الباحـث قويـدر قيطـون لـ «الشعـب ويكانـد»:

نحـن في زمـن لا يختلـف عـن زمـن حلقـات عـلم الكــلام

فاطمة الوحش

 لهــذا السـبب اشتــد الصّــراع الهوياتــــي

 تطرّق البروفيسور قويدر قيطون خلال حواره مع «الشعب ويكاند» لما يثيره بعض الكتاب، مؤخرا، في الجزائر من شبهات حول الخطاب الديني والقرآني والخوض في المقدس والمسكوت عنه في تاريخنا، حيث يرى بأنّ الانفتاح الإعلامي الذي تم مؤخرا في الجزائر أسهم بشكل كبير في نشر هذه الأفكار على قِدم ظهروها، وأنّ عملية التحول المجتمعي التي تمر بها الجزائر شكّلت أرضا خصبة لهؤلاء لبث أفكارهم غير البريئة، ممّا يُحتّم على الهيئات الرسمية والمختصين الوقوف في وجهها وإظهار زيفها حماية للمجتمع وصونا لوحدته. البروفيسور قويدر قيطون أستاذ بجامعة الوادي، مختص في اللغة والدراسات القرآنية والبلاغية، والأدب الحديث والمعاصر، كاتب مهتم بالثقافة والشأن السياسي وشاعر، له ديوان شعر بعنوان «حروف ثائرة» شارك في عدة مؤلفات وملتقيات علمية داخل الوطن وخارجه.

الشعب ويكاند: ما رأيكم فيما يتم تداوله مؤخرا خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي من كتابات تتناول المقدّس بإثارة الشبهات الصادمة في كثير منها للمجتمع الجزائري؟
الباحث قويدر قيطون: ينبغي لنا أن نسأل أولا لماذا تثار في هذا الوقت؟ ثم كيف ظهرت على السطح بهذا الشكل المتواتر فما يتم كتابته ونشره ليس أمرا جديدا؛ بل هو من الأقوال التي عفا عنها الزمن إلاّ أنها كانت بعيدة نوعا ما عن التردد في الساحة الجزائرية، غير أن انفتاح الإعلام الذي تم منذ مدة ليست بالبعيدة في بلادنا، مع وفرة وسائل التواصل الاجتماعي وتعددها سهّل آلية توصيل هذه الأقوال إلى الناس وإشاعتها، ذلك أن ما يتم تداوله هو من المواضيع التي استهلكتها كتابات المستشرقين قديما، واعتمدها الحداثيون العرب حديثا في لبنان ومصر منذ منتصف القرن الماضي.
أما لماذا تُثار في هذا الوقت؟ فالأكيد أن الصراع الهوياتي الذي اشتدّ في الجزائر مؤخرا مع ما يتداخل فيه من أنساق ثقافية وغيرها قد هيّأ أرضا خصبة لهؤلاء لبث تلك الأفكار الشاذة التي لم يعتدها المجتمع الجزائري.

لماذا يركّز من يسمّون أنفسهم «التنويريين» و»الحداثيين» على إثارة هذه الموضوعات، والتي تعتبر في المجتمعات المسلمة مقدسا لا يجوز الاقتراب به؟
الحداثة مصطلح فلسفي ومعرفي مسّ جميع مناحي الحياة، دينية وثقافية وأدبية وسياسية واقتصادية، وُلِد بهذا الشكل المفهومي الواضح في أوربا في لحظة صراع حقيقية بين المجتمع الأوربي الثائر على اقطاعية الكنيسة وسيطرتها وتسلطها؛ لذلك كان الفكر الحداثي في رحلته للبحث عن الجديد يخوض حربا ضد السُّلطة الدينية والاجتماعية لأنه يراها حاجزا بينه وبين التحديث الذي يتغياه، وللأسف تم جلب هذا الفكر كما هو واستنساخه في المجتمع العربي والإسلامي مع هذا الفارق الرهيب بين المجتمعين الغربي والإسلامي، لأن الثابت في المجتمع المسلم غير الثابت في المجتمع الأوربي، لذلك كله لاتزال تلك المواضيع تتكرر على مر الزمن، تعيش لحظة بدايتها لأنها لم تصل ولن تصل - مع ما تبذله من جهد - لعملية اختراق حقيقية للمجتمعات العربية والمسلمة.

إذا كان الحال كذلك، فما الغاية التي يريدها هؤلاء من إثارة الشبهات؟
لا يختلف اثنان في أن ما يثيره هؤلاء لا يرقى أبدا لمستوى الفكر والتجديد أو التنوير كما يدّعون، وما يتم طرحه فغايته صناعة «الشو» الإعلامي أولا كمسكب ذاتي، ثم إعطاء صورة للآخر على أن هناك مختلفا في المجتمع الجزائري يخالف ما يشاع من وحدة النسيج الديني والثقافي والاجتماعي فيه.

لكن من زاوية أخرى، هل هناك ما يمنع التجديد ولو كان الأمر يتعلق بمقدس كالدين؟
يجب أولا ضبط مفهوم التجديد، ثم بعد ذلك تحديد من يقوم به، الدين الإسلامي لا يتعارض أبدا مع فكرة التحديث والتجديد لأنه في أصله حالة حداثية جاءت لتغير طبيعة مجتمع إنساني بأكمله، وسعت لأن تنقل المجتمع البشري من حالة التيه والضياع إلى حالة وضوح الرؤيا والغاية والبناء، حملت في طايتها ثابتا أصليا يبقى مركزا عمدة في عملية التشكل، ومنحت الآخر فرصة للتأقلم وفق الظروف والأحوال والمقامات، ولعلي أذكر هنا كتابا مهما للشيخ محمد الغزالي رحمه الله «السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث»، فقد كان لبنة مهمة لتوضيح حيوية النصوص الشرعية، بأن وضع منهجا جديدا في ممكنات التعامل معها وفق محمولاتها ومقاماتها بما يُظهر أن النص المقدس ليس جمادا لا يمكن تحريكه أو إنزال الواقع إليه وعليه نحن بحاجة أولا لضبط مفهوم الحداثة والتجديد وفق ما يتوافق مع طبيعة مجتمعنا الإسلامي كي نلبس لبوسا يليق بنا لا بغيرنا، وهذا هو موضع الخلاف مع دعاة الحداثة الذين يحملون مباشرة معاول تحطيم المقدس بما يثيرونه من شبهات حوله، وما يقومون به من تشويه له في محاولة لتحييده تماما من الحياة لأنه يتعارض مع ما يسعون إليه، ويقف حائلا بينهم وبينه، أما من يقوم به فأجيبك بسؤال: لو أن زجّاجا مثلا (صانع الزجاج) تقدم إلى مصنع الطائرات وعرض نفسه على إدارته بأنه يمكنوه من إجراء تحديث على محرّك الطائرات، فهل تراهم سيوافقونه؟ الأكيد إن لم يرموه خارجا فسيتهمونه بالجنون والخرف.
وما نراه كوننا متتبّعين لما يثار من أفكار في هذا الحقل أنها تصدر في أغلبها عن غير المختصين، ممّن لا يملكون زادا معرفيا بالنصوص شكلا ومضمونا، بل ويعيشون غربة رهيبة معها، فلا يمكن لمختص في الفلسفة أو الرواية أو الأدب الشعبي أن يتحدث في نصوص قرآنية ونبوية هي دين لرب العالمين، أو أن يخوض في التاريخ والآثار بما يشوه حقائقها لمجرد أنه يرى أن له أحقية في أن يقول ما يشاء، وأن يعتقد بما يشاء، وأن يشيعه في الناس من دون أن يكون على دراية بهذه العلوم أصولا وفروعا، ومن غير أن يسلخ من عمره زمنا كبيرا دارسا لها وباحثا فيها، لكن الجرأة على الله تفعل العجائب عند هؤلاء.
ما الخطر الذي ترونه على المجتمع الجزائري من إشاعة هذه الأفكار والترويج لها؟
في الزمن الذي كثر فيه علم الكلام، واشتدّ معه الجدال كتب الشيخ أبو حامد الغزالي صاحب كتاب إحياء علوم الدين رسالة في غاية الأهمية بعنوان «إلجام العوام عن علم الكلام»، وأنا أرى أن زمننا هذا بما تتيحه فضائيات التواصل لا يختلف كثيرا عن زمن حلقات علم الكلام في زمن أبي حامد، فمن الخطر أن يخوض العوام من الناس في المسائل الدقيقة التي يصعب عليهم فهمها فتُفسد عليهم دينهم وتؤثر على تماسكنا المجتمعي، ولعل هذا هو غاية مثيري الشبهات، فحتى وإن اطمأنننا إلى قوة عقيدة المجتمع الجزائري التي لم يستطع الاستدمار الفرنسي هزها طيلة 130 سنة من الاحتلال؛ إلا أن نشر هذه الأفكار للعامة لا يكون مناسبا أبدا، فمن شاء أن يطرح هذه الأفكار فدونه مدرجات الجامعات وحلقات الندوات والملتقيات فليقل ما يشاء أمام المختصين وليحاججهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، أما أن يفر من تلك المجالس وينفر منها ثم يتخذ متكأ في بيته ليبث تلك الأفكار على فيسبوك وتويتر فيتلقاها الجاهل والمتعلم، المختص وغير المختص، فالأكيد أنه لا يسعى لفكر ولا لتجديد، وإنما يهدف لإثارة البلبلة والفتن وحسب.

ما الحل الذي ترونه مناسبا للتعامل مع ما يطرح من أفكار صادمة للمجتمع؟
أفضل حل أكيد هو تجاهل هؤلاء وأفكارهم، فعلى مدار 14 قرنا ظل الخصوم والأعداء يحولون النيل من هذا الدين، ومن قداسة نصوصه ومن المجتمعات التي أنشأها ولكن هيهات فحالهم كحال من ينطح الصخر، ولأن التجاهل أمر عسير فطبائع الناس تميل دوما لما هو مثير، فإنه على الهيئات الرسمية أن تسعى لوضع حد لمثل هذه الأفكار، خاصة إذا مال بها أصحابها ناحية وسائط التواصل الاجتماعي هروبا من مجابهة المختصين في الجامعات لأنّ غايتهم إثارة الفتن والتشكيك لا البحث والمعرفة.
كما أنّ الواجب الأكبر يقع على أهل الاختصاص العارفين بأن يقفوا في وجه هؤلاء بإظهار زيف أفكارهم بالحجة، والدليل إظهارا للحق وحفاظا على سلامة النسيج الوطني.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024