دور النخبة انحسر لصالح فئات ذات مستوى محدود
امتزاج بني هلال بالبربر تمّ على مرحلتين
دور القبيلة الذي انحسر في الجزائر مع إقرار نظام الحالة المدنية في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وظهور الألقاب العائلية الحالية، بدأ يعود ولو افتراضيا من خلال النقاشات الكثيرة التي تحملها صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، التي تحاول جمع الروايات المتناقضة وبعض الوثائق المكتوبة من أجل العودة إلى «الأصل».
في هذا الحوار مع البروفيسور عبد الحميد بورايو، الباحث البارز في الثقافة الشعبية، نحاول الاقتراب من «سؤال القبيلة» والتراث الشعبي عموما وبعض القضايا ذات الصلة.
«الشعب ويكاند»: مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، برزت صفحات تعيد الجزائريين إلى «القبيلة» بالبحث عن الأصول، كيف تقرأ هذه الظاهرة؟
عبد الحميد بورايو: العودة إلى الأصول القبليّة والأسريّة والجهويّة، مسألة تندرج في النزوع إلى البحث عن الهوية الجمعيّة وهو مبدأ العصبيّة الذي تحدث عنه ابن خلدون بالنسبة للمجتمع العربي والبربري؛ وهو بحث أعتقد أنه يمثل هاجسا بالنسبة للجزائريين منذ القديم، بفعل تعرض الوحدات الاجتماعية المكونة للمجتمع الجزائري (القبيلة، العشيرة، العرش، العائلة إلخ...) للتهجير والانتقال عبر قرون بسبب عمليات احتلال الأرض والتهجير القسري، وكذلك بسبب عملية استقرار الرحّل (عربا وبربر) الذين كانوا يمثلون قسما هاما من هذا المجتمع، وقد اتجهوا للاستقرار التدريجي، سواء في مواطنهم الأصلية أو في مواقع أخرى، وبالخصوص في منطقة التلّ لعوامل بيئية مثل الجفاف، وبفعل الانتقال من نمط معيشة البدو الرحل إلى نمط معيشة الفلاحين المستقرين أو نصف المستقرين. أضف إلى ذلك، الامتزاج الذي حصل بين أعراق مختلفة؛ بربر، عرب، كراغلة (تعود أصولهم الأبوية للأمبراطورية العثمانية)، مهاجرون من الأندلس، سود من وسط إفريقيا إلخ... وهو امتزاج لاقى بعض المقاومة من الثقافة الموروثة للعصبيّة القبليّة. أضف إلى ذلك، عامل السلطة السياسيّة- الدينيّة التي عرفتها شمال إفريقيا، بعد استقرار الإسلام فيها، والتي كانت تستند إلى الانتساب لعائلة الرسول (ص)، فانضوت تحت لوائه جموع غفيرة بفعل الولاء أو الانتساب لسلالة الرسول، خاصة من قِبل المهاجرين من المشرق بفعل الضغط السياسي واضطهاد بعض المذاهب الدينية وانقلابات الحكم. وقد حظيت هذه الجموع بالمكانة والتبجيل، بانضوائها تحت جناح السلطة، سواء كانت مركزية (دولة) أو قبليّة (مثل الأشراف والمرابطين والشيعة إلخ...) وتمكّنت من الحصول على مرتبة اجتماعية تتيح لها بعض الامتيازات.
خفتت نزعة البحث عن الأصول في فترة الحركة الوطنية، ثم خلال الثورة التحريرية، نظرا لما تَطَلَّبَهُ الظرف من تلاحم وتنظيم سياسي وعسكري كان لابدّ أن يسمو على مثل هذا النزوع، لضرورة الالتفاف حول مشروع وطني بالمفهوم الحديث للإيديولوجيا الوطنيّة. ولكنّ هذا النزوع ظل يشتغل في اللاوعي الجمعي، وكان له دور في بعض الصراعات التي حدثت أثناء كل من الحركة الوطنية والثورة التحريريّة بين المجموعات السياسية وأعضائها.
بعد الاستقلال واضطلاع الدولة الوطنية بتسيير المجتمع، أيقظ الصراع على السلطة بين المجموعات السياسية وأعضائها نزعة العصبية الجهوية. وكان لإجهاض التجربة الديمقراطية، التي عرفتها نسبيا الأحزاب السياسيّة الوطنية ومؤسسات الثورة، دور في تعزيز هذه العصبيّة، التي أصبح النظام السياسي يسيرها ويستعملها بطريقة غير معلنة من أجل حفظ التوازنات والحفاظ على الهيمنة (تعيين الوزراء والموظفين السامين وبرامج التنمية الخ...). في أثناء ذلك نجد هذه النزعة قد خَفَّتْ نسبيا في الحياة العامّة بين أفراد الشعب بفعل فترة تحقيق مشروع الدولة وتنظيم المجتمع والطموح لتحسين ظروف المعاش وتنظيم المؤسسات وتوفر الشغل والتمدرس، لكنها ظلت مؤثرة في مجال الانتقال من الريف إلى المدينة وتوفير الظروف الملائمة للإقامة في المراكز الحضرية وشغل المناصب والوظائف الإداريّة.
في نهاية الثمانينيات وخلال التسعينيات من القرن الماضي، أدّى ضعف المؤسسة السياسية وفقدان مشروع وطني جامع متلائم مع الظروف الجديدة ومناسب للأجيال الجديدة، إلى ظهور العصبية للجهة وللقبيلة وللعائلة لتتحكم إلى درجة كبيرة في التشكّلات السياسيّة والحركيّة الاجتماعيّة الجديدة ولم تجد في مواجهتها سوى نوع آخر من العصبية؛ وهي عصبيات النزعات السياسية الإسلاموية. في هذه الفترة وفي العقدين الأخيرين، وجد المجتمع الجزائري نفسه يفرز نزعات أصولية، إما عرقية أو دينية، تبرر انتشار ثقافة سلفية أو قبلية. كما أدى ضعف الدولة وطبيعة الحكم المتسلط في العشرين سنة الأخيرة إلى محاولة استعمال هاتين العصبيتين لصالحه عن طريق إسكات احتجاجهما عن طريق توزيع الريع.
دخلت وسائط التواصل الاجتماعي الميدان كعامل جديد سمح لمختلف الفئات أن تعبر عن موقفها، وخاصة الشباب. انحسر دور النخبة وحلّت محلّه الفئة الأوسع غير المنظّمة ذات المستوى التعليمي المحدود، والتي نشأت في ظلّ غياب المشروع الوطني الذي تكفلت به الحركة الوطنية السياسية ثم هيئات الثورة التحريرية، واستمرّ وجودُه حتى أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وبرزت بعدئذ ثغراتُه، والمتمثلة أساسا في عدم تجدّده وعجزه عن مواكبة التغيرات الحادثة في المجتمع، مما فسح المجال واسعا أمام العودة مجددا للجهوية (البديلة للقبلية القديمة) والعائلة، باعتبارهما من البنى التقليدية التي تمثل المرجعية القاعدية للمجتمع الجزائري.
بسبب العوامل المذكورة فشلت الدولة الوطنية في تحقيق الحداثة المنسجمة مع تاريخ المجتمع وثقافته، والمتطورة وفق احتياجات الأجيال الجديدة، وبالتالي فشلت في إقامة البنى السياسية والاقتصادية والثقافية المناسبة للمرحلة، وسيطرت الذهنيات الأصولية بشكليها العرقي والديني، وظلت تتحكم إلى درجة كبيرة في توجيه المجتمع.
كثير من المعلومات المتضمنة تلك البحوث تعتمد الرواية الشفهية وتحتوي معلومات متضاربة، أية مصداقية لتلك البحوث؟
إن البحث عن الأصول عن طريق تبني طروحات ليست لها مصداقية تاريخيّة، في أغلبها ناتجة عن تخمينات وعن تداول شفهيّ، تتحكّم فيها العواطف الطارئة بعيدا عن كلّ موضوعيّة، والتي تكون صادرة عن توجيه سياسي فئوي ضيق، في كثير من الأحيان، مُعَبِّر عن إيديولوجيات متصارعة في الساحة، مؤشر على فشل البحث العلمي في مجالات العلوم الاجتماعية عموما والتاريخ بصفة خاصة، والذي، إن توفّر في بعض الأحيان، ظلّ حبيس الأدراج والمكتبات، ولم يتم إيصال نتائجه مُبَسَّطَةً مما يسمح بتعميمها على أفراد المجتمع.
في رأيك، لماذا أغلب الجزائريين ينسبون أنفسهم إلى «الساقية الحمراء»؟
لعلّ الانتساب للساقية الحمراء يعود لمسارات تاريخية عرفتها تحولات شمال إفريقيا عامة والجزائر بصفة خاصة. فالمراكز السكانية المعروفة، وخاصة الحواضر، تم تأسيسها بعد انتشار الإسلام، لما ظهرت حركة المرابطين، وكذلك رجال الدين الذين اضطروا إلى الهجرة من الأندلس، ولجأوا إلى منطقة الساقية الحمراء، باعتبارها بعيدة عن مطاردات المد المسيحي الذي اجتاح الأندلس وامتدّ حتى شواطئ شمال إفريقيا. فكان رجال الدين هؤلاء، يخرجون من هناك كدعاة، ويساهمون في تأسيس المراكز الدينية إلى جانب زعماء القبائل، بحيث نجد كل مدينة جزائرية تم تأسيسها في القرون الوسطى (كمركز استقرار سكاني وحاضرة)، يكون تأسيسها مدعوما بسلطتين دينية وسياسية؛ يمثل الأولى داعية ديني، غالبا ما يكون قد تكوّن في المدارس الدينية (الزوايا) اللاجئة إلى الصحراء الغربية، ويمثل الثانية شيخ القبيلة المستفيدة من التأسيس. أصبحت بعد ذلك مرجعية الساقية الحمراء ذات قيمة رمزية تمنح لصاحبها سلطة دينية متحكّمة، فينتسب إليها الناس، سواء من خلال النسب أو الولاء وبسط الحماية.
وماذا عن «الهلاليين»، هل عددهم بالضخامة التي طغت على باقي الأصول، أم أن السيرة والتغريبة الهلاليتين لعبتا دورا في ترسيخ هذا الاعتقاد؟
جزء من قبائل بني هلال وحلفائها (مثل بني سليم) وصلوا إلى الجزائر بصفة متدرجة خلال النصف الثاني من القرن العاشر والقرن الحادي عشر. وانتشروا خاصة في الهضاب العليا والجنوب. كانت هجرة جماعية لعدد كبير من البدو الرحل، بسبب ظروف معيشية وتحفيزات سياسية معروفة. كان عددهم أقل بكثير من عدد السكان الأصليين (البربر)، غير أنّ البربر الرحّل في الجنوب الذي تحدث عنهم ابن خلدون، سرعان ما انضموا إليهم فشكلوا معهم حلفا قبليا اندماجيا، ولم يبق هناك أثر للبربر الرحل، وأصبح المؤرخون يتحدّثون عن البدو وكأنهم من بني هلال فقط. لعل ذلك يعود لغلبة لهجاتهم التي هي قريبة من عربية القرآن بسبب العامل الديني، أي بسبب الديانة الوافدة التي أصبحت ديانة جميع هؤلاء السكان عربا وبربرا، وهي لهجات تأثرت باللهجات البربرية، وأنتجت ما نعرفه اليوم بالعربية الدارجة المغاربيّة. اتجه جزء من بدو الصحراء، لأسباب مناخية وسياسية، نحو شريط التلّ واستقروا إلى جانب الفلاحين البربر واختلطوا معهم وشكلوا معا كثيرا من الحواضر التي تأسست قبل العهد العثماني.
وكيف امتزج العنصر الأمازيغي بالعنصر الهلالي في كثير المناطق؟
كان امتزاج بني هلال بالبربر على مرحلتين؛ في المرحلة الأولى امتزج البدو الهلاليون بالبدو البربر، لأنهم جميعا كانوا يعيشون نفس نظام المعاش. يعتمدون في حياتهم على تربية الحيوان والغزو ويرتحلون طلبا للكلإ ويقطنون الخيام. وبالتالي كانت لهم نفس الثقافة ونفس القيم.
في المرحلة الثانية، بدأ الهلاليون يستقرون في الهضاب العليا وفي الشريط التلي طلبا للاستقرار وتغيير أسلوب المعيشة، الذي كان يعتمد على الارتحال والعمل الموسمي، وأصبح يتجه نحو الاستقرار وممارسة الفلاحة والتجارة. وقد اشترك الهلاليون مع البربر في تأسيس كثير من الحواضر المعروفة اليوم، مثل ورقلة وبوسعادة والجلفة والأغواط إلخ... غلب العنصر الهلالي في مثل هذه المدن، لكن في حواضر أخرى تلية ظلت الغلبة للبربر والمهاجرين من الأندلس والذين كانوا في أغلبهم من أصول بربريّة.
على ذكر «السيرة الهلالية»، ماذا عن صيغتها الجزائرية التي لم تُكتب، ومتى تكتب هذه السيرة، أم أن الصيغة المشرقية المكتوبة ستمحو ما خالفها؟
سيرة بني هلال كقصة مكتملة تروي تاريخهم وميلاد أبطالهم وما أنجزوه عبر قرون ومعاركهم مع خصومهم أو في ما بينهم، تم تأليفها في المشرق ولها مدونات كثيرة تزخر بها المكتبات، وقد أضيفت إليها «تغريبة بني هلال» التي تروي استقرارهم في شمال إفريقيا، لكن من منظور مشرقي، أي من منظور أولئك الذين ظلوا في مصر والشام.
تنتشر قصص بني هلال، وهي عبارة عن مواقف بعض الشخصيات الأساسية في السيرة الأصلية وقصص عن الغزو والحروب التي خاضوها، وما عثرنا عليه (نحن الدارسون الجزائريون)، وكذلك ما عثر عليه بعض الباحثين الفرنسيين، يتمثل في نصوص متفرقة تروي مواقف وأحداثا معيّنة؛ منها ما يُروى في مناطق الجزائر ويلعب فيه كل من الجازية وذياب بن غانم والزناتي خليفة دور البطولة. ومنها ما يُروى في ليبيا وتونس ويلعب فيها أبوزيد الهلالي ورفاقه خاصة دور البطولة. وهي روايات مختلفة تماما عن كلّ من السيرة والتغريبة المشرقيّتين، أبان تحليلها على تمثيلها لعملية الامتزاج بين الهلاليين والبربر، وما رافق ذلك من صراع حول القيم التي تمثلها كل من حياة البداوة وحياة الاستقرار. يعني ذلك أن الاندماج بين الجماعتين، البدو الرحل والفلاحين المستقرين، لم تتم بسهولة، ولعلها ظلت لقرون، وهو ما يفسر استمرار تداول هذه الروايات.
ما يلفت النظر بهذا الخصوص، هو عثورنا على رواية باللهجة القبائلية يظهر فيها جليا تأثر الأدب الملحمي (قصص سيرة بني هلال) بالحكاية الخرافية ذات الأصول الثقافية البربرية، ويعني ذلك أن التعايش بين الثقافتين والتمازج فيما بينهما كان قويّا.
تم جمع عدد من الروايات من طرف مستشرقين في العهد الاستعماري في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقام جزائريون بجمع روايات أخرى في النصف الثاني من القرن العشرين، بعضها منشور، وبعضها دُوِّنَ في ملاحق الرسائل الجامعيّة.
كنت من السّباقين في توظيف هذا التراث قصصيا، خاصة في «عيون الجازية»، لكن الفن الروائي وباستثناء تجارب قليلة بقي بعيدا عنه. أين المشكلة في نظرك؟
تم توظيف بعض المواقف من السيرة الهلالية في رواية «نوار اللوز» لواسيني الأعرج، وهي مستمدة من المدونة المشرقية التي تحمل عنوان «تغريبة بني هلال». وأعتمد عبد الحميد بن هدوقة في بناء روايته «الجازية والدراويش» على نموذج شخصية الجازية. كما يبدو أثر هذه الروايات الشفوية واضحا في رواية كاتب ياسين «نجمة». وهناك نوع من التناص بين شخصية ذياب الهلالي وشخصية بطل رواية محمد ديب «إغفاءات حواء» تجلّى في بناء شخصية بطل الرواية «صُلْح». تمثل هذه الروايات نماذج للتناص مع روايات بني هلال الشفويّة.
يبدو لي أن قلة العناية بالتراث اللامادّي وضياعه وعدم توفيره بكيفيّة مناسبة ليطّلع عليه المبدعون يمثل عائقا بالنسبة للكتاب يحرمهم من الاستفادة من هذه المصادر الإبداعية الخالدة.