الشرق الأوسط المركز ومن يسيطر عليه يتحكم في العالم
المنظمات الدولية مطالبة بإبداء موقف صريح
1500 مركز بحث أمريكي في الدراسات الاستشرافية
قدّم الدكتور مبروك كاهي أستاذ محاضر بجامعة ورقلة، تحليلا عن حقيقة وأبعاد ظاهرة التدخلات العسكرية الأجنبية التي شهدتها العديد من مناطق العالم خاصة بالشرق الأوسط، وتناول تجربة أفغانستان نموذجا حيا، داعيا إلى العودة القوية للمنظمات الدولية للضغط برأيها من أجل محاولة إجهاض مختلف التدخلات العسكرية العشوائية، وبخصوص مستقبل التدخلات العسكرية، ألّح على ضرورة تنظيمها بالعودة إلى قرارات مجلس الأمن الدولي باعتبارها الكافل الوحيد للأمن والسلم الدوليين، وبالموازاة مع ذلك تطرق إلى التدخل الفرنسي بمنطقة الساحل تحت مظلة مكافحة الإرهاب.
- الشعب ويكاند: أظهرت التجارب وكذا المستجدات التي شهدتها أفغانستان أن التدخلات العسكرية الأجنبية بالدول عديمة الجدوى وتؤدي إلى نتائج عكسية، ما هي قراءتكم؟
مبروك كاهي: قبل الحديث عن التدخلات العسكرية يجب التطرق أولا لمفهوم فوضى التدخلات العسكرية التي عرفها العالم، الأمر الذي بات يهدد الأمن والسلم الدوليين، فعقب نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، كانت التدخلات العسكرية تتم وفقا لقرارات مجلس الأمن الدولي ويتم تنفيذها عبر حلف الناتو الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت تسمى “دركي” العالم في ذلك الوقت، وباستثناء التدخل العسكري في حرب الخليج الثانية لإخراج القوات العراقية من أرض الكويت، فإن باقي التدخلات اقتصرت على ضربات جوية للدول الغربية لعل أبرز هذه الدول التي تعرضت للضربات الجوية نجد السودان بعد تفجيرات دار السلام بكينيا ونيروبي تنزانيا التي مست السفارات الأمريكية في تلك الفترة وأيضا أفغانستان التي كانت تحكمها حركة طالبان وتأوي تنظيم القاعدة، وأيضا صربيا التي تعرضت لضربات الجوية عندما رفضت تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، لكن وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001، والحرب الكونية على الإرهاب، انتقلت التدخلات العسكرية من الضربات الجوية إلى التدخل العسكري المباشر لقلب الأنظمة والتخلص من “التهديدات” الفعلية للمصالح الغربية، ويبرز أول تدخل عسكري في الألفية الجديدة ضد أفغانستان لإنهاء نظام حركة طالبان والقضاء على تنظيم القاعدة، تلاه التدخل العسكري المباشر في العراق وإنهاء حكم صدام حسين بحجة امتلاك أسلحة الدمار الشامل.
الملاحظ في هذه التدخلات العسكرية في نهاية القرن الماضي، وبداية الألفية الجديدة، كانت تتم على عدة مراحل، بدءا من طرح الموضوع في أروقة الأمم المتحدة والحصول على تصريح من مجلس الأمن الدولي وبتحالف منظم من حلف الناتو وبعض الدول المنخرطة، أيضا كانت تواجه تحديات أمام المنظمات غير الحكومية الدولية سيما المدافعة عن حقوق الإنسان والرافضة لمثل هذه التدخلات التي كانت تذكر العالم بمأساة الحرب العالمية الثانية، وأيضا الرأي العام الغربي الذي كان يتم حشده لمعارضة قرارات حكومته في الدول الغربية سيما أوروبا أو في الولايات المتحدة الأمريكية، مما يضع حكومات هذه الدول في حرج كبير ويضعها أمام مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية، سواء تجاه شعوب الدول التي تعرضت لهذا التدخل العسكري أو شعوبها في إيجاد مبررات ومصوّغات موضوعية لكلفة التدخل ونتائجه.
لكن مع العشرية الثانية بدأ يلاحظ اختفاء الرأي العام الدولي والتلاحم بين شعوب المعمورة في رفض التدخلات العسكرية والانتهاكات الحقوقية رغم توفر التكنولوجيا الرقمية التي قربت شعوب العالم، ولكن في حقيقة الأمر شتت الرأي العام الدولي، فلم تعد المعلومة واحدة، بل تعددت وتنوعت مصادرها، وبعد أن كانت الرسالة توجه إلى الرأي العام، أصبح كل فرد يتلقى الرسالة بمفرده ومنها يبني رأيه الشخصي الذي أصبح رأيا افتراضيا غير مؤثر، كما كان سابقا. أيضا من بين العوامل التي ساهمت في حدة التدخلات العسكرية اكتساب تكنولوجيا الطائرات المسيرة أو ما يطلق عليه بالـ«درون” التي تخترق الأجواء الوطنية وتمارس عدة مهام من الجوسسة والقتالية وحتى المراقبة والتتبع مما ساهم في تسهيل التدخلات العسكرية. تكنولوجيا الطائرات المسيرة بعد أن كانت حكرا على الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت عديد الدول تملكها لتكلفة إنتاجها المنخفض والفعالية العالية التي تتمتع بها. أيضا من بين العوامل التي ساهمت في زيادة التدخلات العسكرية القطبية المتعددة للعالم فبعد أن كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي “دركي” العالم ظهرت روسيا والصين: أقطاب جديدة ومعها بعض الدول التي تتحرك داخل إقليمها الجيوبوليتيكي مستفيدة من عامل الفوضى وتراجع مجلس الأمن الدولي في الاطلاع بمهامه الأممية.
وبالعودة إلى التدخل العسكري في دولة أفغانستان يجب التذكير أن هذا التدخل قد تم في بداية الألفية وفي إطار الحرب الدولية على ما يعرف بالإرهاب والقضاء على تنظيم القاعدة، عقب أحداث وتفجيرات برجي التجارة العالميين، وكان ضمن قرارات مجلس الأمن الدولي وبقيادة حلف الناتو وتحرك الرأي العام الدولي المناهض لهذا التدخل، لكن هذا التدخل حقق أهدافه في الإطاحة بحكم حركة طالبان و«تحييد” خطر القاعدة. لكن ومع موجة التغييرات الاجتماعية التي عرفتها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في إطار التغيير الاجتماعي السلمي والعنفي أو ما يطلق عليه بين (الربيع العربي) يلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية حسمت أمرها سريعا برمي كامل ثقلها في الشرق الأوسط وإعلان نية انسحابها من أفغانستان وعدم ترك المجال لانتشار القوتين النديتين خارج محيطها الجيوبوليتيكي روسيا والصين، فكان التمهيد بإعلان القضاء على رأس تنظيم القاعدة الإرهابي أسامة بن لادن والتخلص من جثته في البحر، وإيجاد مبرر حقيقي للانسحاب بعودة طالبان، بالرغم من أن معظم الخسائر تلقتها القوات الأفغانية الحكومية وليس قوات التحالف الدولي، أما القول بأنها عديمة الجدوى فأرى أن هذه التدخلات مرتبطة بأهداف محددة مسبقا ومرتبطة بمدة زمنية معينة وليس هدفها إنشاء نظم ديمقراطية وانشاء اقتصاديات حقيقية تخدم آمال وتطلعات شعوب الدول، فالتدخل العسكري هدفه الأساسي إضعاف السلطة المركزية ومن ثم احداث الفوضى وما يسهل عنه من تنفيذ أجندات تخدم مصالح الدول الغربية، ثم تتغير بانتهاء هذه المصلحة وهو ما حدث بالضبط في أفغانستان.
- هل تسرعت واشنطن بالانسحاب من أفغانستان ولم يكن الوقت مناسبا، بالنظر إلى وجود خطر تجدد بروز تنظيمات ارهابية أم أن عوامل أخرى أججت الوضع بكابل؟
كيف الحديث عن تسرع الولايات المتحدة الأمريكية بسحب قواتها من أفغانستان، وهي تملك أكثر من 1500 مركز بحث في الدراسات الاستشرافية والأمنية وفق هذه الدراسات يتم وضع الخطط الحالية والخطط البديلة في حال أي طارئ، وكما ذكرت مسبقا فإن إعلان الانسحاب كان مخططا له أثناء فترة حكم “أوباما” الذي أعلن عن تحييد رأس تنظيم القاعدة بن لادن، ومعه انتهت المهمة الحقيقية، وما أجل هذا الانسحاب استدعاء المبرر الحقيقي والمتمثل في حركة طالبان بفكر مخالف لطالبان الأولى المتحالفة مع تنظيم القاعدة. طالبان جديدة تتعهد بعدم المساس بالمصالح الغربية، وتبدي نيتها في الانخراط مع المجموعة الدولية وترفض العزلة، وصناعة هذه الفكر الطالباني كان يحتاج إلى وقت، أيضا من بين الأسباب الأساسية التي أجلت الانسحاب هو عدم وضعها في أولويات الرئيس الأمريكي السابق ترامب الذي كانت له أولويات أخرى رغم أن الانسحاب لم يسقط من أجندته وأشار إليه في أكثر من خطاب، ليأتي بعده الرئيس الحالي ويجعله أولوية ويبدأ به مرحلة حكمه، ولهذه الأسباب وغيرها فإن قرار الانسحاب لم يكن متسرعا بل كان مدروسا منذ مدة، فقط من يدفع فاتورة الانسحاب هو الشعب الافغاني الذي لم يراع في مفاوضات أمريكا مع حركة الطالبان.
- لماذا هذه التدخلات العسكرية..بمعنى آخر ماذا تخفي وراءها ولماذا ظهرت بكثرة في السنوات الماضية بسوريا والعراق على سبيل المثال؟
حول بروز التنظيمات الإرهابية وخطرها، فهذه التنظيمات خطرها تم تحييده عندما أجمع العالم على محاربة هذه الظاهرة والقضاء عليها باعتبارها تهدد السلم والأمن الدوليين، وما بقي أصبح عبارة عن أداة وظيفية تستخدمها الدول الأجنبية لزعزعة استقرار الدول الأخرى وإعطاء المبرر للتدخل العسكري وانتهاك حرمة أراضيها.
أما عن كثرة التدخلات العسكرية، لماذا تزداد في سوريا والعراق، فعلينا أن ندرك أن هذه الدول تدخل ضمن نطاق الشرق الأوسط الذي يعتبر مركز العالم ومن يسيطر عليه سوف يتمكن من السيطرة حول العالم، وتزايد هذه التدخلات يفسر تزايد الوجود الروسي والصيني وهو ما يعتبر تهديدا للمصالح الغربية، أيضا محاولة بعض القوى الصاعدة ولو بمستوى أدنى البحث عن موطئ قدم أمام هذه التجاذبات والقيام بالتدخل العسكري في الدول الأخرى، وكثرة التدخلات العسكرية يفسر أيضا كثرة وشدة تناقض المصالح بين القوى الكبرى في المنطقة وتعدد الأدوات والوسائل لتحقيق الأهداف والغايات سواء أكان بورقة الجماعات الإرهابية كتنظيم “داعش” وغيرها التي باتت أداة وظيفية
لتحقيق أجندات الدول الأخرى، ومرة باستخدام تحالفات إقليمية، أو باستخدام ورقة ما يعرف بـ “الربيع العربي”، كما هو الحال في سوريا، والهدف الأساسي من هذه التدخلات العسكرية هو إضعاف الدولة وجعل أركانها هشّة، ومن ثم السيطرة عليها وجعلها وظيفية في خدمة أحد أطراف القوى الكبرى ما دامت المواجهة المباشرة بين القوى الكبرى مستبعدة ومنعدمة فيتم استخدام هذه الدويلات الوظيفية التي تدفع شعوبها الفاتورة والثمن غاليا.
- تجييش منطقة الساحل إثر التدخل العسكري الفرنسي بحجة مكافحة الإرهاب، أظهر سباقا محموما على المنطقة..ما هي أبعاد التواجد العسكري بالمنطقة؟
بخصوص التواجد العسكري الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي وإن كان تحت مظلة محاربة الجماعات الإرهابية، فهو يحمل الريبة والشك في أهدافه المعلن عنها، فالتواجد العسكري الفرنسي في المنطقة يذكر شعوبها وسكانها بالماضي المرير للفترة الاستعمارية، والتي لم تتحمل بعد الدولة الفرنسية مسؤوليتها القانونية والأخلاقية في تعويض دول المنطقة عن تواجدها المؤلم، ويحمل الريبة في كون الدولة الفرنسية كانت من الدول التي تدفع وبدون تردد الفدية للجماعات الإرهابية حتى وبعد صدور قرار من مجلس الأمن الدولي بتجريم دفع الفدية على اعتبار أنها أحد المصادر الأساسية لتمويل الجماعات الإرهابية، إلا أن الدولة الفرنسية استمرت في دفعها وبطرق ملتوية من أجل تحرير رهائنها، أما التواجد الفرنسي في المنطقة يهدف إلى ملء الفراغ وتولي فرنسا بنفسها محاربة الجماعات الإرهابية وتأكيد على أن المنطقة هو محيطها وميدانها الاستراتيجي وعدم فسح المجال للقوى الجديدة الوافدة إلى المنطقة، لكن يمكن القول أن التدخل العسكري الفرنسي في المنطقة واجه فشلا ذريعا ولم يحقق حتى أهدافه الأساسية بل إن فرنسا واصلت دفع الفدية للجماعات الإرهابية رغم تواجدها العسكري وفشل قواتها في تحرير هذه الرهائن.
- هل ستكون أفغانستان درسا حقيقيا للغرب، وبالتالي إعادة النظر في التدخلات التي لم تجلب لا السلام ولا الاستقرار ولا التنمية؟
التدخل العسكري في أفغانستان أفضى إلى حقيقة واحدة وهي أن الحلول العسكرية وحدها لا تصنع الامن والاستقرار سواء للشعب الأفغاني أو الشعوب الأخرى، بل لا بد من الحوار سيما مع الأطراف التي تمثل أطياف واسعة من المجتمع، وأن الاقصاء لا يحل المشكلة بقدر ما يساهم في تعقيدها أكثر فأكثر، فحركة الطالبان نشأت في قلب المجتمع الافغاني كضرورة لإنهاء حالة الفوضى التي أعقبت الانسحاب السوفياتي، ونتيجة العزلة وغياب المرافقة الدولية وجدت الحركة نفسها أمام حتمية التحالف مع التنظيم الإرهابي الدولي تنظيم القاعدة لإيجاد موارد مالية، وهو الخطأ الذي تداركته الإدارة الأمريكية بعد انسحابها من أفغانستان بتوقيع عدة اتفاقيات مهمة.
- هل تتعظ فرنسا بما حدث بأفغانستان؟
أما تشبيه الحالة الأفغانية بالتواجد الفرنسي في الساحل فالمقارنة غير صحيحة وغير منطقية، فالتدخل العسكري في أفغانستان كان بإجماع دولي وبتحالف دولي تقوده القوة الأولى في العالم الولايات المتحدة الأمريكية، وبميزانية جد ضخمة وأعمال قتالية حقيقية، عكس الحالة الفرنسية ميزانية جد متواضعة وبتحالف من جيوش دول المنطقة الهشة جدا وبتسليح جد متواضع وقتال جماعات شبحية لا تكاد توجد على أرض الواقع، وهو يعكس حقيقة عن فشل الإدارة الدولة الفرنسية في إدارة حروب ما وراء البحار وكبح جماح انتشار القوى الدخيلة في المنطقة.
- من كل هذا ما هو مستقبل هذه التدخلات العسكرية؟
فيما يتعلق بمستقبل التدخلات العسكرية لا بد من تنظيمها والعودة إلى قرارات مجلس الأمن الدولي باعتبارها الكافل الوحيد للأمن والسلم الدوليين، أيضا لا بد من عودة المنظمات الأخرى للعب دورها الحقيقي مثل منظمة عدم الانحياز، التي يجب أن تتماشى أهدافها مع التحديات الحقيقية الجديدة التي يعرفها العالم فلم يعد هناك مكان لعدم الانحياز، بل لا بد من الانحياز لصالح الشعوب المقهورة والمغلوب على أمرها، وإبداء موقف صريح ضد هذه التدخلات العسكرية العشوائية، أيضا على المنظمات غير الحكومية سيما المدافعة عن حقوق الإنسان واستعادة استقلاليتها وروح مبادرتها بالتخلص من تبعيتها المالية التي جعلتها أداة وظيفية في يد القوى الإمبريالية، أيضا لا بد من استعادة حيوية وحركية الرأي العام الدولي والتخلص من تسيير السيطرة الرقمية الافتراضية والعودة إلى الواقع.
- منطقة الشرق الاوسط الاكثر معاناة مع هذه التدخلات..هل تعيد نهايتها التوازن والاستقرار؟
إن منطقة الشرق الأوسط التي لم تعرف الاستقرار، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فلا بد من العودة إلى جوهر الصراع ولب التوتر وهو القضية الفلسطينية، وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم وفق الحدود التي أقرها لهم المجتمع الدولي، واحترام سيادة الدول الشرق أوسطية وتمكين شعوبها المنطقة من حقوقها والتمتع بخيراتها الوطنية ودعم الديمقراطية والتعايش السلمي والتداول على السلطة حتى يعم الأمن والاستقرار.