يرى الخبير في العلاقات الدولية والجيوسياسية الدّكتور مصباح مناس، أنّ الاتهامات التي كالها الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون للجزائر، شعبا، قيادة ومؤسسة عسكرية، تجاوزت كلّ الخطوط الحمراء، ولا يمكن وصفها إلا «بالسقطة الكبيرة»، مبرزا أنّه «قد حان الوقت ليستوعب الفرنسيون أن هناك دولة مستقلة ووازنة إسمها الجزائر، ويجب عليهم أن يعيدوا النظر في الكثير من قواعد العلاقات الجزائرية - الفرنسية، خاصة وأن السياسة الفرنسية لا تزال تحت سيطرة جناح مشبع بالفكر الاستعماري والاستعلائي»، ليؤكد على أن تحسّن أو تأزم العلاقات بين الطرفين مرهون بتحرك فرنسا وبالخطوات التي ستقوم بها مستقبلا.
- «الشعب»: أطلق الرئيس الفرنسي تصريحات مستفزة وغير مسبوقة تجاه الجزائر، كيف تفسرون هذه «الخرجة» المتحاملة على الجزائر شعبا، قيادة وجيشا في هذا الوقت؟
د.مصباح مناس: أعتقد أن لها أسبابا كثيرة، أوّلا فإن تصريحات الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون تحمل تداعيات داخلية متعلقة بالدّرجة الأولى بالوضع الداخلي الفرنسي المتردي، سواء الاقتصادي أو الاجتماعي، يضاف له عامل آخر له علاقة مباشرة بالانتخابات الفرنسية المقررة ماي 2022، ومحاولة منه لتوظيف هكذا أزمات في الحملة الانتخابية، يضاف لها أيضا عوامل خارجية وهي الانتكاسة التي تعرضت لها فرنسا فيما يتعلق بقضية الغواصات مع أستراليا. أيضا تنامي وعودة الجزائر بقوة إلى الساحة الدبلوماسية، خاصة على مستوى القارة الإفريقية وغيرها. أضف إلى ملف الذاكرة، الحاضر دائما في العلاقات الجزائرية - الفرنسية، فكيف لدولة اعتذرت رسميا فيما يتعلق بالإبادة في رواندا، لا تعترف بجرائمها التي اقترفتها في الجزائر على مدار 132 سنة. يأتي هذا في وقت قدّمت رئاسة الجمهورية رقما يتعلق بعدد الشهداء الجزائريين منذ دخول فرنسا الجزائر سنة 1830.
إذاً، هي كلها عوامل دخلت على الخط فيما يتعلق بالعلاقات الجزائرية - الفرنسية. واعتقادي أن تصريحات ماكرون سقطة، بغض النظر عن كل هذه الأسباب، بل وسقطة كبيرة، فكان يفترض على ماكرون أن يأخذ بعين الاعتبار المصالح بين الطرفين، وأيضا المسعى الحسن الذي قام به رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون من خلال فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، وتثمين وجود ماكرون رئيسا للجمهورية الفرنسية. لكن واضح تماما أن هناك جناح متطرف في الرئاسة الفرنسية مازال لديه النظرة الاستعمارية، ولا يزال يعتقد أن الجزائر هي منطقة نفوذ فرنسي ويحلم بأشياء كثيرة. فكل هذه المعطيات يجب أن تتغير، ويجب على الفرنسيين أن يفهموا ويستوعبوا أن هناك دولة مستقلة ووازنة إسمها الجزائر، ويجب عليهم أن يعيدوا النظر في الكثير من قواعد العلاقات الجزائرية - الفرنسية.
- ردت الجزائر على هذا التصريحات سريعا، باستدعاء سفيرها بباريس. في نظركم، هل تتجه الأمور للتصعيد؟
الجزائر استدعت سفيرنا بفرنسا، وهو إجراء دبلوماسي قوي، وهو أقل شيء يمكن أن تفعله. وتنتظر تحركا فرنسيا في المستقبل القريب لتصحيح هكذا سقطات. وفي كل الحالات تلتزم الجزائر بسياسة ضبط النفس تجاه علاقاتها مع فرنسا، لكن تحسن العلاقات أو تأزمها مربوط بالتحرك الفرنسي وردة فعلها، لأن فرنسا هي التي تسببت في الأزمة وليس الجزائر؛ بمعنى آخر تحسن أو تأزم العلاقات مرهون بتحرك فرنسا وبالإجراءات التي ستقوم بها مستقبلا.
- «التحرّشات» الفرنسية بدأت باعتراف ماكرون بالحركى، وبعدها تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين للنصف، وانتهت بتحامل خطير من قبل نزيل الإليزيه تجاه الرئيس؟
الرئيس الفرنسي تجاوز «الخط الأحمر» باستهدافه رئيس الجمهورية الجزائرية، وهو رمز من رموز السيادة الوطنية. أيضا لقد استهدف المؤسسة العسكرية، واتهمها بأنها تغرس ما يسمى بثقافة الحقد والكراهية لفرنسا، وهو أمر غير صحيح، لأن هذه الثقافة، وإن وجدت، فهي مرهونة بالتّجاوزات والسلوكات الفرنسية التي تجذرت هنا في الجزائر على مدار 132 سنة.
وبرأيي، فإن تحسين صورة فرنسا لدى الشعب الجزائري مرهون بتغيّر جذري في السياسة الفرنسية، التي لا تزال تحت سيطرة جناح لا يزال مشبعا بالفكر الاستعماري والاستعلائي، وبالتالي فإن الوصول إلى الخط الأحمر وهو رئيس الجمهورية، أمر لن تمرّ عليه الجزائر مرور الكرام، كما لن تمرّ على استهداف الجيش سليل جيش التحرير الوطني، وهو من نقاط الإجماع، كما هو الحال بالنسبة لمنصب رئيس الجمهورية بالنسبة لكل الجزائريين.
- ألا تعتقدون أن هذا التصعيد ضد الجزائر، هو امتداد لمحاولات المدّ الصهيوني في منطقة المغرب العربي، باستهداف الجزائر؟
يجب أن لا ننسى وجود نفوذ إسرائيلي داخل فرنسا، وهو ليس بالأمر الجديد. وربما تأزم العلاقات وقطعها مع المغرب الحليف التاريخي لفرنسا، هي كلها لعبة تستهدف الجزائر. والأزمات المتواجدة على الجغرافيا المحيطة بالبلاد، يضاف لها الأزمة مع المغرب واليوم مع فرنسا، هي ضريبة مواقفنا الثابتة، في مقدمتها القضية الفلسطينية وقضية الصحراء الغربية، وضريبة توجهنا الجديد فيما يتعلق ببناء شراكات جديدة مع دول صاعدة، ومؤثرة كالصين، فكلما تعاظمت العلاقات الاقتصادية مع الصين ومع أطراف أخرى، على غرار مع روسيا وحتى مع الولايات المتحدة الأمريكية، سيؤثر على العلاقات مع باريس، لأنها لعبة منافسة ومصالح.
- كيف ترون مستقبل العلاقات الجزائرية - الفرنسية في المديين القريب والبعيد؟
أعتقد أن الكرة في ملعب الطرف الفرنسي، لأن من افتعل الأزمة هي فرنسا، وإذا ما أرادت أن تحسّن علاقاتها مع الجزائر، وأن تحافظ على الكثير من مصالحها، يحب عليها أن تعدل عن سلوكها في تعاملها مع الجزائر، وأن لا تتجاوز الخطوط الحمراء والإساءة للرموز وتستهدف الرئاسة ومؤسسة الجيش. يضاف إلى ذلك، فإن مرحلة الاستعلاء انتهت، وعلى فرنسا أن تبني تصورا جديدا في علاقاتها مع الجزائر، لأن التوجه الجديد الذي مضت فيه الجزائر لن تتراجع عنه، وهو تنويع الشراكات والعلاقات وهو ما يجب أن تقبل به فرنسا في إطار منافسة مشروعة وشريفة مع الجميع.
في كل الحالات، أظن أن الفرنسيين سيغيرون ويعدلون عن هذا السلوك، ربما العودة إلى المربع ستكون مع الانتخابات الفرنسية القادمة. وأظن أن حظوظ ماكرون تتراجع كثيرا، خاصة مع الانتكاسة الكبيرة في صفقة الغواصات مع استراليا وتراجع الأداء الاقتصادي والاجتماعي، رغم أن افتعال هكذا أزمات يعمل على محاولة رفع شعبية الرئيس الفرنسي، لكن أظن أن الانتخابات القادمة الفرنسية ستفرز رئيسا جديدا بالإليزيه.