الباحث يوسف بوذن لـ «الشعب ويكاند»:

نحـن لا نعــرف كيــف نصـل إلى المدينــة

حوار: الخير شوار

 

 

 

 «زها حديـد» لا تُكنّ أي ود لعمــارة «حسن فتحــي»

«الموريسكيــة الحديثــة» تطبيـق عمراني لرؤيــة استشراقيـة 

خـواء الفضاء العمـراني يعـود إلى أسبــاب تاريخيـة

يوسف بوذن، أستاذ الهندسة المعمارية بجامعة باتنة، ويمارس الكتابة الأدبية والفكرية. أنجز منذ سنوات أطروحة جامعية طبّق فيها أحدث مناهج البحث الأدبي على الفن المعماري.
في هذا الحوار الذي خصّ به «الشعب ويكاند»، يحدّثنا يوسف عن العلاقة «الحميمة» بين الأدب والهندسة، وعن «أمراض» العمارة الجزائرية، وعن بعض القضايا ذات الصلة.

-   الشعب ويكاند: تمارس «لعبة» الأدب و»لعبة» الهندسة المعمارية، أي اللعبتين أخطر؟
 الباحث يوسف بوذن: أشرت إلى اللعبة، وهي فكرة لا يمكن أن تكون غائبة في أي درس معماري وإلا فقدت الممارسة قدرتها على الدلالة. يذكرنا المعماري الكبير لوكوربوزييه (le Corbusier) بهذه اللازمة ويكثف إيحاءاتها، معتبرا ان العمارة ما هي إلا لعبة عالمة تسمح بلقاء جليل بين الأشكال والضوء. إدراج الضوء في عملية الإنتاج يتجاوز الحضور الشكلي للشمس أو التلصص على عمل أهل المدينة. لا عمارة بلا ضوء وإلا صارت سجنا للمحرومين، ولا أدب بلا ضوء وإلا صار تسوية لغوية مع الموت البطيء. أصبح بإمكاننا الحديث عن عمارة النصوص الأدبية أو أدبية المشاريع الهندسية، لا من أجل إيجاد تماثل مستعجل سيفقد طاقته بعد حين، وإنما للبحث عن توقيعهما في مجال مدهش هو الآخر ألا هو مجال السردية. يقوم مبدأ الحكايات في ألف ليلة وليلة - كما يقول الخطيبي - على مبدأ: أحك حكاية جميلة وإلا قتلتك. المبدأ يؤهل كل مصمم سواء أكان مهندسا أو أديبا لأن يكون، في حالة إخلاله بقاعدة السرد هذه، حفارا للقبور.
- كيف وظّفت مناهج النقد الأدبي ضمن أطروحة أكاديمية هندسية، كيف استقام الأمر؟
 وأنا أتقرّب من النصوص الأدبية، أثار انتباهي بروز المنهج السيميائي كمشروع يطمح إلى استدراج كل التشكلات اللغوية وغير اللغوية إلى لعبة المعنى. ما كان مجرد إحساس بريء بالخيبة جراء ما تراكم في وعينا من احباطات قاسية أصبح مع البحث بمثابة وقوف وجها لوجهه أمام هول الخواء، خواء المدينة من الحياة السيميائية، وإصرارها على مهانة الكمون والافتراض. ولا شك أن اللجوء إلى مثل هذه المناهج الذكية سيغذي ويثري معرفتنا، بعد مرافقتها لنا إلى حد الهاوية، بالأساليب الحيوية على مستوى الإنتاج والتلقي لتجاوز خطورة العيش المبتذل.
-  هل اللغة تسعى لتكون هندسة، أم الهندسة تسعى لتكون لغة؟
 علينا أن نتّفق أولا على أن الكتابة تنتمي إلى الكلام أي إلى ذلك الاستعمال الفذ للسان القوم من أجل تغيير حياة القارئ، لا تتأسس الكتابة الحديثة إلا على هذا الوهم التغييري. هل تنازلت عن هذا الوهم بسقوط الإبداع عموما في العالم في لعبة العابر والمؤقت والتشظي الحزين؟ هذا ما تشير إليه عمارة ما بعد الحداثة، أكاد أسمع أنين الأشكال وهي تتلمس طريقها إلى وحدة باتت مستحيلة. فعلا، تسعى اللغة، إذا ما تجاوزنا بعض متاعب الترجمة إلى تأثيث مبتكر لمواد بنائها (الكلمات، الحروف، النحو، الصرف، إلخ) لتصل بعناء إلى مقام الهندسة. أصارحك، منذ أن اقتنعت بأن كل شيء في النهاية هو شكل (tout est forme)، وهذا تحت تأثير علاقتي الحميمة مع العمارة بما هي تفكير وكتابة من نوع آخر، صار بإمكاني الحكم على الفكرة بتمثّل شكلها. ولا تسعى العمارة أبدا، العمارة التي أحاول أن أفهم وعودها، لأن تكون لغة لأنها تسكن في مكان آخر.
- على ذكر الهندسة، ألا ترى أن كثيرا من مدننا متضخّمة وتشبه النصوص الروائية الرديئة؟
 نحن لا نعرف كيف نصل إلى المدينة، اخترنا أسوأ الكلمات للحديث عنها، وفضّلنا أفقر الأفكار لرسمها وإنتاجها. خواء الفضاء العمراني بما هو نص روائي يعود إلى أسباب تاريخية وليس إلى عاهات فطرية في جسدنا. أتكلم هنا عن المدينة في معناها النبيل، بصفتها رواية يشترك في كتابتها مجموعة من المؤلفين الذين اختاروا طواعية عدم ذكر أسمائهم، هذا ما علمنا إياه كتاب «ألف ليلة وليلة». ليس سهوا فادحا ارتكبه المدوّن وإنما هو اقتصاد جذري للقائمة الطويلة التي ساهمت في إنجازها. وكما أن النص الأدبي الرديء هو «لامكان» لا بالمعنى ما بعد الحداثي، وإنما هو احتقان أو ورم لغوي جاء ليدنس بياض الورق ويحرم القارئ من التجول الممتع في المكان والزمان. يشير «بول فاليري» في إحدى كتبه إلى ثلاثة أنواع من البناءات، بناء أبكم وبناء يتكلم والبناء الراقص. نحن نعيش في كنف أشياء فقدت القدرة على الكلام، آيلة للسقوط، مهمتها هي إجبارنا على اقتراف آثام اليأس والتوقف النهائي عن تخيل وصلة راقصة نكتشف من خلالها خفة الوجود البليغ. النص الأدبي الرديء، كما هي المدينة المتضخمة (كما أسميتها)، هو أنقاض لا اطلال لأنه لا يغير علاقتنا بالزمن ولا يثير فينا أي شعور بالانتماء اللطيف ولا يقاوم الموت بل يقتل كل المنتسبين إليه.
-  خلال القرن الماضي، حاول المهندس حسن فتحي إبداع نموذج معماري متصالح مع الذات، هل ترى أن ذلك النموذج مازال صالحا، أم الحل في نموذج «زها حديد» «المعولم»؟
  بالمناسبة، المهندسة «زها حديد» لا تُكنّ أي ود للعمارة التي يقترحها المهندس المصري «حسن فتحي». سؤالك مهم لأنه يجرني إلى النظر في علاقتنا بالزمن. هناك عدة وجهات نظر تناولت هذه العلاقة، تأرجحت بين القطيعة مع الماضي والقبول الطوعي لكل ما هو حديث أو موضوي، ولكن يبدو أن الواقع استسلم إلى نوع من التوفيق البيني، في منطقة رمادية، تنتهز الفرص لعلها تحقق جزء يسيرا مما ينقصها. أتفادى هنا الإطناب في مناقشة ما يمثله كل من حسن فتحي وزها حديد، ولكن أزعم أن هناك شيء في عمارتهما لا تكتبنا بشكل صحيح، وهذا بغض النظر عن بلاغة الحجج التي يقدمها كل منهما. كلاهما فشل أمام الزمن، تأخر حسن فتحي عن الموعد، في حين جاءت زها حديد إلى الموعد عارية!
-  وماذا عن العمارة الكولونيالية في جيلها الأخير، المستلهمة من الروح الأندلسية (البريد المركزي نموذجا)، كيف نجعل من تلك التجربة «غنيمة حرب»؟
 في حقيقة الأمر لم تكن العمارة «الموريسكية الحديثة» سوى محاولة كولونيالية متأخرة لتأمين العبور الناعم إلى جسد لم تكن تعترف بوجوده المستقل. لنقل إنها كانت تطبيقا عمرانيا للرؤية الاستشراقية، وهي امتلاك شرعية حصرية في تأويل الذات المغايرة. كانت عمارة موضعية، ولا تعبأ بالنسيج الذي قامت عليه التجربة العمرانية الجزائرية التقليدية. المتأمّل في عمارة البريد المركزي (النموذج الذي أشرت إليه) سيدرك أنها كانت مجرد عمارة «إكسوتيكية» بخلاف تجارب أخرى لمست موضع التوتر الذي يعنينا. أما إذا تناولنا هذا المنتوج العمراني بعيدا عن مكر الكولونيالية واكتفينا بالأبعاد والدروس الجمالية التي تنطوي عليها، لا شك أنها فتحت للمعماري بابا ملهما لاستئناف البحث والتجريب. أعتقد أن هذا الموضوع الذي أثاره سؤالك، يمكن تناوله في مناسبات أخرى لتوضيح الأدوار التي تلعبها البنية الكولونيالية في نصوصنا الأدبية والعمرانية.

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024