ملامح نظام عالمي جديد ستظهر على الأمد المتوسّط
توقّع الدّكتور رضوان مجادي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة تيسمسيلت، بداية تشكل ملامح نظام عالمي جديد، في الأمد المتوسط على الأقل، معتقدا أنّه مازال لم يتّضح بعد إن كانت أمريكا فعلا ستشهد عصر التراجع، وتحل محلها الصين وروسيا والهند، أي نظام متعدّد، مؤكّدا على ضرورة الإصلاح الهيكلي لأنساق المجتمع الدولي، وإعادة النظر في تركيبة بنياتها وتطوير وظيفتها بما يتماشى وحاجات دول وشعوب المحيط وحقوق الأفراد والإنسان كما تتصوّرها الخصوصيات المحلية، انطلاقا من إصلاح الأمم المتحدة بهدف إدارة الصّراع، وقال إن على القارة السّمراء أن تنشئ وتنخرط بدورها في تحالفات إقليمية.
- «الشعب ويكاند»: على خلفية أزمة الغوّاصات الأخيرة بين فرنسا من جهة وأمريكا وأستراليا من جهة أخرى، هل هذا مؤشّر لبداية تغيير الخارطة الاستراتيجية للتّحالفات العالمية التّقليدية؟
الدكتور رضوان مجادي: في مستهل الحديث، علينا أن نقف على تحديد قواعد اللعبة في ترتيب السياسة العامة الدولية، التي تمتاز بالتّجدّد وقدرتها على التكيف مع المستجدات والتحولات الكبرى في النسق الدولي. ولهذا فالأزمة التي نحن بصدد الحديث عنها إنما هي أحد مخرجات ترتيبات أطراف السياسة الدولية، لا سيما حدود التقارب بين النموذجين الفرنسي والأسترالي فيما يخص ترقية السياسة الدفاعية والأمنية، خاصة على مستوى التسلح والجاهزية العسكرية.
وبالتالي، لا تخرج أزمة الغوّاصات عن سياق تجاذبات السياسة العامة الدولية، وتأثير فواعلها المركزيين، أبرز تلك الفواعل المؤثّرة نجد الولايات المتحدة الأمريكية، الطرف الذي أحدث فجوة في العلاقات بين فرنسا كممثل توسّعي للاتحاد الأوروبي، وأستراليا بصفتها بوّابة مهمة لتقويض حركية بعض الاقتصادات الصاعدة في محيطها المجاور.
فأمريكا كفاعل مركزي في صنع السياسة العامة الدولية، مسلَّمة لا خلاف فيها، من منطلق تحليل بعض المؤشّرات المساعدة على تفسير أبعاد سلوك أستراليا في إعادة تكييف اتفاقها مع فرنسا كطرف يعزّز السياسة الأمنية والدفاعية عسكريا ولوجيستيا من جهة، وأهداف الأجندة الدولية لخدمة مصالح أستراليا كفاعل طموح كغيره من الفواعل في محيط المجتمع الدولي، ونباهة الولايات المتحدة الأمريكية كمخطّط محوري في استفحال الأزمة لتقويض المد الأوروبي في المنطقة (عسكريا واقتصاديا)، وإعادة ترتيب سياسات الهيمنة في المحيط من جهة أخرى.
فالفروقات الاقتصادية والعسكرية بين فرنسا وأمريكا واضحة المعالم، ودقيقة في أرقامها ومؤشّراتها، ولهذا، طبيعة التحالفات الدولية تجعل من موازين العلاقة بين أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية أثقل وأشد تأثيرا مقارنة بالعلاقة بينها وبين فرنسا، التي تشهد تراجعا في المشهد السياسي، ويتقهقر مستوى تأثيرها في السياسة الدولية نتيجة تأثّرها بإفرازات الأنساق الفرعية للمجتمع الدولي من ناحية، وتململ علاقاتها بعناصرها (مستعمراتها التقليدية، خاصة الدول الإفريقية المحورية)، مع تراجع أدائها على المستوى الداخلي من ناحية أخرى.
ومن هذا المنطلق، وعلى خلفيات الأزمة في سياق تحليل مضمونها ومحلها من السياسة العامة الدولية وتجاذباتها، في بيئة مستقطبة أو طاردة، خاصة مع الرؤية التي تتبنّاها أمريكا، حري بها أن تعمل على تجديد قواعد لعبتها مع محاور وأطراف المحيط؛ وأستراليا ليست في معزل عنها، في إطار تفعيل إستراتيجية التعاون الدولي في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
فتكيف خارطة الاستراتيجية للتحالفات الدولية أمر حتمي، ومدروس من طرف فواعل الهيمنة والتأثير في المجتمع الدولي. ولو رأينا بعين موضوعية إلى عوامل التغيير في الاستراتيجية، خاصة مع نوايا ومقاصد السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، لوجدناها من إفرازات البيئة الخارجية التي أضحت تشكّل تهديدا صريحا ومباشرا لها.
كانت الحاجة الأمريكية، على إثر أزمة الغواصات مؤخرا، البحث في سبل سياسة التحالف الجديد، والبحث عن الشّركاء الجدد أو الحفاظ على الإرث التقليدي، ما دام أنّ الطّابع البراغماتي الذي يصبغه ثقافة الهيمنة في السياسة الدولية قائما لتحديد جدوى التغيير في التحالفات والنتائج المحتملة من هذه الإستراتيجية بالأساس، الأمر الذي يحيلنا على محدّداتها ما بعد جائحة كورونا في ظل تصاعد قوى تقليدية بثوب جديد، تلك القوى ما فتئت تهدّد الفواعل المركزية في صنع السياسة الدولية؛ إن على المستوى الاقتصادي والسياسي التّوسّعي على حد سواء.
إعادة ترتيب السّياسة الاقتصادية
- ألا تعتقد أنّه من الممكن بعد تجاوز الجائحة صعود قوى جديدة تنافس القوة العالمية الأولى (أمريكا)، وبالتالي تغير موازين القوى حيث يصبح للاقتصاد والتقدم التكنولوجي تأثير في وزن الدول؟
عطفا على ما تمّ التطرق إليه في السابق، من العوامل والإفرازات والقيم التي تنتجها البيئة الخارجية للسياسة الدولية كموضوع تحليل رئيسي في هذا المقام، هو ما يسمّى بتحولات الاقتصاد العالمي في مضمار استثمار المعرفة، وما خلّفه من مفاهيم حظيت برعاية وعناية بالغة الأهمية نظرا لمكانتها واستخدامها الخاص في عز انتشار الجائحة، وما صاحبه من ركود تجاري وصناعي رهيب أخلّ بحاجات المجتمع الدولي، أفرادا وحكومات.
كان من الضّروري انتهاج خيار آخر لإعادة ترتيب السياسة الاقتصادية الدولية، وتوظيف أجنداتها في نسق العلاقات بين الدول، هذا الخيار بات مطروحا ومتحكّما فيه من طرف القوى المنافسة والمهددة لأمريكا، الأمر الذي أولى أهمية بالغة لما يسمى بالاقتصاد المعرفي الناجم عن الاستثمار الأمثل والاستغلال الجيد لقيم التكنولوجيا من طرف القوى الصاعدة في أفق وملامح نظام دولي جديد يحتمل قيامه وتشكيله بناء على استراتيجيات فواعل المحيط.
بلغة الأرقام والإحصائيات، يشكّل المحدد المعرفي والاستثمار التكنولوجي في الوقت الراهن جسد الاقتصاد العالمي؛ أي ما يزيد عن 21 % من صادرات التصنيع والتحويل التكنولوجي في دول العالم سنة 2020، مع تسجيل قيمة إيرادات الاستثمار التكنولوجي ما يتجاوز سقف 2.5 تريليون دولار أمريكي.
وتتصدّر الصين الترتيب بنسبة تفوق: 32 % مع تصاعد منحنى الاستثمار، حسب آخر تحديث لمعطيات البنك الدولي، وتحصيلها لفوائد قدّرت بـ: 757,723,684.19 دولار أمريكي، مقارنة بأمريكا الشمالية مشكلة لدول كثيرة، والمتأخّرة عنها بنسبة تقدّر بـ: 20 % وتنقاد مؤشراتها إلى الحضيض، أي تسجيل قيمة 169,530,871.71 دولار أمريكي، والفرق يبدو واضحا، والذي لن تتقبله أمريكا المهيمنة والمسيطرة في اعتقادها ومخيالها السياسي.
وعلى هذا الأساس، يشير الوضع إلى محورية الصين كقوة اقتصادية صاعدة ومتفوقة في الاقتصاد المعرفي والإنتاجية والتسويق في سياق التوسع في السياسة الاقتصادية الدولية، ويمس ذلك التصدير حتى المجالات العسكرية، كمحدد تقوم عليه علاقات الدول و التحالفات من فترة زمنية إلى أخرى، ممّا يعني انعكاس التجدد المعرفي الاقتصادي والتكنولوجي (دينامية الثورة التكنولوجية) على المجتمع الدولي وسياساته العامة، ممّا يفرض تغييرات طارئة على مفاهيم القوة الصلبة والسلطة والهيمنة في هرم العلاقات بين الدول ومستويات السياسة الدول.
-يتوقّع على الأمد المتوسّط أن تبدأ ملامح نظام عالمي جديد في التبلور والظّهور، هل تشهد أمريكا عصر التراجع ويحل محلها الصين وروسيا والهند؛ أي نظام متعدّد؟
في الحقيقة، لا يمكن أن نحكم على تراجع الفواعل المركزية في النظام الدولي، لسببين رئيسيين؛ الأول يتعلق بطبيعة التنظيم الدولي الذي تحكمه قواعد وتوجهات وأيديولوجيات الولايات المتحدة الأمريكية في مختلف الأصعدة والمستويات.
ومنه تبقى أطروحة تراجع أمريكا قائمة كافتراض يحتاج إلى دراسة جدوى التغيرات في سياساتها الخارجية مع الدول المحورية في المحيط، كما لا يمكن الحديث عن حلول الصين وروسيا والهند مثلا كقوى صاعدة محل أمريكا في النظام العالمي الجديد، وإنما يمكننا الحديث عن تغير طبيعة العلاقات بين الدول المركزية ودول المحيط وموقعتها في هرم السياسة العامة الدولية، وأي منها مصنع ومصدر للقيم والأيديولوجيات وأيها مستهلكة، الطرح الذي يحيلنا على هامش المنافسة الدولية والاستقطاب في رسم استراتيجيات جديدة للتحالفات التي تنبني على الشراكة أو الهيمنة والخنوع.
الحفاظ على مكاسب القوّة في النّظام الإقليمي
- يجري حديث عن بروز تحالفات إقليمية، ما مدى تأثير ذلك على السياسة الدولية؟
هناك مساع حثيثة لبعض دول المحيط الهادفة إلى بناء علاقات تعاون في إطار البحث عن مصادر القوة والفرص في البيئة الإقليمية لتبوّأ مكانة وتأدية دور بارز في السياسة الدولية في مختلف المجالات والأصعدة.
إذن، يبقى تأثير تلك التحالفات وجوانبها في الاستقطاب مرهونا بأهدافها ومدى عقلانية خياراتها المنتهجة من قبل أطرافها في المركز أو المحيط، أبرز الأهداف هو تشكيل سد منيع للخطر والتهديد الذي يثقل كاهل الأطراف المركزية على وجه الخصوص، ثم الهدف الثاني يسعى إلى الحفاظ على مكاسب القوة في النظام الإقليمي في علاقته بالنظام العالمي، سواء ارتبطت القوة بالجانب الاقتصادي أو السياسي أو العسكري.
غير أنّ هناك جانب سلبي لهذه التحالفات؛ كيفما كان نوعها، كونها تشكّل مصدر القلق والاضطراب في أنساق المجتمع الدولي، وتساهم في نقل الصراع القائم بين دول المركز في السياسة الدولية إلى دول محور المحيط.
تشكيل تحالفات إقليمية للقارّة السّمراء
- كيف يتسنّى للعالم بناء نظام عالمي جديد عادل ومنصف تختفي فيه الحروب وتضمحل فيه الأطماع والمؤامرات؟
الرجوع إلى تاريخ الحروب، لا سيما الحربين العالميتين الأولى والثانية، وجوهرية الحرب الباردة التي لا زالت تمتد قيمها ونعراتها الإيديولوجية إلى اليوم، سيقدّم لنا استنتاجات واستخلاص شافي ووافي عن علاقة النظام العالمي الجديد بالظروف المستقرة، من دون البحث والتفتيش في ثناياها وأسبابها ونتائجها، وإنما نكتفي فقط بذكر الحجج التي يتصارع حولها أبنية النظام الدولي.
فقد كانت ولا زالت تدور حول تصدير النموذج الأيديولوجي (في شقيه السياسي والاقتصادي) حسب رؤية كل فاعل مركزي بشتى السبل والآليات، والراجح أنها اقتصرت على إثارة الفوضى واستفحال الأزمة لإدارة الصراعات عسكريا، ما يحيل على فرضية الحرب التي ظلت محققة في إطار التنازع على فرض هيمنة ما يسمى بالحضارة في دول المحيط.
وعن السبيل الوحيد لبناء «نظام عالمي جديد عادل ومنصف» تختفي في الحروب، وتغيب عن رؤى الفواعل المركزية الأطماع والمؤامرات، نجده محصورا حسب رؤيتي المتواضعة في ضرورة الإصلاح الهيكلي لأنساق المجتمع الدولي، وإعادة النظر في تركيبة بنياتها وتطوير وظيفتها بما يتماشى وحاجات دول وشعوب المحيط وحقوق الأفراد والإنسان كما تتصوّرها الخصوصيات المحلية، بدءا من إصلاح الأمم المتحدة التي نراها بأنها وجدت وأنشئت في سياق أيديولوجي متحيز ومتمركز من أجل إدارة الصراع والحرب بدل حلها، وشتان بين هذا وذاك.
- إفريقيا قارّة محورية من حيث الموقع ومن حيث ثرائها، وتمتلك مقوّمات النّهوض وقواسم التّحالف، هل ترى إمكانية تحقّق ذلك؟
دفعتني من خلال هذا السؤال إلى الحديث عن فقر دول المحيط أو بيئتها الفقيرة. هذه الازدواجية أضحت وليدة الصّراع في المنطقة الأفريقية ودولها قاطبة، ممّا جعلها تغرق وتهوي إلى قاع سحيق حال دون النهوض بحضارتها، فالمسألة لا تتعلق بفقر المجتمعات والشعوب الأفريقية، وإنما حالها رهين للاستغلال والاستدمار الممنهج من طرف دول وفواعل المركز في السياسة الدولية والنظام العالمي.
وعن إمكانية تحقّق أركان النهضة التنموية في القارة الأفريقية يبدو قابلا للتحقق والتجسيد من خلال تشكيل تحالفات إقليمية بين دول القارة المتجاورة جغرافيا والمشتركة في أهدافها واستراتيجياتها الاقتصادية والأمنية، ثم التخلص من الهيمنة الثقافية التي بسطتها غصبا بعض الدول المركزية التقليدية الآيلة إلى الدفن، والتخلص منها مرهون بإرادة الدول الإفريقية، وتشخيص عوامل فقرها وقبرها في سجل التاريخ الإفريقي كإرث مشترك.