الكتابة النسوية اليوم تجاوزت الأسماء المكرّسة
في هذا الحوار تفتح عائشة بنور قلبها لتجيب عن أسئلة قرائها الأوفياء. وعائشة بنور كاتبة وصحفية جزائرية، لها العديد من المؤلفات الروائية والتي ترجمت منها إلى الفرنسية والانجليزية والاسبانية، ونالت العديد من الجوائز الأدبية عربيا ودوليا وكرمت في المحافل العربية، من أعمالها الصادرة : ـ الموؤودة تسأل فمن يجيب؟، مخالب، ليست كباقي النساء!!، السّوط والصّدى، اعترافات امرأة، سقوط فارس الأحلام، نساء في الجحيم، الزنجيّـة...
الشعب ويكاند: كيف تشكل عالم الكتابة والمخيال الأدبي لدى عائشة بنور؟ وهل كان ذلك في سن مبكر؟
عائشة بنور: ربما وُلدت لأكتب، كنت شغوفة جدا بالقراءة والكتابة، في قرية فلاحية تسمى (المعمورة بسعيدة)، قرأت القرآن الكريم على يد والدي، وهو الذي فتح لي أشرعة الحرية بداخلي من خلال سرده لقصص في القرآن الكريم، سكنتني روح الانبهار حين عرفت قصص الأنبياء عليهم السلام، تشبعتُ من خلالها بالتشويق والخيال، ولعبت القراءة الجادة والمتنوعة دوراً في تشكيل وعيي وصقل موهبتي فيما بعد.
وأساتذتي في التعليم الذين علموني أبجديات الحرف والكلمة بالإضافة إلى حكايا الجدات، ومن خزانة تراثنا الشعبي العريق استلهمت فن القص والحكي في مدينتي سعيدة هذه المدينة الغنية بتراثها كانت لي رافدا معنويا للانطلاق، لتسويق تراثنا الحضاري وموروثنا الثقافي الزاخر بالقيم الانسانية. وأولى كتاباتي كانت في الثالثة عشر من عمري، فكانت الكتابة بالنسبة لي كالهواء. وكانت بدايتها في الثمانينيات. أصدرت فيها العديد من المؤلفات ونلت العديد من الجوائز الأدبية وشاركت في الملتقيات الأدبية، والعربية والدولية بالإضافة إلى تجربة الكتابة الصحفية في العديد من الصحف الوطنية والعربية والتي ساهمت فيها بمقالات ودراسات حول قضايا المرأة والطفل..أعتبرها رحلة موفقة فيها العديد من التأثيرات، تجربة ثرية ومتنوعة، ومتجدّدة.
- عائشة بنور كاتبة إنسانية اهتمت بقضايا المهمشين بالدرجة الأولى خصوصا ما تعلق بالمرأة، ما سر هذا الاهتمام؟
المرأة هي الحياة، المجتمع، وأعمالي كلها تتناول التجارب والمواقف الانسانية واللاانسانية أغلبها واقعية، إذ يجد القارئ فيها اختزالا لتجارب هؤلاء المهمشين فوق الأرض وفق منظور واقعي مفعم بالإصرار والتحدي من أجل تحقيق الذات والغايات، وهي شخصيات عاشت الانكسارات والانتصارات وكذا الإنهزامات على مسرح الحياة، وبامتزاج الظلم والحلم والمسموح والممنوع، إذ تسافر في وسط اجتماعي لا يرحم، وتعري الحياة المختلفة لهؤلاء وتجمع حياة الرجل والمرأة في حد ذاتهما وتلخص تجارب مختلفة تتوق للإعتاق وللوطن وللحب.
- تعكس رواية نساء في الجحيم القضية الفلسطينية والجزائرية معا، لماذا ارتأت عائشة بنور إلى جمع القضيتين معا؟ وهل هذا تأكيد على صلة القرابة بين الجزائر وفلسطين؟
بطبيعة الحال هناك صلة وجدانية بين الجزائر وفلسطين، التاريخ لا ينسى ما عاناه الشعب الجزائري من وحشية الاستعمار الفرنسي، والقاسم المشترك بين الشعبين هو المعاناة وعدم التفريط بالأرض، وبطبيعة الحال قضية فلسطين لا جدال فيها، القضية الفلسطينية هي القضية الأم مهما كان ولن تُغير القوانين الدولية ذلك. وقد جسدت هذه المعاناة في روايتي «نساء في الجحيم» وبأدق التفاصيل، وكما قلت سابقا في حواراتي.. ليس سهلا أن تكتب عن امرأة موجوعة عانت من ويلات الحرب، عانت من التهجير والقمع والسجن أن تغوص في أعماقها، أحاسيسها، أحلامها، في وعيها أو لا وعيها، في أمنياتها، ليس سهلاً أن تطل على خيباتها، انكساراتها وهي التواقة للحرية كما الطائر الذي أدمن محاولة الهروب من القفص باتجاه المدى. هكذا كانت رواية نساء في الجحيم.
الرواية ومن خلال عنوانها الصادم يصور واقع المرأة الفلسطينية ومسيرتها النضالية عبر التاريخ، والتي زاوجت بينها وبين معاناة المرأة الجزائرية أثناء الاحتلال الفرنسي، من خلال سرد ذكريات مجموعة من الجزائريات والفلسطينيات ومنهن الأسيرات في السجون وكيف تحرم السجينة من صغارها. للإشارة الرواية صدرت في عدّة طبعات، وترجمت إلى الانجليزية والاسبانية.
- تشكل رواية الزنجية قفزة نوعية في تاريخ الرواية العربية، نظرا لتركيزها المباشر على قضايا إفريقيا السوداء؟
صحيح، هي قفزة نوعية بالنسبة لي وفي تاريخ الرواية العربية، فرواية « الزنجيّـة» التي اشتغلت عليها مدّة ثلاث سنوات يقول عنها الأديب والناقد السوداني عزالدين ميرغني في مقدمته لها «أنها إضافة للرواية العربية والإفريقيـة»، لأنها تهتم بافريقيا التي غيبت في الكتابات السردية. فللأسف أن إفريقيا تحوّلت رغم خيراتها وثرواتها إلى مقبرة للموت، ومرتع للفساد، والأمراض كالإيدز والملاريا فأصبح المكان مقمـوعا، وشخصياتـه مقهـورة، وتفاعـل مأساوي رهيـب تعيشه شخوص الرواية في ظل الخوف من المجهول. والرواية صدرت في طبعة أولى بالجزائر وصدرت في طبعة ثانية عن دار نشر بالمملكة العربية السعودية وهي متوفرة إلكترونيا وورقيا.
ورواية «الزنجيّة» تلج في الفجوات المسكوت عنها، فتغوص في عمق جراح الأنثى الإفريقية وتختزل واقعا مريرا تعيشه المرأة خاصة في بلدان إفريقيا السوداء في نفق التقاليــد ودوامة الجهل والقهر والعنف وكذلك في مواجهة آثار الصراعات القبلية والحـروب والانقلابات.
كما تتعرض الرواية إلى العنصرية والعنف ضد الفتيات، وظاهرة التميز العنصري، وهي أمور تشكل انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان، والرواية لم تغفل عن التراث الإفريقي الزاخر بالألوان والطقوس وإعطائه البعد الثقافي العالمي وما يتميز به من خصوصية وقيم تاريخية. بالإضافة إلى موضوع الهجرة
وفي الأخير الرواية كما يقول عنها الناشر هي وجه من أوجه المعاناة الإنسانية، وقد حاولت الكتابة عن عالم داخلي مليء بالأسئلة والحيرة الوجودية لأناس لا ذنب لهم سوى أن الطبيعة اختارت لهم لونا لا تزال قوى التخلف تعاديه.
- صدر لعائشة بنور مؤخرا الكتاب الموسوم «المرأة الجزائرية في الثورة التحريرية»، هل نفهم من انتقالك إلى الكتابة التاريخية أن الرواية لم تتمكن من استيعاب عالمك الفكري أم أنها كتابة مرحلية فقط؟
اهتمامي بعالم المرأة - وخاصة المقهورة – ظاهر في جل أعمالي المنشورة، مما دفعني للتحول من الخيال الفني إلى الواقع وهذا من خلال البحث التاريخي نظرا لملامستي ومعايشتي لواقع نساء الجزائر المجاهدات ضد الاحتلال الفرنسي، مع العلم أن فكرة الكتابة عن المرأة والثورة التحريرية لم تكن وليدة اليوم بل هو عمل دام أكثر من سبع سنوات، وكان هذا نتيجة لقائي بالمجاهدة لويزة ايغيل احريز، والتعرف فيما بعد على نضالها وحكايتها مع التعذيب من ثمة أحسست بالمسؤولية لاكتشاف النضال التاريخي للمرأة الجزائرية الذي لا نعرف عنه الكثير نحن كجيل الاستقلال وما بعده، وبالتالي فإن الرواية هي عمل فنيّ، مثلا تتخذ من التاريخ مادة للسرد والخيال ولا يمكنها دراسة الأحداث والوقائع والتقصي، وبالتالي هي تختلف عن البحث التاريخي الذي يستلزم البحث والتمحيص والتدقيق في الوقائع والموضوعية في الطرح..
للإشارة أن كتاب المرأة الجزائرية في الثورة التحريرية « حقائق وشهادات» يرصد مسيرة المرأة الجزائرية عبر العصور، ونضالها الثوري ودورها الاجتماعي الثقافي، كما يصوّر الكتاب جرائم الجيش الفرنسي أثناء احتلال الجزائر وممارسة العنف كالتعذيب والاغتصاب ضد النساء والأطفال، بالإضافة إلى ذكريات مؤثرة لمجاهدات كنّ معتقلات، وإدراج نصوص شعرية ورسائل نسوية كتبت في السجون، ويتضمن الكتاب ما سجّله الرحالة الأجانب عن نساء الجزائر، أمثال (يوجين دوماس والرحالة «شــو» Dr. Shaw، فرومنتان، وت.غوتتيه، ألفونس دودي Alphonse Daudet )، وما كتبه الأدباء العرب: نزار قباني، أحمد عبد المعطى حجازي، صلاح عبد الصبور، بدر شاكر السياب، الجواهري...إلخ. وفي الكتاب أيضا أحداث عجيبة ووقائع غريبة عاشتها نساء الجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي»..
- سؤالي الأخير عن الكتابة السردية النسوية في الجزائر، هل تجاوزت الأسماء المكرسة إلى عالم الفكرة، أم أنها لم تحقق عوالمها الحقيقية بعد؟
بعيدا عن إشكالات المصطلحات فلقد أسهمت الرواية النسوية في اثراء الساحة الابداعية، ولها الحضور البارز في معالجة القضايا الاجتماعية المختلفة دون قيود وبلغة سردية موحية تجاوزت الطرح القديم، أعتقد أن الكتابة السردية النسوية اليوم في الجزائر وكصوت إبداعي سردي قد تجاوز الأسماء المكرسة وحتى الفكرة التي تتمثل في قضية المرأة والدفاع عن حقوقها في المساواة والإختلاف عموما، بالنسبة لي ومن خلال كتاباتي أنها لم تعد تجسد في متنها الابداعي حالة الصراع القائمة بين المرأة والسلطة الذكورية ومركزية الهموم الشخصية بقدر ما اهتمت بقضايا الانسان عموما والمظاهر اللاانسانية التي يمر بها الواقع الاجتماعي والسياسي الجزائري والعربي والإفريقي بانعكاساته وتناقضاته، كذلك أصبحت تصب في ثقافة الآخر بوعي وببعدها المعرفي والجمالي.