البيروقراطية والمستثمرون الوهميون وراء مشكل العقار الصناعي
يتطلّب قطاع الإسثمار في الجزائر تحسين مناخ الأعمال وتعزيز المجالات غير الطاقوية، ومنح ضمانات للمتعاملين الاقتصاديين في الداخل والخارج لتجسيد مشاريع منتجة، ما من شأنه المساهمة في إنعاش الاقتصاد الوطني وإرساء شراكة حقيقية وقوية مع المصنعين الخواص. قال رئيس الاتحاد الوطني لأرباب العمل والمقاولين محمد يزيد ملياني في حوار مع «الشعب ويكاند» أن قطاع الاستثمار في الجزائر يعيش في مرحلة انتقالية، ويتوجّب وضع ميكانيزمات وتجسيد فعلي للمخططات الإستثمارية والإقتصادية، مشيرا أن هذا القطاع شابته سابقا اختلالات كثيرة حالت دون استغلال العقار الصناعي بشكل إيجابي، متعلقة ببيروقراطية الإدارة وتجاوزات المستثمرين الوهميين.
- «الشعب»: كيف تقيمون واقع الاستثمار في الجزائر السنوات الأخيرة، وما أسباب تأخر إنعاشه؟
محمد يزيد ملياني: قطاع الإستثمار في الجزائر من الناحية القانونية ينظّمه القانون المتعلق به الذي سوف يُعرض على البرلمان للمصادقة عليه، أما من الناحية الإجرائية فلا يمكن للعملية الاستثمارية أن تنجح للمتعاملين الإقتصاديين الجزائريين أو لنظرائهم الأجانب ما لم يتوفر لذلك مناخ ملائم للأعمال، كمراجعة النظام المصرفي، ومواجهة المضاربة في السوق التجارية، ومراجعة أسعار الصرف، وتفعيل نظام البورصة في إنشاء الثروة، وتحقيق ميكانيزمات ناجعة للاستغلال الأمثل للعقار الصناعي، وحماية القدرة الشرائية للمواطن كونها الإطار المحدّد للقدرة الاستهلاكية وغير ذلك.
وقانون الإستثمار بصفة عامة هو الإطار التشريعي الذي يضبط الأنظمة التطبيقية المتعلقة بالإستثمارات الوطنية والأجنبية المنجزة ضمن النشاطات الإقتصادية المنتجة للسلع والخدمات.
- ما هي الاقتراحات التي قدّمها إتحاد أرباب العمل والمقاولين لإصلاح قطاع الاستثمار، وهل هناك حوار وتواصل بين النقابات والوزارات المعنية؟
باعتبار أن الإتحاد الوطني لأرباب العمل والمقاولين منظمة نقابية وطنية، وشريك اقتصادي لمؤسسات الدولة في القطاع، وقوة اقتراح، نعتقد أن معالجة التعثر الذي تعيشه الجزائر في مجال الإستثمار ليس بالأمر الصعب، سيما مع ثراء برنامج رئيس الجمهورية الذي وضع اللمسات الحقيقية لمنطق المعالجة، لكن تبقى الميكانيزمات التي سوف تتخذها الحكومة بصفتها الجهاز التنفيذي والرهان الحقيقي في تحقيق هذا المسعى، والواجب أن تراعي الحكومة حسن تطبيق تلك الميكانيزمات. كما أن عملية الدفع بعجلة الإستثمار ترتكز على استقرار المستوى المعيشي للمواطن، كون أن الضغوطات الإجتماعية تولد الإحتقان السياسي وكل ذلك يؤدي إلي اختلال الموازنة في دراسة الجدول الزمني للعملية الإستثمارية المرتقبة.
وبخصوص التواصل بين النقابات والوزارات المعنية، ظاهريا لا يزال بيت لقمان على حاله، ونأمل أن تعمل مؤسسات الدولة على طلب الاستشارة وإشراك النقابات التي بمقدورها تقديم أدوار ايجابية في السياق، كونها قوة اقتراح وشريك اقتصادي واجتماعي، كما أننا لا ندري ما هي الأسباب التي تحول دون فتح مختلف الوزارات مجال الحوار وتوسيع دائرة النقاش لبحث الحلول الممكن طرحها لمختلف الإشكالات الموجودة والمحيطة بالإقتصاد الوطني وقطاع الاستثمار.
النقابة هي قوة اقتراح حقيقية، ومن هذا المنطق سبق وأن قدم الإتحاد الوطني لأرباب العمل والمقاولين عدة مقترحات لوزارات التكوين والتعليم المهنيين، والموارد المائية والثقافة قبل التغيير الحكومي، إلاّ أن مقترحاتنا كانت مجرد ورقة عبور لدى الوزارات المعنية لا غير، وكأن عملية تحريك عجلة الاقتصاد لا تعني القائمين على بعض القطاعات، وبرغم ذلك لا يزال الإتحاد يحمل مشعل الوطنية والإصلاح للاقتصاد الجزائري، ودعم البرامج التي تتبناها الدولة.
- حدثنا عن العراقيل التي واجهها المستثمرون وحالت دون انطلاق مشاريعهم، رغم تسوية وضعياتهم المتعلقة بالعقار الصناعي؟
هناك اختلالات كثيرة حالت دون استغلال العقار الصناعي بشكل إيجابي أكثرها تعلق ببيروقراطية الإدارة، والبعض الآخر تجاوزات من طرف مستثمرين وهميين، حيث كان من الأجدر على المسؤولين في هذا المجال دراسة الطرق المثلى التي تحول دون الوقوع في مثل هذه المطبّات التي نتج عنها قرارات استرجاع العقار بعد مرور فترة طويلة من الزمن، والخشية من خلال ذلك الوقوع مرة أخرى في نفس المشكل مستقبلا ما لم تتمّ دراسة الجدوى بشكل صحيح، وإعادة النظر في طريقة منح العقار الصناعي محل التفاوض والتنازع.
الإتحاد الوطني لأرباب العمل والمقاولين من خلال الوضعية الهيكلة التي تمثلها هيئاته الاستشارية الوطنية داخل التنظيم، استطاع أن يحصر إشكال العقار الصناعي بشكل جيد، حيث تمكّن من إيجاد حلول منطقية وعملية وعلمية يمكن أن تستغلها الحكومة أحسن استغلال، وتتمكن بالتالي من خلق 50.000 منصب عمل خلال السنة بعد تسوية العقار في شقه المتعلق بالتهيئة، والمنوط بالوكالة الوطنية للوساطة والضبط العقاري.
- ما هي اقتراحاتكم لتحسين مناخ الأعمال في الجزائر وجذب المستثمرين الأجانب؟
لا يمكننا كمتعاملين اقتصاديين جزائريين أن نفكر في بادئ الأمر بجذب المستثمرين الأجانب من دون مراجعة قدراتنا المحلية والوطنية حيال ملف الإستثمار، فالمستثمر الأجنبي ما هو إلاّ قيمة إضافية يمكن الإستعانة بها عند الضرورة، خاصة إذا تعلّق الأمر بالتحوّل التكنولوجي، أو الإستعانة باليد العاملة المؤهلة، أو في إطار اتفاقيات تبادل مصالح بين الجزائر والدول المتعاقد معها.
أما بالنسبة لتحسين مناخ الأعمال فلا يمكن تحقيقه إلا بعد لملمة صفوف المتعاملين الإقتصاديين والإهتمام بمصالحهم، من خلال التفاتة جدية لمؤسسات الدولة المعنية بالقطاع نحو النقابات الممثلة لأرباب العمل، باعتبار أن الاهتمام بها يصبّ حتما في المصلحة العامة، وتنمية الإقتصاد الوطني في كامل مراحله بشكل تناسقي وتكاملي، بعيدا عن الإختلالات التي قد تضرّ به من قريب أو بعيد.
البرامج الصناعية والسياحة والفلاحة والتجارة وغير ذلك لا مجال لتطويرها من دون أن يكون الإقتصاد شاملا ومتكاملا يُجسّد ميزان مدفوعات كصمام أمان للتجارة الخارجية، ليضيق الخناق بالمضاربين وترتفع نسب القدرة الشرائية للمواطن، سيما إذا كلل النجاح بتخفيض تكاليف الإنتاج المؤدي لاستقرار الأسعار في ظلّ خلق أجواء تنافسية إيجابية، بعيدا عن الزيادة في الأجور التي قد تضرّ بالإقتصاد وتؤول به إلى التضخم النقدي. ومن خلال ذلك اضطلاع كل العمليات الإنتاجية بخلق القيمة المضافة عن طريق استغلال المواد الأولية الوطنية، ويكون تصدير الفائض إلى السوق الخارجية بضمان وتأطير النظم والميكانيزمات الناجعة.
ووفق ما سجله الإتحاد من توصيات خلال الملتقى الذي نظّمه حول الرهانات الإستراتجية والتطلعات الإقتصادية في الجزائر المنعقد بتاريخ 25 جانفي 2020، فإن المخططات الوطنية عليها أخذ بعين الإعتبار استرجاع المؤسسات العمومية وترقيتها، والدفع ببعض الشركات العمومية إلى نظام الشراكة المزدوجة العمومية الخاصة، كما أن رقمنة النظام المصرفي والضريبي يبقى في طليعة الاحتياجات الضرورية للتسريع من وتيرة النمو الإقتصادي في شتى المجالات.
- الصناعة الوطنية لا تزال دون المستويات المأمولة، لماذا؟ وما هي اقتراحكم لإعادة بعثها من جديد؟
الصناعة في الجزائر كما هو في سائر دول العالم رهينة صانع القرار المتخصص في القطاع، وسياسة التجربة والخطأ التي انتهجت ودأبت على خصخصة المؤسسات وإتلاف قاعدة الصناعة التي شهدت تطورا مثاليا خلال حقبة الرئيس الراحل هواري بومدين، وكذا تغليب القرار السياسي على القرار الاقتصادي تعتبر من ضمن العوامل التي أثرت على الإستثمار في مجال الصناعة في مرحلة ما قبل الإنتخابات الرئاسية 12 / 12 /2019، لا سيما بعد التراجع في رقم الأعمال الوطني المسجل بعد اكتشاف مجموعة المصنعين الوهميين وإحالتهم على العدالة في قضايا فساد، وتحويلهم لأموال الإقتصاد الجزائري خارج الوطن. وفي ظلّ ما وقع بالإقتصاد الوطني لا تزال الجزائر قوية بثرواتها الطبيعية ومقوماتها الإقتصادية، ومؤهلات وقوة معتقد متعامليها الإقتصاديين المعتبرين عنصرا أساسيا في الإنطلاقة الفعلية نحو الإقتصاد الجديد المنتج وغير المستهلك.
أما في مجال الصناعات التحويلية المنجمية، والصناعات البتروكيماوية والميكانيكية والتحويلية الغذائية والطاقات المتجددة وإعادة التدوير، أصبح من الضروري دمجها بالمحتوى العلمي من خلال مراكز البحوث المتخصّصة، والعمل والتنسيق مع أصحاب القرار على المستوى الحكومي، وكذا المتعاملين الإقتصاديين بحسب التخصصات في المجالات الإستثمارية الصناعية.
- شروع الجزائر في إصلاحات هامة تهدف إلى إنعاش اقتصادي شامل يرتكز على تنويع الصادرات خارج المحروقات، كيف تقيمونه؟
حقيقةً نقدّر جهود السلطات العليا في الجزائر ضمن إطار بعث النظام الإقتصادي الجديد خارج مجال المحروقات، ولاسيما تفعيل الصادرات على الواردات، وإعطاء الأولوية للمنتوج المحلي الوطني على الأجنبي، إلاّ أن هذا الأمر يتوجّب وضع ميكانيزمات وتجسيد فعلي للمخططات المرتكزة أساسا على الصناعة، كما قدمنا اقتراحا للسلطات في هذا الصدد بتفعيل دور الحكومة في تأهيل الصادرات من خلال مرافقة استشرافية وإشراف تطبيقي للدبلوماسية الإقتصادية.
وفي لقاءات الإتحاد الوطني لأرباب العمل والمقاولين مع عدد من سفراء دول الساحل والصحراء التي جرت مؤخرا في إطار التحضير لتفعيل اتفاقيات مناطق التجارة الحرة، تمّ الإعلان عن تنصيب الهيئة الإستشارية العليا للدبلوماسية الإقتصادية بالمكتب الوطني للإتحاد، ومتكونة من دكاترة ومختصين وخبراء اقتصاديين، استعدادا لمرحلة الإنعاش الإقتصادي الحقيقي ومرافقة لبرنامج الحكومة المُراد نجاحه.
- كيف يمكن تحسين وضعية الإنتاج الصناعي الوطني وتحقيق القيمة المضافة؟
القيمة المضافة في الاقتصاد هو التحوّل الإضافي الذي تشهده السلعة من بداية إنتاجها إلى نهايتها، وعلى سبيل المثال إضافة عناصر التصنيع لسلعة ما في سياق العملية الإنتاجية لتصبح السلعة نفسها بشكل مختلف. أما تنويع الصادرات خارج المحروقات يستوجب فيه دائما خلق القيمة المضافة لتكون هناك عملية إنتاجية ناتج عنها التصدير للفائض، بلوغا عند ذلك الاكتفاء ذاتي لأن بلادنا بحاجة لكل السلع الإستهلاكية، مع مراجعة القدرة الشرائية للمواطن وخلق فرص التنافسية الإيجابية بين المصنعين والمنتجين.
- لاحظنا اهتمام إتحاد أرباب العمل والمقاولين بالإستثمار في الخارج وكان لكم لقاءات بسفراء دول الساحل، هل هناك خيارات اقتصادية جديدة؟
لدعم وإنجاح برنامج الحكومة قمنا بتحضيرات ولقاءات مع سفراء دول الساحل للعمل على اقتحام السوق الإفريقية، إذ يعد هذا الاختيار جد مهم للجزائر، خاصة أن إفريقيا تعد أولوية بالنسبة للاقتصاد الوطني من الناحية الجيوستراتيجية.
كما تعد الجزائر فعليا بوابة للقارة السمراء بإمتلاكها لطريق الوحدة الإفريقية شمال - جنوب، وتصدرها جغرافيا بوابة البحر الأبيض المتوسط، وتميز السوق الإفريقية بثرواتها المعدنية والطبيعية وخصوبة العلاقات التجارية معها، وكل ذلك يؤهل الجزائر لتنويع صادراتها خارج المحروقات، إضافة إلى كونها عضو مهم وبارز في الإتحاد الإفريقي، ودليل ذلك ما حققته دبلوماسيتها مؤخرا من نجاح في برمجة جلسة للنظر في قرار منح إسرائيل صفة مراقب، والظفر بتحقيق الهدف.
وقد ذهبنا إلى أبعد حد بربط العلاقة العملية مع بورصة الجزائر، والبحث عن إنشاء بورصة المقايضة بعدما يتمّ تقديم المقترحات في ذلك إلى السلطات المعنية، حتى نعمل مع الدول الإفريقية بنظام رابح رابح.
ونؤكد هنا على ضرورة الأخذ بعين الإعتبار فتح المعابر وخطوط النقل نحو الدولة الشقيقة ليبيا، في إطار إعادة الإعمار والإستثمار السياحي، وتصدير القدرات الإنتاجية الجزائرية، سيما في مجال الإنتاج المقاولاتي، وهذا ما لمسناه في لقائنا مع القائم بالأعمال في سفارة ليبيا، الذي أبدى شغفه وأمله لانطلاق العلاقات الاقتصادية بين المتعاملين الإقتصاديين الجزائريين والليبيين، مع تسوية الأوضاع الاجتماعية من خلال فتح خطوط النقل ليتم دخول الجزائريين لليبيا، التي تشهد حاليا إقبالا كبيرا من المستثمرين الأجانب، على أمل أن تكون الجزائر على رأس قائمة الدول المستثمرة بها والظفر بأكبر قسط من مشاريع الإعمار المنتظرة مباشرة بعد الإنتخابات الرئاسية المزمع إجرائها نهاية السنة الجارية.
- توجيه البوصلة الإقتصادية نحو إفريقيا، هل حان وقته؟ وما الذي يقتضي عمله لاقتحامها اقتصاديا وفلاحيا وتجاريا وسياحيا؟
فعلا تمّ توجيه البوصلة نحو قارة إفريقيا، ولا أظن أن الجهود التي بذلتها الجزائر من أجل تحقيق ذلك سوف تذهب سدا، وما علينا الآن إلا أن نحترم المخطط الرامي إلى اقتحام هذه السوق في كامل المجالات، ولدينا على سبيل المثال النموذج المتعلّق بليبيا حتى نقوم بتقييم وتجهيز إمكاناتنا التي سيتم توظيفها في هذا الإطار، فالدولة الليبية تنتظر الكثير من المتعاملين الإقتصاديين الجزائريين.
وفي هذا الصدد لابد من فتح المعاملات الإستثمارية لعامة المتعاملين الجزائريين بإشراك نقابات أرباب العمل والمقاولين، وكذا إنشاء منصة رقمية معلوماتية وشباك وحيد، يكون بمثابة القاعدة البيانية لكل التسهيلات والإجراءات الواجب اتخاذها في هذا السياق الاستثماري والإقتصادي الخارجي.
- حقّقت الجزائر مداخيل قاربت 05 مليار دولار خارج المحروقات هذه السنة، هل هي بداية الانطلاقة للمرحلة الإقتصادية الجديدة، سيما مع المخطط الحكومي الذي أبرز مسألة تطوير الدبلوماسية الإقتصادية والتصدير للخارج وتشجيع الإستثمار؟
نعم، كلنا أمل في أن تحقق الجزائر أكبر مداخيل خارج المحروقات، وما يزيدنا تفاؤلا في ذلك هو برنامج الحكومة الجديد المرتكز على تنويع الصادرات الخارجية، ويتطلّب الأمر دراسة أكثر إستراتيجية وعمقا تكون مرهونة بتوقيت زمني متوسط المدى أو حتى قصير المدى، حتى نستدرك مسار الركب الاقتصادي لعدد من الدول ونخرج إلى شاطئ السلامة الاقتصادية، بعيدا عن كل التهديدات التي تحدق بالجزائر في ضوء الصراعات على المصالح التي تشهدها الساحة السياسية الإقليمية. ومن ثمّ المضي قدما نحو مواكبة التطوّر التكنولوجي المرتبط بالعمليات الإنتاجية في شتى القطاعات والميادين الصناعية، وتوجيه الاهتمام بمراجعة الاحتياجات الإستهلاكية ومواكبة النمو الديمغرافي في البلاد.