على الجوار رسم استراتيجيات علاجية ووقائية
الجزائر مطالبة بتكييف عقيدتها الأمنية في إطار التّمسّك بثوابتها
يعتقد الدّكتور مجادي رضوان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة سعيدة في حوار مع «الشعب ويكاند»، أنّ السّاحل الإفريقي تحوّل إلى بؤرة توتّر خطيرة نتيجة تصادم مصالح قوى كبرى حوّلت المنطقة كلّها إلى حلبة صراع من أجل الاستحواذ على ثروات ومفاصل الاقتصاد الإقليمي والقاري. وقد وجد التّوتّر - حسب الدكتور مجادي - العديد من العوامل التي تغذّيه وتؤجّجه كالحروب الأهلية، والصّراعات الإثنية، والجريمة المنظّمة، والانقلابات العسكرية، والنّزاعات المسلّحة والحركات الإرهابية والانفصالية...
وبالرغم من سوداوية الوضع، واعتقاده بأنّ التّوتّر في السّاحل الإفريقي عصي على الحل الفوري الشّامل والنّهائي، فإنّ الدكتور مجادي رضوان يوصي بتجنّد مختلف الفواعل في محور المنطقة، لا سيما دول الجوار لرسم استراتيجيات علاجية ووقائية تجاه التطورات والمستجدات الأمنية.
ويضيف «أنّ الجزائر اليوم مطالبة، بتكييف عقيدتها الأمنية مع التّغييرات الطّارئة في الأنساق الجوارية من السّاحل الإفريقي والصّحراء الكبرى، في إطار التمسك بثوابت ومبادئ سياستها الخارجية.
- الشعب ويكاند: لماذا هذا التّنافس الدولي على منطقة السّاحل الإفريقي والصّحراء بين الدّول الكبرى؟
الدكتور رضوان مجادي: الإجابة على هذا السؤال تقتضي منا تفسير العوامل التي أدت إلى استهداف منطقة الساحل الأفريقي والصحراء، العوامل الكفيلة بتبرير نوايا القوى الكبرى والأطراف الدولية من خلال تواجدها ونفوذها القوي والدائم، ورغبتها في تشييد حلبة صراع على المصالح، والتي تنبني على معيارية التنافس والسياسة التّوسّعية للاستحواذ على مفاصل الاقتصاد الإقليمي، والعالمي على حد سواء، والحرص الشّديد على تبنّي خيارات احتوائية تجعل من دول المنطقة جمعاء في إطار التبعية، خاضعة لها عسكريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا.
فالتّفسير يسلك مسارين؛ الأول، يخصّ دراسة طبيعة المقوّمات الجيو-اقتصاية التي يزخر بها فضاء السّاحل الإفريقي والصّحراء؛ كالطّاقة والثّروات المعدنية والموارد الطّبيعية والباطنية، دون التّغافل عن مركزية المنطقة التي تعتبر مفتاح العبور للاستثمار الدولي وتنشيط التجارة الخارجية في القارة الإفريقية قاطبة، والعمل على إخضاع دولها وإفقار شعوبها واستنزاف مقدراتها وإمكاناتها ومواردها الطّبيعية والبشرية.
أما التفسير الثاني، يحلّل الطّبيعة الجيوسياسية للمنطقة، ومكانتها في السياسة الدولية، أي أنّ بعدها الجغرافي يجعل منها منطقة صراعات وجب استثارتها وتوظيف أوراقها لصالح قوى التّنافس الدولي، ومحورية بعض دولها جعلتها تخدم أجندات القوى الكبرى في إطار السياسة التّوسّعية، حيث تظهر أهميتها من خلال ما تتمتّع به من مواقع وقنوات استراتيجية (بحرية، جوية، برية) تسعى القوى الدولية إلى الاستحواذ عليها، والسيطرة على منابع الثّروة واستغلالها.
لكن طبيعة هذا الصّراع الدولي لم تأت لخدمة شعوب دول المنطقة وسياساتها التّنموية، وإنما بني أساسها على منطق وجوب استمرارية التّنافس في المنطقة وإدارة شؤونها ونزاعاتها، والذي تغذّيه كثير من العوامل؛ كالحرب الأهلية، الصّراعات الإثنية، الجريمة المنظّمة، الانقلابات العسكرية، النّزاع المسلّح والحركة الإرهابية والانفصالية…إلخ، ممّا جعلها تطيل أمده وتجعل من مشهده أكثر تعقيدا وتأزما.
فالتّبرير الدولي بالعوامل المذكورة - على سبيل المثال - آنفا، دائما ما منحت الزّحف الدولاتي والتوطن العسكري في السّاحل الإفريقي والصّحراء الكبرى الشرعية والاستدامة، ذلك أنّ طبيعة النظام الدولي، وما يحاك حوله من تحوّلات وتغيّرات؛ قد تمس ببنيويته ووظائف فواعله، يجعل من الصّراع في المنطقة نتيجة حتمية تقوم على خدمة مصالح وسياسات القوى الكبرى، وقد تتحوّل إلى بؤرة توتّر تهدّد أمن واستقرار المنطقة نتيجة تصادم مصالح القوى الكبرى، وأنّ أساس التّنافس الدولي بناء على التوترات المطروحة هو المطامع الاقتصادية والاستثمارية.
- حدّة التّنافس الدولي في المنطقة خاصة مالي والنيجر، تؤدّي إلى إمكانية تصاعد تحالفات بين الجماعات الإرهابية، إلى أيّ مدى يمكن مواجهة هذا السيناريو؟
تعتبر منطقة الساحل الإفريقي والصحراء من أهم المناطق التي تعاني من التّوتّرات وتبعات ترتيبات سياسات التنافس الدولي بين القوى الكبرى، بسبب انتشار الكثير من التهديدات بمختلف أصنافها وأشكالها. فالحد الأقصى من ذاك التنافس يؤدّي إلى تنظيم الحركات الإرهابية، وتصفيف أركان الجريمة المنظّمة والتهريب، وكل ما يهدّد الأمن الإنساني بمفهوم الحد الأدنى، بالشّكل الذي يجعل من مبرّرات التّواجد والانتشار الدولاتي في المنطقة مطروحا دوما، المعطى الجيوسياسي الذي يهدّد أمن شعوبها ويضعف بنيوية اقتصادات دولها، ويململ نسيج بنائها التنموي.
فالتّنافس الدولي تاريخيا في المنطقة يقوم على خيار عسكري متدخّل، بسبب سماتها وأوضاعها الأمنية والسياسية، وكل قوّة تجعل من ذاتها العسكرية الوريث التاريخي لإدارة النّزاعات ومواجهة الجماعات الإرهابية بحجة القضاء عليها في المنطقة، وتحقيق أمن الشعوب والأفراد.
ويبدو أنّ سياسات التنافس الدولي في المنطقة قائمة على محورية تحالفات بين الجماعات الإرهابية وتطوير أساليبها القتالية والتنظيمية بما يتكيّف وتحوّلات الصّراع، وهو ما يطرح احتمالية تدخل قوى كبرى أخرى وزيادة حدّته العسكرية؛ على غرار التدخل العسكري الفرنسي في مالي (منسحبة مؤخرا) والنيجر، ويبقى أمرا واردا، مما يزيد من مستوى تلك التحالفات على صعيد الامتداد الجغرافي للمنطقة وأهميته الأمنية، وانتقال النّشاط الإرهابي إلى دول الجوار والمساس بالأمن القومي لدول المنطقة جمعاء.
والأسوأ في الأمر، يمكن أن يرتبط هذا السيناريو؛ وقد يتأثّر بالتّحوّلات الجيوسياسية في منطقة أفغانستان، باعتبار أن تنظيم الإرهاب أصبح يحظى بطابع العولمة وقدرته على تجاوز حدودها، أين أصبح يتّسم بالبعد عبر الوطني والتّشبيك الدولي، ما يحيل على تعقّد عمليات مواجهته في المنطقة، وبالتالي إمكانية العودة إلى مربّع ديمومة التنافس الدولي في السّاحل الإفريقي والصّحراء.
- هل المجتمع الدولي وفي مقدّمته منظمة الأمم المتحدة قادر على مواجهة هذه التّحوّلات الجيوسياسية المتسارعة في السّاحل والصّحراء؟
هناك طرح أممي يدافع دائما عن أحقية مشاركة المجتمع الدولي من خلال هيئة الأمم المتحدة، لمجاراة التغيرات الجيوسياسية المتسارعة والمتزايدة في مشهد المنطقة. فالأمم المتحدة اليوم تلعب دورها المحوري باستخدام أساليب سياسية وأخرى عسكرية، حسب الظروف والسياقات، لصون الأمن في دول العالم، لا سيما دول الساحل الإفريقي والصّحراء بالأخص، وفي خطاباتها الرّسمية الأخيرة، دائما ما نجدها تجدّد التزاماتها وتعهّداتها بشأن أمن واستقرار المنطقة.
وفي هذا الصدد، يؤدّي مجلس الأمن في منظمة الأمم المتحدة دوره الجلي من أجل التصدي للتحديات الأمنية والتحولات السياسية الراهنة والمعقّدة، خاصة لَمَّا يتعلق الأمر بأجندة التدخل المرتبطة بالمسائل الإنمائية والإنسانية، والذي يرى في المجموعات الإرهابية والمسلّحة على أنّها مصدر قلق وتهديد ضد إنماء شعوب ودول المنطقة.
ونافلة القول، تعتبر إستراتيجية المجتمع الدولي في مجابهة التّهديدات الأمنية على مستوى المنطقة من أولويات سياسة الأمم المتحدة، عبر جمعيتها العامة ولجنتها التابعة لمجلس الأمن، وعلى الرغم ممّا تنتجه من قرارات وآليات كثيرة ومتعدّدة الأهداف والمرامي المصلحية، إلاّ أنّه ينقصها الفعلية في التطبيق والإرادة ذات النّوايا الحسنة، والفاعلية المغيّبة لتقويض التّهديدات الأمنية، باعتبارها لَمْ ولا تتعاطى مع موضوع تغلغل ونفوذ القوى الكبرى في المنطقة، وإن كانت له أحقية وجود وشرعية من عدمه وبطلانه من منظور دول السّاحل الإفريقي والصحراء.
- بعض دول السّاحل تمر بمراحل انتقالية سياسية، كيف يؤثّر الصّراع الدولي من خلال النّفوذ على مسار العمليات السياسية الانتقالية؟
التّنافس الدولي في أصوله التاريخية وتغلغله البنيوي في منطقة الساحل الإفريقي مبني على فكرة إشعال الصراعات في الدول التي تشهد تحوّلات وانتقالات سياسية، وقضاياه مستعصية على التوافق في تمرير الأجندة الدولية والمصالح والتوازنات بين القوى الكبرى.
ومن ثمّة، فإنّ نفوذ المنافسة الدولية في المنطقة يقوم على عوامل، يمكن ذكرها على سبيل المثال، هي توازن المصالح الدولية والإقليمية، تغذية النّزاعات المحلية التي أصبحت المسرح الذي يعطّل مشروع بناء الدولة أو تنمية الدولة والمجتمع، توريد السّلاح إلى المنطقة بطرق تنافسية، في ظل غياب آليات فض النزاع حول السلطة، لطالما تشحذه أجندة الصّراع الدولي على المكاسب والهيمنة.
فالانتقال السياسي بطبيعة الحالة هو حالة تطورية تمس الهياكل البنيوية والوظيفية، الأمر الذي يستدعي ضرورة تغليب التوافقات السياسية من الداخل، بيد أنّ الصراع الدولي له تأثيرات تؤجّج الانقسامات والتصدعات الاجتماعية والسياسية، ممّا يعيق مسارات وعمليات الانتقال السياسي السلس والسلمي والديمقراطي.
- تتحدّث تقارير عن اتّفاق أمني بين سلطات مالي وشركة «فاغنر»، ما تداعيات هذا الاتّفاق على المدى القريب؟
في المقام الأول، نستهل حديثنا عن طبيعة هذه الشركة من الناحية القانونية ومشروعيتها في القانون الدولي. وقبل الشّروع في ذلك، من الضروري أن نشير إلى أن هذا النّوع من المجموعات شبه العسكرية، أو مرتزقة، لا تعترف به روسيا في تشريعاتها، ولا تحظى أعمالها بمشروعية قانونية، حسب ما جاء في خطاباتها الرسمية، وإن كان لها طابع استخباراتي وشائك.
والدليل على ذلك فيما تقدم عليه دولة روسيا في تعاملها وردّها على التقارير التي تتّهمها وتنسب إليها أصول هذه الشركة؛ إذ تتبرّأ منها ومن أي علاقة تربطها بها، باعتبار أنّ نشاطها لا يقع على مسؤوليتها وإشرافها، ولهذا تبقى تحرّكاتها وأنشطتها في دول الساحل الإفريقي والصحراء محل كثير من السجال.
فنظرة القانون الدولي إلى الشّركات العسكرية والأمنية بصفة عامة، هي شركات تحظى بمشروعية دولية وقانونية، تقدّم خدمات أمنية أو عسكرية مقابل الانتفاع المادي من أطراف وأشخاص طبيعيّين أو اعتباريين. ومنه يمكن القول أنّ شركة «فاغنر» لا تقع تحت إشراف قانوني من جهات شرعية.
وعن إمكانية إقدام السّلطات في دولة مالي بالتّعاقد مع هذه الشّركة، وعلى الرّغم ممّا يقال ويصرح به ويصدر في التّقارير الدولية والأممية والإقليمية بشأن خطورة هذه الخطوة أمنيا على مالي والمنطقة على حد سواء، يمكن أن تستفيد من تجربتها في ليبيا مؤخّرا.
فالتّجربة تمنحنا دروسا مجانية غالبا، ويمكننا أن نرجع إلى الوراء قليلا في هذا الحوار، لنراجع فكرة أنّ التّنافس الدولي بين القوى الكبرى في السّاحل الإفريقي والصحراء يتعزّز بمعطيات جيوسياسية المنطقة وتجاذباتها عبر تمرير الأجندة الدولية وانعكاساتها الأمنية.
- دول جوار السّاحل الإفريقي على غرار الجزائر تبذل جهودا كبيرة لاستقرار الوضع لكنها تصطدم بأجندات دولية، كيف السّبيل لتحجيم المخاطر الأمنية في المنطقة؟
يبدو السّياق السياسي والأمني وأبعاد التوتر في الساحل الإفريقي في طبيعته على أنّه عصي على الحل الفوري الشّامل والنّهائي، السياق نفسه الذي أسفر عن تحولات سياسية متجدّدة غذت الأزمة في المنطقة، وهو ما يدعو إلى تجنّد مختلف الفواعل في محور المنطقة، لا سيما دول الجوار في السّاحل الأفريقي على رسم استراتيجيات علاجية ووقائية تجاه التطورات والمستجدات الأمنية.
فالجزائر اليوم على محك أزمات المنطقة، وهو ما يتطلّب منها ضرورة تكييف عقيدتها الأمنية مع التّغييرات الطّارئة في الأنساق الجوارية من السّاحل الإفريقي والصحراء الكبرى، في إطار التمسك بثوابت ومبادئ سياستها الخارجية، وينتظر منها دورا يحافظ على مكاسب الموروث التاريخي في المنطقة، مع إحلال مقاربات أمنية جديدة وعصرية.
وفي ذات السياق، تسترعي الإستراتيجية الجزائرية خيارات مطروحة لتجاوز تبعات وآثار حدة الصراع والتوتر في المنطقة، وتفادي سيناريوهات غير مرغوبة يمكن أن تهدّد الأمن القومي الجزائري، خاصة وأنّ التّحوّلات الرّاهنة استقطبت لاعبا جديدا حطّ برحاله لتعزيز التّنافس الدولي في الساحل الإفريقي والصّحراء، اللاعب الذي ينفث سمومه عبر دول وظيفية، الدول التي تنوب عنه لشن هجومات وحروب من نوع جديد لزعزعة استقرار دول المنطقة على العموم، وأمن الجزائر على وجه الخصوص، ما يفتح باب احتمالية تدجين الشّريط الحدودي بمجموعات إرهابية والجريمة المنظّمة والتهريب، وما إلى غير ذلك على ضوء انتشار المرتزقة.
ومن هنا، تكون الجزائر سبّاقة استشرافيا للتّعاطي مع مثل هذه التحولات في الأجندة الدولية، حيث سبق وأن أعادت النظر في الإجراء الدستوري الذي يعطي للجيش الشعبي الوطني حق التدخل بالتعاون والتنسيق مع المنظمات الدولية والإقليمية، ومراقبة منابع الجماعات الإرهابية ودرء تهديداتها على دول الساحل الأفريقي والصحراء.
وفي هذا الإطار، وجب على دول الساحل الإفريقي تحقيق مشروع التكامل الجواري في بناء الدول التي تشهد توترات وتصدعات مؤسساتية وديمقراطية، وهو الدور الذي وجب أن تلعبه هندسة الجزائر كخيار جيو-استراتيجي من خلال تحرّكاتها السياسية ومساعي دبلوماسيتها والاستدراك الإيجابي في المشهد الدولي والإقليمي، مع التركيز على أسبقية الاستراتيجية الإفريقية التي تستبعد هيمنة القوى الكبرى والتقليدية في حلحلة الأزمات المطروحة في الكثير من دول المنطقة، من خلال إحياء أمجاد الاتحاد الإفريقي والاستثمار في قدرته الجيوسياسية، والتّأكيد على الآليات السياسية في إدارة الصراع الإقليمي واستبعاد الأساليب العسكرية كخيار أولي.
وجدير بالتنويه، أنّ المقاربة التنموية التي يجب الالتفاف حولها من طرف الحكومة الجزائرية، في سبيل مواجهة التحولات الجيوسياسية في طابعها الأمني، تنبني على تفعيل آلية التعاون اللامركزي بين دول جوار الساحل الأفريقي لتنمية المناطق الحدودية، الأمر الذي يساعد على تنفيذ استراتيجيات المقاربة الأمنية الشاملة ومراقبة منافذها.
ومن هذا المنطلق، تكون الجزائر قد باشرت إصلاحا بشأن هذه الآلية على مستوى الحدود، وينتظر منها المزيد، من خلال إعادة تقييم الخريطة الإقليمية وتقسيم جغرافيتها بما يعزّز من خيارات استتباب الأمن بالتنمية في ولايات الشريط الحدودي المشترك، مع احترام ومسؤولية تطبيق قواعد اتّفاقيات ومبادئ حسن الجوار والتعاون الإقليمي.