الشعر وسيلة للتحرر وليس مهنة لأكل الخبز
تؤكد الشاعرة سميرة بن عيسى، الفائزة مؤخرا بجائزة مانديلا العالمية للآداب (دورة 2021)، بتشاد أن الشعر ليس مهنة «لأكل الخبز»، وإنما هو طريقة حياة، تحرّر الشاعر وتنتصر له. ودعت في حوار لموقع «فواصل» المتخصص في الشأن الثقافي، زملاءها من الشعراء إلى التحرر، بهدف الوصول إلى غاياتهم وطموحاتهم، وأكدت في سياق آخر، إنه لا يوجد نقد في الجزائر، ولا يوجد قارئ نوعي للتمييز بين السيئ والجيد في المجال الأدبي.
كيف كانت بدايتك مع الكتابة؟
ولدت في أسرة أدبية تهتم بالشعر والأدب، فيها العديد من الشعراء، أمي رحمها الله كانت مهووسة بالشعر جدا، فهدهدت مهدي بما تحفظه من قصائد منذ ولادتي.
وفي طفولتي قرأت كتب الغريب من اللغة العربية والشعر الجاهلي التي كان يحضرها أخي، وكنت أجتهد كثيرا في شرحه وحفظه، كان الأمر صعبا نوعا ما لكنني كنت أستمتع جدا وأقضي الكثير من الوقت مع كتب الشعر، لهذا تلبسني مسّ منه فصارت تنمو بأعماقي أحاسيسه وموسيقاه وتجلياته حين تتمثل في كل تفاصيل حياتي، وتتشكل فاكهة وعشبا وزرقة وشجرا وزقزقة..
بعدها احتضنني بياض الورق الناصع بكل حنان، فسحبتني برفق عوالم الشعر المتخيلة لألج أولى خربشاتي وأنا في سن التاسعة تقريبا حين تشكل عندي بعض الوعي بكينونتي ووجودي بما تعلمته في المدرسة، وحينها همس لي معلمي في الابتدائي بأنني سأصبح كاتبة عندما أكبر!.
وبقي الشعر سرا أمارس به حريتي وفلسفتي في الحياة بهدوء وعزلة دون أن أشاركه أحدا إلى أن وصلت الجامعة وأتقنت الوزن، ثم حررت هذا السر.
هل أَسَرَتكِ كتب أكثر من غيرها، خاصة في المجال الأدبي؟
أسرتني كثيرا كتب الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار خاصة كتابه «الماء والأحلام» حين كتب الفلسفة شعرا في دراسة عن الخيال والمادة وهو واحد من أهم كتابات باشلار العميقة التي يتشابك فيها الحلم والواقع، والمخيلة والمادة.
كذلك كتابه «النار في التحليل النفسي» وكتابه «جماليات المكان»، كذلك اهتممت كثيرا بكتابات الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس وديوانه «البعيد»، أيضا من كتب الشعر التي أسرتني ديوان «خريف الأوسمة» للشاعر السوري حسن ابراهيم الحسن، وديوان « ملامح الظل الهارب» للشاعر العراقي خالد الحسن، وكتاب الناقد والشاعر الجزائري محمد الأمين سعيدي» مباهج الحيرة».
متى وأين تكتب الشاعرة سميرة بن عيسى القصيدة؟
ليست لدي طقوس معينة للكتابة ولا أوقات معينة أيضا، هي حالة تبرعم أزهار القصيدة على شجر الوجدان، حالة ملحة لأفتح منافذا للشمس وأصيخ للهجس الداخلي، فيتسرب النور بسلاسة ويكتمل تفتح النص مجسدا على الورق، أو على مذكرة الهاتف.
لكل شاعر طفولة مليئة بالحب والشوق، فما هي أبعاد طفولة سميرة؟
كنت طفلة شقية جدا لا تهدأ، كنت دائما أرى في أحلامي بأن لي جناحان، لم تسعني الأرض لشدة شيطنتي، فتطلعت كثيرا للسير على الغيوم، لذلك أحببت الأماكن المرتفعة دائما، كنت أجلس طويلا على سطح منزلنا لأتأمل هيولة الأشياء من الأعلى، أتسلق شجرة الكينا العالية بحديقتنا حتى أرى أبعد مكان يكتشفه بصري بدهشة، وأبتهج عندما تحرك الريح الأغصان فيعبق عطرها وأوراقها تلامس وجهي برقة أمٍّ حانية.
كان لي في طفولتي عالما متخيلا خاصا وأصدقاء فيه ألعب معهم وأقضي معهم الكثير من الوقت والمرح أسميه «العالم النقيض»، وفيه تنعكس كل مفاهيم عالمي الواقعي، هذا جعلني أنعزل كثيرا وأتأمل كثيرا في الأشياء من حولي حتى أتماهى معها، وهو ما نمّا قدرة التخييل عندي وهيأني للكتابة الشعرية، فصار لي بالشعر جناحين أطير بهما فعلا.
البعد والشوق والحرمان مفردات الشاعر... فما هي مفردات شعرك؟
لكل شاعر لغته التي تميزه عن غيره ومفرداته التي تشكل هويته الشعرية، فتصبح بصمة خاصة به، وبقدر ما خلت نصوصي من مفردات الشوق والحرمان، كانت مكتظة بالإنسان دون تمييز عرقي أو ديني، وبالحب في أسمى تمثلاته الكونية، فكان وجهي الغيم والماء والعشب حين تتجلى السّماء بخصوبتها وزرقتها في ملامحي وهي تلامس الأرض قطرة قطرة.
لكل شاعر ملهم، من هو ملهمك في تجربتك الشعريّة، أو مشوارك الإبداعيّ الأدبيّ؟
ألهمتني كثيرا تجربة الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك رغم اضطراب شخصيتها وكآبتها، إلا أنها تمسكت بالنص بكل ضراوة حين رأت فيه خلاصها الوحيد من الحياة المريرة، فأبدعت وقدمت الكثير رغم قصر عمرها الذي أنهته مبكرا في سن 36.
يقال أن بعض الشعراء يكتبون قصائدهم وأن البعض الآخر تكتبه القصيدة، فمن أي الشعراء أنت وكيف تولد القصيدة لديك ؟
القصيدة هي النشاز الذي يسكن سونيتة الروح بجسدي، فحين ترضخ لقسوة الحياة وبؤسها بسلاسة كلمة «نعم» يجفل هذا النشاز عن اللحن ليقول كلمة : «لا»، فتتقاطر ضوئية من بين أصابعي لتنقذني من مآزق الألم المعتم، بها أتخفف من كل أعباء الحياة حتى أصبح شفافة جدا كالماء!
وأنا في الكتابة لا أؤمن إلا بالاشتغال داخل ورشة الشعر بكل احترافية مع توافر ما يلزم من أدوات القصيدة، لذلك فكل كلام آخر فهو مجرد وهم ومجازات لغوية لا غير.
متى يتوقّف العطاء الإبداعي بشتى صوره لدى المبدع؟ وهل يشيخ الإبداع كصاحبه عند سنّ معيّن؟
يتوقف حين يعتقد الشاعر بأنه وصل للنص الذي يبحث عنه، وبأن تجربته الشعرية صارت مكتملة، لأن الشعور بالنقصان هو ما يجعلنا نتطلع للكمال دائما فنعطي باستمرار، كذلك حين يفقد الشاعر حريته وجرأته في القفز على حواجز اللغة، واصطياد المختلف والغير مألوف.
أما الإبداع فلا سن شيخوخة محدد له، فيمكنه أن يشيخ باكرا رغم صغر سن صاحبه، ويمكنه أن يحافظ على شبابه رغم تقدمه في السن.
أيّ المدارس الشعريّة أقرب إلى سميرة بن عيسى؟
لا أعتبر نفسي أقترب أو أنتمي إلى أي مدرسة شعرية، أشعر دائما بأن لي رؤيتي المختلفة في الكتابة التي أعتبرها طريقة حياة، وأنا دائما أختار طريقي الخاص.
في ظل ثورة التكنولوجيا والسوشيال ميديا، هل أثر ذلك على نضوج القصيدة أم العكس؟
نعم أثر كثيرا على نضوج القصيدة عند الشعراء الجادين، من خلال الاحتكاك بكبار الشعراء والنقاد في الوطن العربي وخارجه، ومن خلال خلق مجتمع أدبي افتراضي لتبادل الأفكار والخبرات والثقافات..، ومن خلال إتاحة الكتب والمعلومات التي يحتاجها الهاوي ليصبح شاعرا مقتدرا.
ما النتاجات الأدبيّة التي قدمتها الشاعرة سميرة بن عسيى؟
ليس من السهل أن يلقي الشاعر(ة) نفسه ببساطة في مأزق الثبات على لقطة معينة في التوثيق والظهور، لذلك كنت أتريث دائما في طباعة عملي الشعري الأول.
توجتِ مؤخرا، بجائزة مانديلا العالمية للآداب دورة 2021، في فئة الشعر، -ألف مبروك مرة أخرى-حديثنا عن هذه التجربة، وعن ديوانك الشعري «تأويلات أخرى للغيم والماء».
كانت تجربة مختلفة وحافزا معنويا كبيرا للعمل أكثر مستقبلا، خاصة وقد ارتبط اسم الجائزة باسم المناضل القومي الكبير « نيلسون مانديلا» وهذا ما جعلني أكثر فرح بها.
كانت مجموعتي الفائزة وجهي الآخر الذي أطل به على الحياة من شرفة القصيدة، وعلى ذاتي التي تشف مراياها عن كون وجداني أكبر في وصف اللامرئي، والواقعي بما يحمل من هموم الوطن والهوية ومشاكل المجتمع والإنسان الجزائري والعربي بصفة عامة، حين تصبح الهوية العربية تهمة يوجهها لنا الآخر، وحين نحتسي الحزن مع قهوة الصباح على إيقاع الموت والإنفجارات وشريط الأخبار الأحمر بلون الدم، فتصبح أقصى أماني الشباب وأحلامهم قارب موت للنجاة من الحياة!، شعر أنثوي متمرد يكسر العادة والمألوف في مفهوم الشعر، ويخرج عن النمطي في تجليات حداثية ولغة شعرية مختلفة، لتحدث صوتا أنثويا مختلفا ومتمردا عن المعهود.
ما رأيك بالمسابقات الشعرية وما مدى نزاهة لجان التحكيم؟
لأنه لا يوجد نقد عندنا ولا قارئ نوعي للتمييز بين السيئ والرديء، باتت المسابقات الوسيلة الوحيدة لاكتشاف المبدعين وتسليط الضوء على أعمالهم والتعريف بهم، وإيصال كتاباتهم إلى أكبر عدد من الجمهور.
أما بالنسبة لنزاهة لجان التحكيم فلا يمكنني إطلاق حكم على الأمر.
آخر كلمة تهمسين فيها بأذن الشاعرات والشعراء؟
الكتابة طريقة حياة، وليست مهنة لأكل الخبز، كونوا أحرارا دائما تنتصر لكم وبكم وتصلون غاياتكم المرجوة.
رسالة شعرية تريدين أن تقولينها للقارئ ؟
الشعر ما يضيء حين تحترق الذات الشاعرة لتمنحك دهشة ما أو فرحا ما، ولتحمل العبء عنك وعن كاهل الحياة، وتحرر من الأحاسيس القابعة في أقصى الروح ما كنت تود تحريره بصدق، وبلغة جمالية راقية أقرب للقلب والوجدان، فكن أيضا شاعرا في تلقي هذا النص المقدس