الأدب الجزائري بحاجـة إلى «مصاحبــة نقديــــة»
في حواره مع «الشعب ويكاند»، تحدّث الكاتب تولاي سيف الله عن أهمية المصاحبة النقدية للنصوص الإبداعية، وجدلية تطور الخطاب السردي بتطور النظريات النقدية، كما دعا المبدعين والنقاد الى ضرورة التطوير في الرؤية الإبداعية من أجل تجاوز المحلية.
تولاي سيف الله هشام من مدينة المشرية، متحصل على شهادة الماستر في النقد الأدبي الحديث والمعاصر، له حضور في الساحة الثقافية الجزائرية، من أهم أعماله: كتاب «شعرية الانزياح في بنية القصيدة» عن دار الغيداء بالأردن، وكتاب «تجليات الزمكان في بنية الخطاب السردي» عن دار المثقف بالجزائر، إضافة إلى مجموعة من المقالات التي نشرت في المجلات والجرائد الوطنية والعربية.
- الشعب ويكاند: في رأيك، ما هي التحديات التي تواجه الكتابة النقدية؟
الكاتب تولاي سيف الله هشام: أضحى من الضروريات القصوى الاهتمام بالمنجز الأدبي بالدّراسة والتَّحليل والتَّمحيص، نظرًا لما يشهده النَّص الأدبي العربي عمومًا والجزائري خصوصًا من تطورات رهيبة على مستوى أشكالِ التعبير والرؤية الإبداعية، ولا أخفيك سرًا، أنّه من أصعب الكتابات هي الكتابة عن الكتابة، فالرِّهان صعب لأن الساحة الأدبية في الجزائر تحتاج إلى مرافقةٍ نقديةٍ جادةٍ للتجارب الإبداعية الحقيقية، ولاسيما الأقلام الجديدة التي غطَّاها ظل التهميش، فالأدب الجزائري اليوم غني بنصوصٍ شعريةٍ وروائيةٍ قد انتبذت من الدراسات الأدبية مكانا شرقيا...! لأسباب مخجلة جدا، من بينها تكريس البحوث الأكاديمية لأعمال أدبية معينة، جعلت من نتائج البحث النقدي أصنامًا تكاد تعيد نفس النتائج في مختلف جامعاتنا، لذا أصبح من واجبنا استعارة فأس ابراهيم لتقويضها وإعادة النظر فيها بأساليب أكثر علميةٍ وصرامةٍ.
فالأدب الجزائري بحاجة ماسة إلى «مصاحبة نقدية»، وأسمّيها مصاحبة نقدية بدلا من «عملية نقدية «، لأن الإنسان العربي - غالبا - ما يقابل مفهوم النَّقد بمصطلح «العيْب»! في شتى المجالات التي يعتقد أن تصوراته حولها يقين مطلق غير قابل للنقاش والتحليل وتعدد القراءات، لأن الكثير من المبدعين حين تحاول أن تقول شيئا عن منجزه يُشخّصون الأحكام، فأغلبهم لا يعي أن النّص حين يُنشر، يكون قد فَقَدَ سلطته عليه، حيث يصبح ذلك النّص ملكًا للجميع، ومن مسؤوليتنا كوننا نعدُّ من المتلقين أن نتفاعل مع النَّص، وما نحدثه من أثرٍ، هو ليس انتقاص من شخصية المبدع، بل هو مجرد قراءة نقدية تسند على أسسٍ علمية نحاول من خلالها تثمين مواطن الجمال والإشارة للعثرات...
- تشهد السّاحة الأدبية إنتاجا وفيرا للنّصوص الرّوائية، ما تعليقك؟
الثّراء الفاحش يفسد طباع البشر - في الغالب - كذلك ما يحدث مع الرواية، فكثيرٌ من المبدعين لا يعلمون أن الخطابات السردية تُبنى على حدثٍ ما يطرأ على المجتمع، قد يتخذ هذا الحدث شكلا اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا أو فكريا، تتولد عنه أفعال سردية أي الخبر الذي سوف يُعبر عما جرى، وينقل مختلف وجهات النظر عن هذا الحدث في شكلٍ فني، وتشكُّل الحدث الروائي يمرًّ بثلاثة مراحل:
1 - مرحلة: الانفعال باللحظة 2- مرحلة: التفكير فيها - 3 مرحلة: التعبير عنها.
وللأسف كثير من النصوص المعاصرة تتوقف عند المرحلة الأولى، ويخال كتّابها أنّهم أنتجوا روايةً بمفهومها الدقيق، فالوقوف عند هذه المرحلة لا ينتج عنه نصا روائيا بل عملا سرديا تسجيليا قد يقوم به المؤرخ أو الصحفي أو حتى الإعلامي حين يكون مكلفا برصد الحدث والبحث عنه لنقله إلى الآخر، وقد نجد مبدعا آخر لا يتوقف عند مرحلة الانفعال بالحدث المركزي الذي ينتج من خلاله الفعل السردي، وإنَّما يتعدى ذلك إلى مرحلة التفكير التي لا يمكن أن تتوفر عند كل الناس، فقد نشاهد جميعا الحدث نفسه، لكن كل واحدٍ منا سيقرأه قراءةً تختلف عن قراءة الآخر، وهذا الاختلاف الحاصل على مستوى تلقي الحدث، يرجع إلى كوْن فعل القراءة خاضع لسيرورات الذهنية المتباينة من شخص إلى آخر كونها خاضعة للأفكار المسبقة وطبيعة التكوين شخصي لدى الذات المتلقية، فالتأمُّل في الحدث تنتج عنه رؤية قد تتحقق على المستوى الفكري المعرفي، أو على مستوى مجال أوسع حين تصل إلى مرحلة الرؤية الجمالية، وقليل من كتاب العالم الذين تتوفر لديهم ازدواجية الرؤيتين (الرؤية المعرفية والرؤية الجمالية)، فالتفاعل بين رؤيتين تتحقَّق به رؤية العالم حسب مفهوم لوسيان غلودمان التي يمتلكها قلة قليلة من الكتاب.
- صدر لك مؤخّرًا كتاب «تجليات الزمكان في بنية الخطاب السردي»، هلاّ تكرّمت وقدّمت لنا هذا العمل؟
إنّ هذه الدراسة لا تهدف إلى تفحص بنية الخطاب السردي عامة، وإنما تسعى إلى تقريب بعض المفاهيم المتمخّضة عنها بعد ملاحظتنا لُبسًا عند بعض طلبة النقد حين تحليلهم بنية الخطاب السردي، خاصة حينما تتعلق الدراسة بالبنية الزمانية والمكانية للرواية، وهي بحوث مطروحة بشدة في الوسط الأكاديمي، وإني لا أدعي النبوءة في علم السرد، بل حاولت تبسيط كل مفهوم اعترضني أثناء تحليل رواية «من قتل أسعد المروري» للحبيب السائح، فضاء سردي تجلت فيه البنية الزماكانية في أرقى صورها الجمالية - رغم أن السارد يبدو كان منشغلا بمستويات اللغة السردية إلى حد شعرية الرواية قد يخصص لها بحثا كاملا - محاولا الابتعاد عن تسطيح الدراسة التطبيقية وفق قوالب نقدية جاهزة، لأننا نعتقد أن من أفضع المغالطات المنهجية أثناء الممارسة النقدية أن تلوى أعناق النصوص حتى تستجيب لمقولة نقدية معينة! فنقوِّل النص ما ليس فيه! بل ولجت عوالم الرواية فارغ الذهن من كل آلية نقدية جاهزة، وتركت النص وحده يهمس لي بالإجراءات القرائية التي تليق به.
- ما الدّافع والهدف الذي جعلك تشتغل على هذه الدّراسة؟
من الدوافع التي أرغمتني على تدوين بعض الاستنباطات حول هذه الدراسة، هي أني حين طويت آخر صفحة من رواية «من قتل أسعد المرّوري»، قررت ألا أكون قارئًا سلبيا لهذا النص، فارتأيت أن أؤرخ لحظة انصهاري مع ما احتواه هذا الخطاب السردي من غرائبية التشكيل الزمني والمكاني بالأخص، ناهيك عن البراعة في صناعة الشخصية الروائية، وتعدّد الأصوات الساردة، والتبئير السردي كلها ظواهر سردية نرى أنها مشروع عملٍ آخر منفرد، كما أن هذه القراءة تزامنت مع فترةٍ اشتدت فيها الرغبة بأن انشغل على عملٍ نأمل من خلاله إثراء المكتبة الوطنية حتى ولو كان ضئيلا.
إذن المزية التي نصبو إليها - من خلال هذا البحث - هي تقريب جملة من مفاهيم الخطاب السردي إلى بعض المشغلين في حقل الأدب والنقد التي صعبت عليهم طرائق التحليل النقدي، وبعد تركيز عميق على المدونة السردية المراد دراستها، اقتنعنا أن بعض جماليتها السردية قد انبثق من بنيتها الزمانية والمكانية على حدٍ سواء، في الوقت التي صارت الدراسات الجامعية تطرح هذين المفهومين بشدةٍ، فعمدنا إلى تقديم بحثٍ نحسبه أن يكون رفيقا لكل باحث في بنيتي الزمن والمكان في الخطاب السردي.
- كيف تختار نماذج دراساتك؟
عندما يستفزّني نص ما أكتب عنه وأشير إلى منبع الجمال فيه واصفا ومحللا عناصره الأدبية..فأنت عندما تشير للجمال كأنك ترفض - ضمنياً - الركاكة والنص الضعيف، فنشير للجمال حتى تتبعه العين ويصدقه القلب...