النّقد الثّقافي لن يكون بديلا عن الأدبي
تبدو الدّراسات متأخّرة كثيرا عن التّراكم الرّوائي
في الجزء المتبقّي من حوارنا مع النّاقد قلولي بن ساعد، تناول بعض المسائل المتعلّقة بالدّراسات الأدبية واللّغوية من زاوية جديلة التّخصّص والعصامية، محاولين فهم كثير من المناهج النقدية والفلسفية بطريقة غير التي نقرأها في الكتب، حيث تحوّلت كثير من الدراسات إلى جداول و»طلاسم» تزيدا النص المدروس غموضا عوضا عن محاولة فهمه.
ويعتبر قلولي بن ساعد الكاتب العصامي، ظاهرة في الوسط الأدبي، حيث تناول أهم المناهج النّقدية وأحدثها بعيدا عن الجامعة.
- الشعب ويكاند: كيف السّبيل للخروج من هذا «المأزق الإشكالي»؟
النّاقد قلولي بن ساعد: للخروج من هذا المأزق الإشكالي هناك بعض المعالجات المقترحة من لدن عدد من النقاد سواء على صعيد «الاقتراض النظري» أو على صعيد ترجمة الإرث النظري والإبستيمي، الذي يؤطّر نشأة النظرية في فضاء ثقافي مغاير للفضاء الثقافي العربي كالدكتور يوسف وغليسي، الذي يقترح عند ترجمة النظرية والمصطلح معا ما يسميه «حق الإقتراض وهاجس العوربة» من خلال إحلال مفهوم التعريب محل عمل الترجمة، في انتظار هبة حضارية أو خطّة تنموية تضع هاجس التنمية اللغوية كما يرى ضمن جدول أعمالها.
بينما يقترح المفكّر المغربي محمد عابد الجابري مفهوما آخر هو «التبيئة» للحد ممّا وصفه عبد الوهاب المسيري «إمبريالية المقولات».
وحتى هذه التبيئة فينبغي أن تتم بنوع من «التعديل» بمفهوم الناقدة الهندية ما بعد الكولونيالية غياتريسبيفاك.
التّعديل الذي لا يتجاوز حدود ما يسمّيه الجابري «تشويه الواقع أو الاعتداء على الحقيقة العلمية».
ويضرب لذلك الجابري مثلا بحالة الماركسي السّلفي عندما ينقل للمجتمع العربي مفاهيما وضعت لتعبّر عن واقع معين ليس هو الواقع العربي في تركيبته وصيرورته طالما أنّ التبيئة تعني في منظور الجابري «ربط المفهوم بالحقل المنقول إليه ربطا عضويا، وذلك ببناء مرجعية له فيه تمنحه المشروعية والسلطة».
وهي معالجات جزئية ليس في استطاعتها حل إشكالية «مديونية المعنى» بتعبير السوسيولوجي ميشال غوشيه أو تجاوز البعد القائم في ما سمّاه المفكّر المغربي عبد الله العروي «قياس المسافة التاريخية والحضارية بين فصائي النشأة والاستقبال»، فضاء نشأة النظرية في مهدها الغربي وانتقالها إلى فضاء آخر هو الفضاء العالم الثالثي، وهي مسافة بالطبع حضارية وليست تاريخية فقط.
بالنظر لحداثة تجربة الكتابة النقدية العربية وتعثّر مشاريع الترجمة والبحث العلمي والتذبذب الحاصل على صعيد مشروعات النهضة العربية التي لم تتمكن من العثور على الوصفة الملائمة لحل أصناف التخلف الأربعة التي تعرض لها المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي في كتابه «أشياء من النقد والترجمة» وهي «الاقتصادي، الثقافي، السياسي والتربوي».
- وماذا عن «النّقد الثّقافي»، هل هو بديل للمناهج السّابقة التي ثبت محدوديتها، أم هو مجرّد «موضة» سيتجاوزها الزّمن؟
لا أعتقد أنّ النّقد الثقافي هو البديل عن النّقد الأدبي، ولا يمكن التّنكّر لكل المكاسب التي حقّقها النّقد النّصوصي سواء السياقي السوسيولوجي والنفسي أو النسقي البنيوي والأسلوبي والسيميائي وحتى التفكيكي.
وكل ما في الأمر أنّ هناك ثغرات لم يكن بوسع النّقد الأدبي النصوصي ترميمها لأنّها ليست من صميم المنظومة النظرية التي يستقي منها النّقد الأدبي أدواته المفهومية والتقنية والإجرائية، فانشغل بالبنية وأهمل النسق.
والنص كما نعلم بنية ونسق وليس بنية فقط ممّا لا يمكن استنفاد كل أسئلة القراءة المفتوحة أمام رياح العقل البشري في استنباط الدلالة الثقافية من باطن النصوص الإبداعية الجديرة بالتناول النقدي من منظور النقد الثقافي، الذي لازال النص الإبداعي الجزائري والعربي عموما بعيدا عنه.
بل وهناك من يتهيّب ممّا أبداه بعض النقاد من الدعوة إلى تمكين النقد الثقافي و»تبيئة» بعض مفاهيمه، والأسئلة التي يحاول إثارتها بدعوى أنّه يساوي بين جميع النّصوص من حيث كونه لا يقول لنا ما إذ كان هذا النص جميلا أم رديئا من الناحية البلاغية والجمالية طبعا، على اعتبار أنّ النقد الثقافي ليس من وظائفه أبدا التعرض للحيل الأسلوبية والبلاغية في النص أو الكشف عنها.
وهي دعوة باطلة بل وتخفي وراءها توجّسا رهيبا من النّقد الثقافي الكفيل بتعرية الثقافة العربية والنص الإبداعي كتجل لهذه الثقافة من الأنساق الثقافية المهيمنة تحت غطاء الجمالية والحيل الأسلوبية والزخارف اللفظية بما تهيل عليه ما يسمّيه محمد عبد الله الغذامي «بحكومة البلاغة» بعض الهيمنة النسقية.
هذا هو سؤال النّسق الذي قاد عددا من النقاد الثقافيّين إلى الانفتاح على إنتاجية أسئلة ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، وغيرها من أشكال التحولات المتتالية التي جاءت بها الخطابات البعدية ضمن فلسفة «الما بعد» بوصفها الحاضنة المعرفية التي اتّكأ عليها مؤسّسو حقل الدراسات الثقافية.
وهو مفهوم أشمل من النّقد الثقافي في مركز برنغهام ببريطانيا للدراسات الثّقافية التي تعتبر إحدى الخلايا التي ستنبثق عنها سلسلة أخرى من التّوجّهات المعرفية.
وهي توجّهات كلّها تصب في مصلحة المعقولية التي تحفظ للتعددية الثقافية، بأن تدشّن بعض أهدافها بما في ذلك ثقافة الهوامش والأطراف خاصة في العالم الثالث (النساء / السود / الأفارقة / الآسيويّين) والنصوص المجاورة لها على غرار السينما والفنون التشكيلية والأدب الشعبي والسرديات المسكوت عنها في النقد البرجوازي كروافد ثقافية لم تكن محل عناية من طرف النقد الأدبي النّصوصي، الذي ركّز كل جهوده على النص الإبداعي المؤسّساتي وعلى نصوص «الحداثة الرفيعة» بتعبير ماري تيريز عبد المسيح بأثر ممّا يضمن للقراءة النصية امتثالها لفوقية المركزية الغربية التي تلقّى بعض مناهجها النقاد العرب بنوع من الميكانيكية والشكلانية حتى لا أقول التبعية المذلّة.
- ماذا أضافت قراءاتك وكتاباتك النّقدية على تجربتك القصصية؟
لا أدري إن كانت قراءاتي الفلسفية والسوسيولوجية والمعرفية قد أضافت شيئا لرصيدي المحدود في الكتابة القصصية، مع أنّي لم نقطع أبدا عن قراءة الرّواية العربية والرواية العالمية، هذا أمر ليس في إمكاني الإجابة عنه الآن.
وحتى قراءاتي للفلسفة والنقد الفكري والمعرفي، فهي قراءة دارس وليست قراءة مبدع، مع أنه يمكن للقارئ أن يقرأ الفلسفة من خلال الرّواية التي تستوعب مختلف الأفكار والنزعات الفلسفية.
وهو أمر نادر الحدوث بالنسبة للرواية الجزائرية، التي لا تزال بعيدة عن هذا الأفق على غرار ما نرى ذلك في بعض النماذج من الرواية العالمية والرواية العرفانية.
ولا علاقة لذلك بما يسمّيه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بإبداع المفاهيم أو الإبداع المفهومي، الذي يبقى حكرا على الفلسفة عندما كان يرى بأنّه لا خير في فيلسوف لا يبدع مفهومه الخاص أو مفاهيمه الخاصة.
- أخيرا..ألا ترى أنّ الرّواية الجزائرية تفوّقت على النّقد الذي بقي أسير «أبراجه العاجية»؟
قد يبدو النّقد متأخّرا كثيرا عن التراكم الروائي، الذي يزداد تسارعا من سنة لأخرى.
وهذه حقيقة لا يمكن التنكر لها، ولكن أيضا لا ينبغي الخلط بين نوعين من النقد النوع الأول هو النقد الأكاديمي، فيما النوع الثاني هو النّقد الصّحفي.
وهذا الأخير هو نقد يتوكّأ على المواجهة الصريحة للنص من دون الاستعانة بمنهج معين وقضايا المنهج والمنهجية ليس لافتقاره لها.
ولكن لأنّه يتوجّه لقارئ يبحث عن «المتعة النصية»، ولا يهمه المنهج ولا المصطلح، وهو غير معني بآليات القراءة ومناهجها وأصولها النظرية.
بدليل أنّ هناك بعض النقاد الأكاديميّين والأساتذة الجامعيّين يقومون بين الحين والآخر بهذا النوع من النقد، ونعني بذلك النّقد الصحفي.
وهم وغيرهم من الذين قدّموا خدمات جليلة للأدب الجزائري في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، في وقت كان فيه النقد الأدبي الجزائري المكتوب بالعربية يكاد يكون معدوما، وهي مرحلة كان لا بد منها في ذلك الزمن بالنظر لحداثة تجربة الكتابة النقدية في الجزائر آنذاك في حدود وسياقات مختلف المواقف والتوجهات الفكرية السابقة منها أو الراهنة، وما أنتجته في زمنها وبيئتها من منظومات فكرية ومعرفية متباينة تبعا لتحولات تجربة الكتابة النقدية وإحالاتها التاريخية والإيديولوجية.
فيما النقد الأكاديمي فهو يسير ببطء شديد، وليس في إمكانه التصدي لكل هذا السيل من النصوص الروائية والمتلاحقة في ظل هجرة جماعية إلى الرواية من مختلف الفنون والأنواع الثقافية، الأمر الذي جعل بعض الرّوائيّين يتعاملون مع نظرائهم من الرّوائيّين الآخرين القادمين من الشعر والقصة القصيرة، ومن النقد ومن أجناس أدبية أخرى بنوع من الإنزعاج كأنّهم غرباء عنهم وليسوا شركاء لهم في الهم الثقافي، ممّا يعني الحد من مستقبل الرواية ذاتها كفن وكجنس أدبي يستوعب مختلف الأصداء والمستويات النصية والأجناسية بما في ذلك نداء الضيافة أو «سياسات الضيافة» بمفهوم ديريدا أو قبول الآخر في أفق من التطلع لتحصيل بعض قيم «العيش المشترك».
رغم وجود بعض النقاد الأكاديميّين الذين يقدّمون بين الحين والآخر نصوصا نقدية محكمة ورصينة، وهي قليلة بالطبع.
وطالما أنّ النقد هو «بناء لفهم خاص لعصرنا» بمفهوم رولان بارت، فهذا البناء يتطلّب التأسيس لمشروع نقدي أو عدد من المشاريع النقدية تتّخذ من الرّواية مجالا لها، وهو الأمر الذي لم يحدث بعد.
وأتمنّى أن نرى ذلك في مشروع نقدي قادم ضمن خطّة مدروسة وعمل جماعي تشرف عليه مؤسّسة بحثية أو عدد من المؤسّسات الأكاديمية ومخابر البحث الكثيرة، وهو أمر بالطبع دونه صعوبات جمّة لا يمكن تجاهلها ولكن أيضا ليس هذا مبرّرا للنوم والكسل.