن المنهج، بل المنهج هو من يجب أن يتعالى عن النص لأجل تفكيك جميع مضمراته وثيماته. نحن في الجزائر لا نمتلك مناهج قارة لمقاربة النصوص الروائية، نظرا لعدة أسباب، لعل أبرزها تدني مستوى الكتابة الروائية، ما جعل النقاد يكتفون بتصويب الأخطاء الإملائية والنحوية في الروايات، وهو ما لا يتماشى وطبيعة النقد الذي يجب أن يكون موجها لمسار الرواية والبحث عن المشتركات التي يمكن أن تُستجلى في روايات الألفية الثالثة حتى نخرج بأنموذج شامل للرواية الجزائرية أو باتجاهات روائية، تمكننا من تحقيب الرواية الجزائرية الحالية. للأسف، قضية المنهج قضية ذات شجون وهذا لا نجده فقط في النقد الأدبي بل حتى في أطروحات الدكتوراه التي اكتفت بمنهج واحد حلل به أغلب الباحثين مدوناتهم، حيث تجد جميع الأطروحات تنطلق من المنهج -الوصفي التحليلي- الذي حملناه كل قراءاتنا وكل آرائنا، بعيدا عن الأكاديمية العلمية التي تستوجب منهجا صارما يُسائل العمل الأدبي ويقربه من ذهن القارئ.
* ماهي مشاريعك المستقبلية؟
** أحاول الاشتغال على النصوص الجزائرية التي وصل أصحابها للعالمية، لكنها مغيبة في الساحة النقدية الجزائرية، حيث أشرف رفقة الأستاذ عزيز نعمان والدكتورة الفاضلة آمنة بلعلى على استكتاب دولي يخص أعمال الروائي الجزائري ياسمينة خضرا. كما أنَّ هناك مشروعا قيد الدراسة لكتاب نقدي يتناول أعمال الروائي الجزائري الراحل محمد ديب غير المدروسة كـ»لايزا» و»مثل طنين النحل» و»ما شاء إبليس» و»السيمورغ» وغيرها من الأعمال التي أغمض النقاد أعينهم عليها، لأسباب مجهولة وانشغلوا بتتبع الأعمال التي حققت نوعا من الجدل في الساحة الأدبية الجزائرية، رغم أنها أعمال لا ترقى الى كتابات محمد ديب أو آسيا جبار التي أهملها المترجمون وهو السؤال الذي سألته الأساتذة سامية داودي وبقي يدور في خلدي كلما شاهدت المشاحنات النقدية والحروب الكلامية بين النقاد والأدباء من جهة وبين النقاد والقراء من جهة أخرى.