الخبير أحمد كروش لـ «الشعب ويكاند»:

قوى تسعى لعرقلة اتّفاق «السّلم والمصالحة» لتبرير بقائها في مالي

حوار: عزيز - ب

يعتقد الخبير الأمني والمراقب الدولي السابق في بعثة الأمم المتحدة للسلام، أحمد كروش، أن حالة التأزّم المزمنة في دولة مالي ناتجة بالأساس عن الألغام التي زرعها الاستعمار الفرنسي هناك، والذي يقوم بتفجيرها وقت ما تقتضيه مصالحه، دون الالتفات إلى ما ينتج عن ذلك من مآسي ومعاناة للشعب المالي.
الخبير أحمد كروش وفي حواره مع «الشعب ويكاند»، يتوقّف عند أسباب وتداعيات الانقلاب العسكري الأخير في مالي ليقول: «الاستعمار خرج صوريا، لقد أخذ قواته لكن ترك كل خيوط اللعبة السياسية بيده، وبقي في كل مرة يفجّر لغما من الألغام التي زرعها، ليبقى الشعب المالي غارقا في مشاكله يبحث عن حلّ و بصيص من الأمن والأمان ، ولا ينتبه لم يسرق خيرات بلاه».
وعلى الرغم من صعوبة الوضع وتشابك الأزمة، فالحلّ كما يراه الخبير أحمد كروش، مرتبط بتنفيذ اتّفاق السلم والمصالحة المنبثق عن مسار الجزائر لأنّه - كما أضاف - يعتبر العمود الفقري لاستقرار مالي وطوق نجاتها، وحث الجزائر على مواصلة مرافقتها للماليين من أجل تطبيق هذا الإتفاق.

-  الشعب ويكاند: في ظرف 9 أشهر،عرفت دولة مالي  انقلابين عسكريين أعادا الوضع بهذه الدولة الواقعة في الساحل الإفريقي إلى مربّع عدم الاستقرار السياسي ، ما تعليقكم على التطورات الخطيرة التي تشهدها  الجارة الجنوبية و في أيّ اتّجاه تسير الأوضاع ؟
 الخبير أحمد كروش: الانقلاب الأخير في مالي يعد الانقلاب الخامس في حياة مالي المستقلة، نأسف لما وقع ولما يقع في القارة الأفريقية عامة من انقلابات عسكرية، وإن تكن هذه الظاهرة فهي مما ترك الاستعمار التقليدي من ألغام موقوتة يفجرها متى شاء، فهو المخطّط وهو المشرف على التنفيذ، وللأسف التنفيذ يكون عادة بأيادي من داخل ذلك الوطن، ويتدخل الاستعمار فقط إذا رأى أن الأمور قد تخرج عن السيطرة.
إفريقيا منذ ستينات القرن الماضي عرفت أكثر من مائة انقلاب ناجح، واستطاع منفذوها الوصول إلى السلطة. الاستعمار لا يريد للشعوب الإفريقية أن تعيش في جو الطمأنينة والهدوء والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، لأن ذلك يجعل هذه الشعوب تتوجه نحو التنمية والاكتفاء الذاتي، والدفاع عن مصالحها وحماية ثرواتها، لذا هو يريدها أن تبقى في صراع دائم، وبمجرد ظهور أي صراع مهما كان نوعه يعمّق الهوّة بين المجتمع نفسه، وكم يهوى الاستعمار التقليدي المراحل الانتقالية ويشجّعها لأنه يدرك أن المرحلة الانتقالية تعني دولة بدون مؤسسات، ودولة بدون مؤسسات دستورية تكون في أضعف مرحلة لها وتفتح الباب على مصراعيه للتدخلات الأجنبية، والأمثلة في العشرية الأخيرة كثيرة وواضحة، فمن أشرف على تكوين مجلس انتقالي سوري وعقد له مؤتمرا في عاصمته وجمع له 120 دولة ودعمه وأعطاه الغطاء السياسي، ووفر الدعم المالي والتسليح والتدريب لتحطيم سوريا؟ من أشرف على تكوين مجلس انتقالي في ليبيا ولقي من دعم ما لقيه نظيره السوري؟ من كان يبارك ويهلّل لفكرة مرحلة انتقالية في الجزائر في سنة 2019 بعد الحراك الشعبي المبارك والخروج عن المسار الدستوري؟ كيف يعقل أن فرنسا لها قوات على أرض مالي، وهي من تتحكم في كل المسارات في الداخل المالي ولا تعلم بانقلاب يعدّ ضد الرئيس ابو بكر كيتا؟ من أول من بارك الانقلاب الذي وقع في تشاد بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي، بعد حل البرلمان والحكومة وتنصيب مجلس عسكري يقود مرحلة انتقالية يرأسه نجل الرئيس المتوفي؟ ومن هو  أول رئيس هنّأ وبارك والتقى برئيس المجلس العسكري الانتقالي في تشاد؟
الاستعمار لا يريد الاستقرار السياسي للدول لان زعزعة الاستقرار السياسي يؤدي حتما إلى عدم الاستقرار الأمني، وإذا فقد الأمن تحل محله جميع الموبقات من جرائم منظمة وجرائم اجتماعية وفقر وهجرة ونزوح وتشكيل عصابات وانهيار مؤسسات الدولة، كما أن الاستعمار يدرك أن المرحلة الانتقالية دوما قابلة إلى تصفير العداد وبدأ الحساب من جديد، ففي مالي بعد أن بدأنا نعد لنهاية المرحلة الانتقالية والذهاب إلى انتخابات في فيفري 2022 جاءت مرحلة جديد، ولا أحد يدرك مآلاتها ونهايتها.

- بعد انقلاب أوت 2020 الذي أطاح بالرئيس ابراهيم بوبكر كايتا، استطاعت مالي ترسيخ سلطة انتقالية التزمت بتنظيم انتخابات في 2022 وتسليم السلطة للمدنيّين، وبدت الأمور في الطريق الصّحيح إلى أن قرّر الكولونيل آسمي غويتا القيام بانقلاب عسكري ثان، فما قصّة مالي مع الانقلابات؟ وما دوافع غويتا وراء حركته ثم هل من جهة تريد زعزعة استقرار مالي؟
 نعم كما هو معلوم بعد انقلاب أوت 2020 في مالي، الكل شجب العملية، الكل لسان حاله يقول ندين أي عمل يؤدي إلى السلطة خارج العملية الدستورية، سواء كانت هذه الإدانة من دول منفردة ذات سيادة أو من هيئات دولية وإقليمية، فقرار الاتحاد الإفريقي هو عدم الاعتراف بأي سلطة تصل إلى الحكم خارج الشرعية الدستورية لذلك البلد، ورأينا كم كانت الزيارات والمفاوضات مع سلطة الانقلاب في مالي والمؤسسات الدولية من أجل تسليم الحكم للمدنيين وتقليص المرحلة الانتقالية الى اقصر مدة ممكنة، ومن بينها زيارات متعددة لوزير الخارجية الجزائري إلى باماكو وتحادثه مع كل الأطراف هناك، وتعهد الجزائر بمرافقة هذه الحكومة من أجل أن تمر المرحلة الانتقالية بأقل الإضرار والذهاب سريعا إلى الشرعية الشعبية، وكان تخفيض المدة إلى 18 شهر وتكوين حكومة مدنية ورئيس مدني، وسارت الأمور بشكل جيد نوعا ما، رغم وجود جماعات إرهابية تنشط على أرض مالي، ووجود قوات أجنبية قد تخلط الأمور في أي لحظة.
في ظرف تسعة أشهر استطاعت هذه السلطة أن تقدم شيئا للشعب المالي، وأظهرت التزامها الكامل بتطبيق مسار السلم والمصالحة في مالي الذي وقع بالجزائر في سنة 2015، وفعلا فقد انعقد لجنة المتابعة لتطبيق ميثاق السلم والمصالحة في شهر فيفري في مدينة كيدال الواقعة في شمال مالي وتحت حماية الجيش المالي، وما تعنيه كل هذه الأشياء، فمدينة كيدال تقع في الشمال الذي كان عصيا على الجيش المالي دخوله، وأن تكون الحراسة والحماية للجيش المالي، يعني ذلك مدى تقدم وتحسن الوضع الأمني والتزام كل الأطراف بتطبيق الميثاق، كما زار الرئيس المؤقت المالي الجزائر للتباحث في الشؤون الأمنية للمنطقة والساحل خصوصا، وكذلك التعاون بين البلدين في جميع المجالات، لكن وحسب الأسباب التي ذكرها قائد الانقلاب، فإن التعديل الحكومي الأخير لم يستشر فيه وأنه مس عناصر من  مجال اختصاصه وهما وزارة الدفاع والداخلية، وجرى الانقلاب بنفس الطريقة ونفس الأسلوب الذي وقع في شهر أوت الماضي، وكما هو منتظر كانت مواقف دولية من دول ومن هيئات تدين الانقلاب، لكن الوضعية الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي تعيشها مالي لا تحتمل المزيد من الأزمات، فنشاط الجماعات الإرهابية يزداد وكل يوم يسجل ضحايا جدد، ونسبة الضحايا زادت بنسبة 67 في المائة سنة 2020، الجريمة المنظمة والتي ترعاها أجهزة دول وتسهل لها مهامها خاصة جرائم تهريب المحذرات وتبييض الأموال، وكذلك وجود القوات الأجنبية التي تغذي الصراعات الداخلية بين القبائل، فكل طرف يتهم الطرف الآخر بتعاونه مع القوات الأجنبية لإلحاق الضرر به. كل هذا وتزيدها الانقلابات التي ترافقها عقوبات دولية التي يتأثر منها بصفة مباشرة الشعب المالي، الذي يزيد فقرا وتشردا ونزوحا وهجرة مما يؤثر على دول الجوار، وخاصة الجزائر لأنها الدولة المستقرة أمنيا وسياسيا في المنطقة، وكل دول الجوار وجدت الضيافة ودفء المجتمع الجزائري.

- قائد مالي وعد بتكليف المعارضة المنضوية تحت لواء حركة «5 جوان»  بتشكيل حكومة انتقالية جديدة، فما معنى هذا القرار؟
 هذه هي خاصية قائد الانقلاب العسكري، وسبق في الانقلاب الأول أن وعد بتشكيل حكومة مدنية لكن احتفظ بالمناصب السيادية (الداخلية والدفاع)، أي أن أجهزة القوة الأمنية كلها تحت سلطته، والآن يعد بتشكيل حكومة من المعارضة حركة 5 جوان كما يقول، والتي أقصيت من تعديل الحكومة الأخيرة التي وقع عليها الانقلاب، ربما لأنهما كانا يسيران في نفس الخط ، إنهما أقصيا من الاستشارة في تشكيل الحكومة الأخيرة، ومهما يكن تشكيل الحكومة ومن أي تيار تكون فيه، تكون صلاحياتها محدودة فهي لن تلقى الدعم الشعبي المطلق لأنها جاءت عن طريق التعيين بعيدا عن الإرادة الشعبية، وكذلك المجتمع الدولي يتعامل معها بحذر هذا إن لم يسلط عليها عقوبات سياسية واقتصادية، وكذلك تبقى صلاحياتها محدودة في ظل وجود مجلس عسكري ويقوده رئيس الدولة، الذي خص نفسه بهذا المنصب، لذلك لا أعتقد أن هذه الحكومة سوف تكون منتجة، فأسباب عدم نجاح الحكومة المطاح بها مازالت قائمة رغم أنها جاءت بعد مشاورات وحوارات بين كل الأطياف والفاعلين، ولقيت قبولا دوليا لها، فكيف لهذه الحكومة التي على ما يبدو ليس لها قبول داخلي ولا خارجي.

- بالتأكيد عدم الاستقرار السياسي ستكون انعكاساته وخيمة على الوضع الأمني في مالي، كيف ترون تطبيق اتّفاق «السّلم والمصالحة» في هذه الظّروف؟
 الاستقرار السياسي في أي دولة أساس التنمية والرفاهية والتقدم، فالأمن  والصحة والتعليم وكل مناحي الحياة مربوطة بالسياسة، وعدم الاستقرار السياسي أول متضرر منه هو الجانب الأمني لان الصراع السياسي الداخلي قد يؤدي إلى انفجارات وصدامات داخلية، ومنها يفتح الباب إلى التدخلات الأجنبية تحت ذرائع شتى، زيادة على ذلك أنها تصبح منطقة جذب للجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة لان البيئة المفضلة لمثل هذه التنظيمات هي المناطق التي تعاني من هشاشة أمنية.
معروف أن الأزمة المزمنة في مالي تجلت دوما في حركات تمرّد تقودها جماعات انفصالية بسبب التهميش وعدم وجود عدالة في توزيع السلطة والثروة، وقد كانت هناك اتفاقات ترعاها الجزائر في كل مرة وتجد حلولا لهذه الأزمات، لكن التدخلات الأجنبية كانت تفسد كل شيء، وبعد سقوط النظام في ليبيا وانتشار الفوضى، أصبحت مخازن السلاح والذخيرة بليبيا مستباحة للجميع، كما أصبحت المنطقة نقطة جذب للجماعات الإرهابية وكذلك التدخلات الدولية، فكانت أول دولة متضرر من الأزمة الليبية مباشرة هي دولة مالي التي جذبت أكبر عدد من الدمويين والسلاح وأصبحت الأزمة مركبة، انفصالية ووجود جماعات إرهابية لا تعترف بالحدود أصلا، وكان الهجوم على العاصمة باماكو في 2012 ممّا برّر لفرنسا الدخول بقواتها بعملية سيرفال تحت حجة محاربة الإرهاب، وتعقدت الأزمة أكثر فأكثر وحتى الجزائر دفعت أثمانا باهظة في مالي من خلال هجوم الإرهابيين على القنصلية الجزائرية واختطاف دبلوماسيين جزائريين، إلا أن الجزائر لم تستسلم ولم تترك الشعب المالي لقدره، وعملت على إيجاد اتفاق تقبله كل الأطراف المتنازعة والحكومة المركزية، وفعلا عقد اتفاق في الجزائر سنة 2015، هذا الاتفاق الذي يؤدي تطبيقه الى تقاسم السلطة والثروة بين كل مكونات المجتمع المالي ونزع أسلحة المتمردين، ودمج مقاتليهم في الأجهزة الأمنية والجيش المالي أو في المجتمع، وكانت نجاحات لصيرورة هذا الاتفاق رغم الوجود الجانبي وزيادة تنامي الجماعات الإرهابية التي جعلت من نفسها محررة الأرض من الوجود الفرنسي، الذي طور عملية «سيرفال» الى عملية «برخان «وزوّدها بتعداد وصل الآن إلى 5100 عسكري.
إلاّ أنّ الاتفاق صمد وأخيرا كما ذكرنا، عقدت لجنة المتابعة اجتماعها في كيدال، وهذا الأمر ربما لم يعجب أطرافا دولية أو حتى إقليمية وهي تعمل على تعطيله، ولذلك نرى زيادة عمليات الجريمة المنظمة وحتى عمليات الجماعات الإرهابية وعمليات الجيوش الأجنبية التي قتلت من المدنيين أكثر ما قتلت من الإرهابيين وتسميها أخطاء جانبية.
أعتقد أنّ هدف بعض القوى هو إفشال اتفاق السلم والمصالحة، وبإبقاء الوضع في مالي متأزما دوما حتى تبرر بقاءها هناك.

- ما يجري يثير مخاوف الكثير من الجهات، أوّلها الجزائر، فكيف تنظر هذه الأخيرة إلى ما تعيشه الجارة الجنوبية؟ وأيّ دور يمكن أن تلعبه لتفادي مزيد من الانزلاق هناك؟
 الجزائر ملتزمة مع مبادئها ومبادئ ثورتها التحريرية المباركة ومبادئ سياستها الخارجية المكرسة في الدساتير الجزائرية المتعاقبة، أنها ترفض أي وصول للسلطة خارج الأطر الدستورية، وكذلك ملتزمة بقرارات الاتحاد الإفريقي التي هي عضو مؤسس فيه، وترأس الآن مجلس الأمن والسلم فيه،  لقد أدانت الانقلاب وأدانه الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوربي وكل الهيئات الدولية، لكن في الأخير في دولة مالي شعب عانى الويلات من الجوع والفقر والنزوح والهجرة والظروف الطبيعية القاسية زادته الصراعات الداخلية والاقتتال البيني وبطش الجماعات الإرهابية وقسوة القوات الأجنبية. أعتقد أن المجتمع الدولي سوف يرافق هذه السلطة، وعلى الجزائر التي تعتبر أمنها من امن جيرانها أن ترافق هذا الأمر حتى يمر بأقل الإضرار، وأن تعمل كما عملت في السابق من مرافقة الشعب المالي في محنه المتتالية وأن تعمل كل ما في وسعها من اجل الاستقرار في مالي بقاء اتفاق السلم والمصالحة كعمود فقري لأي حل في مالي والذي باركته كل دول العالم والهيئات الدولية، لأنه هو طوق النجاة في مالي فبدونه نرجع إلى مربع الصفر، وهذه المرة يكون اخطر من السابق نتيجة كل هذه التداخلات التي تحدثنا عنها، الجزائر عملت مع جيرانها هيئة فعالة لمحاربة الإرهاب، وسعت إلى تكوين هيئة الأركان المشتركة أو ما يسمى بدول الميدان  التي أثمرت في مطاردة الجماعات الإرهابية ، الجزائر سوف تعمل على تفعيلها وتنشيطها أكثر، وان تعمل باتفاقيات ثنائية مع دول الجوار لحلحلة الوضع، وكذلك في إطار المحافل الدولية وخاصة أنها ترأس مجلس السلم والأمن الأفريقي.

-  فرنسا تذمّرت كثيرا من الانقلاب الأخير في مالي وهدّدت بسحب  قواتها، ما قراءتكم للموقف الفرنسي؟
 أعتقد أن فرنسا هي أكبر ممثل تؤدي أدوارا وفق السيناريو الذي تكتبه ووفق الإخراج الذي تريده، فهي تقول عكس ما تفعل، ذكرنا أن فرنسا هي من تتحكم في مفاصل الدولة وكل مناحي الحياة للشعب مالية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، عسكرية، أمنية وكل المنظومة الإدارية.
فرنسا لما تقمصت الدور الأول في إسقاط النظام في ليبيا بالتعاون مع الناتو وحلت الجيش الليبي وكل مؤسسات الدولة، كانت تدرك مصير الفوضى التي أحدتثها هناك، وبالفعل لم تمر سنة إلا ومالي تدفع الثمن وأصبحت نقطة جذب للجماعات الإرهابية وكان الهجوم على العاصمة باماكو، ممّا برّر لفرنسا التدخل تحت حجة مكافحة الإرهاب، وجاءت بـ 4500 عسكري مدججين بالسلاح تحت اسم عملية «سيرفال»، واستصدرت قرارا من مجلس الأمن بتكوين بعثة للأمم المتحدة متعدد الأبعاد للدعم في مالي، ووصل قوامها اليوم إلى 15000 عسكري، وبعد سنة غيرت اسم العملية الى عملية «برخان» وعززتها بقوات إضافية وصلت 5100 عسكري، وذاق منها السكان المحليون الويل والقتل تحت ذريعة أخطاء جانبية أكثر مما حاربت الإرهاب، وأظهرت للعالم مقاربتها لمكافحة الإرهاب بإمداد الإرهابيين بأموال الفدية التي تجرمها كل القوانين الدولية، ولم تكتف بذلك بل ذهبت إلى حد إخراج عناصر إرهابية من السجون المالية، وهو ما يؤدي الى تعزيز صفوف الجماعات الدموية بها، وسبق لهذه العناصر أن قامت بأعمال إرهابية وسجنت بسببها، ولما بدأت فرنسا تدفع ثمن وجودها هناك وإصابة قواتها على الجبهات، فكرت في إيجاد قوة محلية تحمي جنودها وتكون هذه القوات على جبهات القتال والقوات الفرنسية في المؤخرة تخطط وتقود، وكل ما دفعته فرنسا من ثمن طيلة وجودها في دول الساحل لنهب خيراته لا تتعدى 57 قتيلا بين من سقط في اشتباكات على الجبهات وبين من سقط في حوادث متفرقة، بذلك أرادت فرنسا أن تضرب عصفورين بحجر، أن تشوّش على هيئة الأركان المشتركة لدول الميدان، وكذلك لإيجاد حماية متقدمة لجنودها واستحدثت ما يسمى بقوات مجموعة الدول الخمس (موريتانيا، مالي، بوركينافاسو، النيجر وتشاد) وصل تعداد هذه القوة الى 5000 عسكري، وكانت هي العراب لذلك وقامت بمؤتمرات دولية للدول المانحة من أجل تمويل حروبها في إفريقيا عامة وفي دول الساحل خاصة، ولم تكتف فرنسا بعسكرة المنطقة الى هذا الحد، بل دعت الدول الأوروبية للمشاركة في عملية «تاكوبا»، والتي بدأت الدول الأوروبية الآن تلتحق بها، ووصل تعدادها إلى أكثر 250 عسكري والعدد قابل للارتفاع.
سبق لفرنسا أن صرحت بمثل هذه التصريحات، والتهديد بسحب قواتها من هناك اذا لم تشارك الدول المعنية بفعالية في الحرب، وقلنا حينها أنه ابتزاز سياسي وتهديد للساسة الأفارقة المعنيين، وكذلك للدول الغربية من اجل أن تشارك أوروبا وأمريكا بأموالها وجيوشها والدول المعنية بقمع كل تظاهر يهدف الى طرد القوات الأجنبية من دول الساحل، وتسخير كل القوات الأمنية من اجل حماية الوجود الأوروبي والفرنسي خاصة، وشهدنا ما وقع من تظاهرات في مالي والنيجر، وأخيرا في السنغال وتشاد، الكل رافض الوجود الأجنبي هناك.

- كيف تتصوّرون تطوّرات الوضع في مالي؟
 بقراءة سريعة للأزمات التي مرت بها دولة مالي منذ الاستقلال إلى اليوم، يكتشف أن هذه الأزمات مزمنة وتراكمت مع مرور الزمن، وكل مرة تزيد في عمق الهوة بين أبناء البلد الواحد وتعمق الجرح، وهذا كان نتيجة الألغام التي زرعها الاستعمار طيلة مدة بقائه هناك، ولما خرج، خرج صوريا أنه اخذ قواته لكن ترك كل خيوط اللعبة السياسية ومصير الشعب المالي بيده، وبقي في كل مرة يفجّر لغما من الألغام التي زرعها، لتبقى شعوب المنطقة غارقة في مشاكلها وتبحث عن لقمة عيشها وعلى بصيص من الأمن والأمان، ولا تنتبه لمن يسرق خيراتها.
مالي عاشت أزمات، وكانت الجزائر دوما بجانب الشعب المالي لإيجاد حلول دائمة تنهي الصراع، لكن التواجد الأجنبي على هذه الأرض لا يساعد على بعث الثقة والطمأنينة بين القبائل ومكونات الشعب المالي نظرا للأسلوب الاستعماري الذي يؤسس على فكرة فرّق تسد.
أزمة مالي زادت صعوبتها بالفوضى والهشاشة الأمنية التي تعيشها المنطقة، وعسكرة المنطقة فوق اللزوم، وأيضا تنامي الجماعات الإرهابية وتصلب شوكتها بسبب المقاربة التي انتهجتها فرنسا في محاربتها وعد الالتزام بالقوانين الدولية وإعطاء الفدية للإرهاب.
الآن يبدو أن المجلس العسكري الذي قام بانقلابين متتاليين وبنفس الطريقة وبنفس الأسلوب، وأنه هو الآن الآمر الناهي ولا صوت يعلو فوق صوته، قد نشهد تحديد تواريخ لإجراء الانتخابات وتسليم السلطة، لكن تحقيقها من عدمه يبقى دائما رهينة التجاذبات الاقليمة.
الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة يزيد في المشكل ولا يعمل على الحل، الحل هو في المقاربة الجزائرية، برفض التواجد العسكري الأجنبي في المنطقة، والاعتماد على ثنائية الأمن والتنمية، ومساعدة هذه الشعوب على تكوين أجهزتها الأمنية والعسكرية وبناء بنية تحتية اقتصادية تمكن أهل الأرض من العيش فيها باستقرار وأمان، وإذا كان المجتمع الدولي جاد في إيجاد حلول جذرية في المنطقة، فهناك قاعدة انطلاق لتحقيق ذلك وهو اتفاق السلم والمصالحة الذي ترعاه الجزائر، أما عدا ذلك للأسف قد تبقى المنطقة لعشرات السنين تعيش الفوضى وعدم الاستقرار.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024