في هذا الحوار الشيّق، يفتح الكاتب الجزائري فيصل الأحمر قلبه لـ «الشعب ويكاند» ليحدّثنا عن الكتابة وأسرارها ومقتضياتها وأبعادها، وعن نكهة الكتابة عنده وهي تجمع ما بين الخيال العلمي والفلسفة، وآليات مصافحة المتلقين بهذه السرديات، وعن روايته «ضمير المتكلم» التي لاقت رواجا كبيرا. ونشر فيصل الأحمر وهو روائي وشاعر وأكاديمي، العديد من الدراسات والبحوث والنصوص في مجلات ومواقع جزائرية وعربية وعالمية.
الشعب ويكاند: هل يزعجك أن نبدأ بداية كلاسيكية، كيف نعرّفك تحديدا أنت العصي على التأطير، كاتب، شاعر، أكاديمي، مختص في الخيال العلمي، مشتغل على الفلسفة والدراسات الثقافية، مثقف موسوعي...من أنت وسط مفترقات طرق الهوية هذه؟
الكاتب فيصل الأحمر: أنا، في المطلق، أعتقد أنّ المسافة بين الكتابة والكاتب هي مسافة منعدمة رغم نجاح بعضهم في وضع الأقنعة. النصوص عندي نابضة بحياة صاحبها، النصوص تتصبّب عرقا ويسيل دمها، وتصاب بالهذيان ساعة وبالدوار ساعة أخرى. أنا أنفر تلقائيا من مهندسي النصوص وتقنييها...ولا أؤمن بالموهبة - بالموازاة - إلا في أطر محدودة جدا، ولكنني أكره كاتبا يصدر كتابا كل عام بانتظام آلي؛ واحد عن الإرهاب، الثاني عن المهاجرين، والثالث عن موت الرئيس، والرابع عن الحراك، والخامس عن الجائحة ثم سادس عن أحداث منطقة القبائل...هذه الطريقة التي تجعل الكتابة الروائية مثل التقارير الصحفية المتبلة بتوابل تخييلية خفيفة، هي كتابة بلا أهمية في عرفي. لا أحكم على أحد في المطلق لأن بعض القراء يجدون ما يبحثون عنه في هذه النصوص، ولكنني أميل إلى أن تكون الكتابة نوعا من الاستكشاف الداخلي، أو نوعا من البحث عن ذبذبات تجاور القلب، عن أسئلة تنخرنا من الداخل، نركب الكلمات والنصوص صوبها...من هذا المنطق سيكون أفضل تعريف لي - كما أسلفت في غير هذا المقام - هو أنّني طفل صغير كبر حجمه وعقله بمقدار التجارب والنصوص التي ابتلعها، والتجارب والنصوص التي طرحها. فتكون سيرتي الأمثل والأكثر وفاء هي محصلة ما في كتبي من الهيجان، ومن محاولات الراحة، من الأسئلة القلقة ومن المناورات لأجل ابتكار مخطّطات هروب منها.
- ضمير المتكلّم رواية رائعة، بإجماع النقاد والقرّاء داخل البلاد وخارجها، كيف جاءتك فكرة ذلك التّركيب الغريب، الحكايات التي تتشابك وتتنامى متقاطعة ببراعة كبيرة...؟
سأقول لك سرّا: «ضمير المتكلم «هي أسرع رواية كتبتها منذ ربع قرن، وفي رصيدي ست روايات منشورة واثنتان لم أرض عنهما بعد...ضمير المتكلم كتبتها وراجعتها وأضفت إليها وحذفت وعدلت في حدود سبعة أشهر أو ثمانية عل أبعد تقدير...رواياتي السابقة كلها أخذت مني عامين على أقل تقدير، واحدة منها كتبت على امتداد عشر سنوات أو أكثر...أما فكرتها فهي أنني أردت أن أكتب حول الملامح الشخصية الموجودة فيها نصوصا مفردة، قبل أن يقر قراري على كتابة حكايات كل هؤلاء في رواية واحدة، وقد كان تحديا كبيرا بالنسبة لي بسبب التباعد أحيانا بين تجارب كل هؤلاء (وللإشارة فقد عاش معي هؤلاء الأشخاص، الشخصيات سنوات طويلة فيما يشبه كتابة صامتة تؤجّل موعد ارتداء لباس اللغة، والخروج إلى فضاء الورقة البيضاء العمومي)...ولكن ربك معين، وهذا هو الأهم.
- هل توقّعت هذا النّجاح الكبير لروايتك «ضمير المتكلّم»؟
لا أخفيك أنّنا نشعر أحيانا حينما تجتمع عناصر العمل في انسجام...نحن الكتّاب نشعر بذلك. ولكن نفسياتنا الغارقة في ذاتيتها، والتي تعيش في عزلة أحكامها على نفسها وعلى محيطها كثيرا ما تخطئ في التقدير...وهذه منحتنا ولكنها محنتنا أيضا...ولكي أصارحك أكثر فأنا تعوّدت على وجود قرّاء محترمين لا يعدون بالآلاف، ولكنهم أوفياء ينتظرون جديدي، يقرؤونني كثيرا وباهتمام، وهم جمهوري الذي أعول عليه..أما أجواء النجاح هذه التي تحيلين عليها فهي معطى استثنائي، ولا يلعب دورا في إقبالي أو عدمه على نص جديد..
- رأينا ملفّا كاملا من 40 صفحة خصّصته مجلة مصرية مرموقة لهذه الرواية (مجلة ميريت الثقافية في عددها 32 - أوت 2021)...هذا أمر غير معهود في الحقيقة...هل كنت تتوقّع هذا النّوع بالذات من «الاعتراف»؟
يبدو أنّ شيئا ما قد لامس الناس في هذه الرواية...ربما فيما وراء الجحيم الذي تصوّره الرواية، والذي يدوم منذ أربعين سنة أو ربما منذ الاستقلال، هنالك ضوء صغير أضاء الأشخاص البسطاء البائسين اليائسين، الذين ورطتهم أزمة عشرية الدم في أشياء لا تشبههم، ولا ينبغي لهم أن يعرفوا بأمرها...أشياء لحقت بهم مثلما يلاحق قدر متسرّع شخصا هاربا من قدره يطلب هدنة صغيرة...يبقى أن الحظ يلعب دورا هاما في كل نواحي الحياة. لو كان لي الأمر لدرّست الحظ في المدارس والجامعات لكي يتعوّد الناس على عوالمه التي تستعصي على التفسير.
- ارتبط اسم فيصل الأحمر وطنيا وحتى عربيا بالخيال العلمي...سؤال بسيط، ماذا يذبك في تلك الأفكار الاستشرافية؟ وهل لهذا النوع جمهور واضح الملامح؟ وبمعنى آخر هل توجد أفكار يقدّمها هذا النوع لا تقدمها نصوص أخرى؟
كما سبق لي مرارا أن حدّدت وشرحت، فالخيال العلمي - تاريخيا - قد بدأ بدايته الحديثة الفعلية مع بدايات القرن 19 بين طيات كتاب ألّفته شابة في الثامنة عشرة هي ماري شيلي (زوجة الشاعر الإنغليزي بيرسي شيلي) وهي انطلاقة غريبة؛ فهي رواية تتحدّث عن الدور العميق للعلم في تغيير إواليات الحياة كما نعرفها: فكرة الدكتور فرانكنشتاين الذي يريد خلق الحياة من خلال بعث جسد ميت أو أشلاء متفرقة مخيطة، يبث فيها الحياة...التجربة تنتهي بموته هو، وبالفشل الذريع في قدرة الإنسان على أن يكون إلها...ومن الغريب ان الخيال العلمي سيسير طيلة القرن 19 ضد هذا الاتجاه مبشّرا بغد أفضل للحياة وللإنسان بفضل التطور الكبير في العلم والتكنولوجيا...اتجاه سيسقط تماما مع الحرب العالمية الأولى...لكي يتحول الخيال العلمي إلى كتابة تحذر من الثقة العمياء في العلم وفي القيم الإنسانية التي اتّضح أنها قد تقود إلى كارثة على مدى عالمي...في مرحلة لاحقة سيتحول الخيال العلمي إلى ميدان حيوي جدا من خلال التخلي التدريجي عن هيمنة الفكرة العلمية لصالح التأمل الفلسفي، لصالح مساحات كبيرة يحتلها الهاجس الثقافي والأنثروبولوجي الذي يظهر من خلال استثمار كتابات الخيال العلمي لعوالم الخرافات والحكايات الشعبية والثقافة الدينية ومحتويات الكتب المقدسة والمرويات الشفهية والأساطير المشكلة للثقافة البشرية...مع ميل ملموس لاستثمار العلوم الإنسانية بدلا من العلوم التقنية التجريبية وعلوم المادة...في المحصلة، يبدو أن الخيال العلمي قد اكتشف خطأه الذي هو خطأ الحضارة الغربية بشكل عام، تماما كما وصفها ماركس في المرحلة نفسها التي كان فيها جول فيرن يبشر بالعالم الأفضل الآتي بعد حين...(سنذكر بأن جول فيرن معاصر لكارل ماركس رغم صغر سنه بالنسبة إلى الفيلسوف الأكثر تشككا في الحضارة التقنية بسبب عدم ثقته في الإنسان، لا في الآلة التي هي امتداد رمزي لسلطة الإنسان...).
- تكرّر مرارا بأنّنا نفكّر من خلال الرّوايات والقصص، وتجمع في عملك بين الرّواية والخيال العلمي والفلسفة...كيف يحدث ذلك تحديدا؟
في كتابي «أفق الدراسات الثّقافية» كتبت ما ملخّصه أنّه من الجدير بالتوقف دائما فكرة أنّ الخيال العلمي في تاريخه القديم قد نشأ في كنف الخطاب الفلسفي، فنحن نذكر ضمن العشرة كُتّاب الضّروريين في التاريخ القديم للخيال العلمي أسماء فلاسفة؛ هم فلاسفة قبل كونهم مشتغلين على عوالم التخييل التي نلحقها بهم. وهذا يدلنا بوضوح على حميمية الصلة بين الخيال العلمي والخطاب الفلسفي، صلة تدعمها لموضوعات مثل: الإنسان - الله - الزمن - الموت - المصير.
ليس جوهر المسألة في أسماء جمعت التخييل إلى التدليل، أو جماليات السرد إلى فعاليات الدرس، الجوهر متعلق في الواقع بطريقة النظر إلى الحقيقة؛ أي في الميكانيزمات العميقة للوعي بالعالم، في ترتيب أفكارنا، في طريقتنا غير الواعية في فهم عالمنا وتشكيل خطابات معينة حوله، أي بتجربة الوعي عند الإنسان وبخصائص مدارج حدوث المعرفة عنده...إذ يبدو أنّ هنالك نمطين من الحقيقة؛ الحقيقة «السردية» والحقيقة «الدرسية»، حقيقة التحليل وحقيقة التمثيل...
ولكن قبل ذلك، وجب علينا طرح سؤال منهجي: كيف يعمل هذا العقل التخييلي الذي يفكر من خلال التخييل؟ وهنا يأتي دور الخيال العلمي الذي هو طريقة بديعة في حياكة حكايات تشبه الواقع أو تتمثّل به هي حكايات تبدأ من فرضيات ذهنية بحتة؛ وهذا هو جوهر الفلسفة. وجدير بالتأمل التعمق في مخرجات علوم الأعصاب التي تبين جيدا كيفية تفاعلنا ذهنيا مع «الحكايات» و»الأقاصيص» فهما يخضعان لنظام فكري ينتهي إلى خلق حقائق خاصة به، حقائق لا تأتي من طريق آخر عدا طريق السرد والمحكي.
- نعد إلى «ضمير المتكلّم»؛ هل يشجّعك نجاح هذه الرّواية على فتح جروح أخرى من خزّانة أسرار هذا الوطن؟
ممّن يعتمدون كثيرا على الطّاقة الداخلية...ما يحدث في الخارج له أهمية محدودة في الحقيقة...محفّزاتي داخلية عموما...أنا أكتب لأنّني أحب الكتابة وأثق في أثرها على العالم. نقطة إلى السطر. فيما بعد كل ما يرتبط بعالم القراءة اللاحق بعالم الكتابة لا أشعر كثيرا بأنني أعول عليه...أنا فعلا أتابعه، أهتم لأمره، ولكنه ليس ما يهمّني بالدرجة الأولى... من جهة أخرى فإنني سأكون كاذبا لو ادعيت أنّ إقبال الجمهور على الرّواية لم يسعدني...ولكنّه ليس ما يدعوني إلى الكتابة...مسارات الكتابة عندي تعتمد على التسيير الذاتي كما يقال في الاقتصاد.
- على ماذا تعمل حاليا، رواية أم كتاب فكري؟
هنالك رواية أعمل عليها، هي عمل كبير ومركّب جدا حول العالم الذي نعيش فيه، فيها مجموعة من مواضيع الجدل الحالية: صراع الأديان، الهجرة، صعوبات المثاقفة، إشكاليات الحب في عالم يخشى الحب والمسؤولية والالتزام العاطفي ذا التبعات، الكتابة، السفر، الميراث التاريخي…إلخ.
كما أنّني أعمل على إتمام مجموعة من النصوص تشكّل كتابي السيرذاتي الذي عنوانه مبدئيا «تجاعيد (منمنمات سيرذاتية)»، وهو بشكل ما الجزء الثاني من كتابي السيرذاتي «خزانة الأسرار»...هذا ما أنا غارق فيه حاليا.