بعد وفاة إبراهيم الفقي بدأت التنمية البشرية في التراجع
كيف لمدرب يُقدّم دورة في «السعادة الأسرية» وهو أعزب؟
تأسست مئات المراكز التدريبية وأصبحت ظاهرة تجارية
يؤكد الباحث في التنمية البشرية شدري معمر علي، أنه وبعد وفاة المدرّب الشهير إبراهيم الفقي، بدأ هذا الفن في تراجع. ولا يرى شدري مانعا من تحوّل هذا الميدان إلى ظاهرة تجارية، طالما أنها تقدّم خدمات وتعود بالفائدة على المتدربين.
وفي هذا الحوار الذي خصّ به شدري معمر علي «الشعب ويكاند»، نحاول الإحاطة بجوانب الموضوع بالتطرق إلى ارتباطه بفكرة «وحدة الوجود» التي تحيل إلى عقائد غير إسلامية دفعت الكثير من الشيوخ إلى تحريمها.
«الشعب»: قبل سنين بثت قناة تلفزيونية وثائقيا تناول حياة المدرب إبراهيم الفقي بعنوان «بائع الأمل « ألا ترى أن الأمر هو تهذيب لمقولة « بائع الوهم « كما يرى البعض؟ وكيف تقرأ ظاهرة الفقي الذي بدا أن نجمه يأفل بعد موته؟
شدري معمر علي: هناك مقولة مفادها «أجمل هندسة في الحياة أن تبني جسرا من الأمل فوق نهر من اليأس». فالأمل دائما هو الذي يفتح نافذة نحو الحياة الجميلة المتفائلة، خاصة في الظروف الصعبة الشائكة والعالم العربي مر بفترات من الصراع والاضطراب والحروب. فكثير من الشباب فقد الأمل في غد مشرق واكتشف أن الكثير من السياسيين يتاجرون بأحلامهم في هذه الفترة بالذات، بدأ نجم إبراهيم الفقي، رحمة الله عليه، يبشر بمصطلح جديد وهو التنمية البشرية وتطوير الذات الذي جاء به من الغرب وأعطاه صبغة عربية وخاصة وهو يتقن اللغة الإنجليزية وبدأ ينشر هذا الفن في مصر والعالم العربي وخاصة دول الخليج، فاستمال آلاف الشباب الباحثين عن التغيير وعن التأثير، فأدمن هؤلاء الشباب على هذه الدورات ووجدوا فيها الملاذ. وبعد مدة يكتشفون أن لا شيء تغير، إنها مجرد دورات تحفيزية تملأ العقل بالمعلومات وأمام صخرة الواقع يجدون الوهم، فمنهم من يحبط وينتكس ويرجع إلى واقع أسوأ مما كان عليه.
وظاهرة إبراهيم الفقي ظاهرة اختلف عليها المهتمون من أهل الثقافة والإعلام، فهناك من اعتبره «بائع الأمل» بحيث غير قناعات آلاف من الشباب وجعلهم يساهمون في تطوير مجتمعاتهم بالمبادرات المجتمعية. وهناك من اعتبره بائعا للوهم، فدوراته مجرد تسكين وتهدئة آنية لآلام الشباب وإحباطاتهم.
وبعد وفاة إبراهيم الفقي، بدأ نوع من النكوص والتراجع، بل الانسحاب من هذا الفن الذي لا فائدة منه ترجى إذا لم تطبق مهاراته في الواقع.
- ألا ترى أن التنمية البشرية أصبحت ظاهرة تجارية تدرّ الملايين على بعض المراكز المشبوهة؟
بداية لنضبط المصطلح ونعرفه «التنمية البشرية» كما عرفها الخبراء هي: «عمليّة زيادة الخيارات المتوفّرة للأفراد، وتشمل ثلاثة خيارات رئيسيّة، وهي توفير حياة صحيّة وبعيدة عن الأمراض، وزيادة انتشار المعرفة، وتوفير الموارد التي تُساهم في وصول الأفراد إلى مستوىً حياتيٍّ لائقٍ.
كما تُعرَّف التنمية البشريّة، بأنّها العمليّة التي تهدف إلى زيادة كميّة الخيارات المتاحة للنّاس وحجمها؛ عن طريق زيادة المهارات والمُؤهّلات البشريّة». فمن خلال هذا التعريف الشامل، فإن أي مجتمع ناجح يحتاج أفراده إلى توسيع خياراتهم في الحياة وفي امتلاك مهارات تمكنهم من النجاح. فنحن نعلم أن التأثير لا يكون بكمية المعلومات ولا الشهادات وإنما بتعلم المهارات «مهارات الحياة»، فالمشكل إذاً، ليس في التنمية بحد ذاتها، فهي مفيدة ونافعة في شقها العملي وليس الاعتقادي، كالبرمجة اللغوية العصبية وغيرها.
لكن اللافت للنظر، أنه منذ 2013 تأسست مئات المراكز التدريبية، فأصبحت ظاهرة تجارية في كثير منها، مع الإقرار بأن هناك مراكز تقدم خدمات جليلة في تعليم المهارات لأبنائنا، فلا نعيب أن تمارس هذه المراكز الجوانب الربحية، بشرط أن تقدم برامج ذات جودة عالية ليست خيالية. فكثير من دورات تطوير الذات يمكن لأي إنسان أن يتعلمها مجانا على اليوتيوب، لأن التنمية البشرية نصفها مهارات «إصلاح الهواتف، تعلم اللغات، فنون الإلقاء، مهارات التواصل»... ونصفها تطوير الذات «الثقة بالنفس، التحفيز، بناء الشخصية»، فهذا النصف الأخير متاح للجميع.
- أمام هذه الفوضى التي نعيشها، كيف يمكن لنا أن نفرق بين الخبير والمحتال في هذا المجال؟
منذ أكثر من سبع عشرة سنة وأنا أتابع هذا المجال، قراءة وكتابة ومشاهدة، وبعد طبع ستة كتب أستحي أن أسمي نفسي خبيرا. وكم استغربت من شاب مراهق حضر دورة مدرب محترف دفع فيها الملايين، فيرتدي بذلة أنيقة ويسوق لنفسه بالمدرب الدولي. هناك من يضيف لنفسه المدرب الخبير وكثيرا من الألقاب.
لا يمكن أن تكون خبيرا في شيء ولا تكتب فيه كتبا ومقالات وتقدم محاضرات وتعالج مشاكل وتقدم حلولا بديلة. فالخبرة لا تأتي من الفراغ وإنما هي تراكم معرفي وثقافي ومكابدات فكرية وروحية. والخبرة كما عرفتها ويكيبيديا: «هي المعرفة ببواطن الأمور وهو مفهوم المعرفة أو المهارة أو قدرة الملاحظة، لكن بأسلوب فطري، عفوي وعميق، عادة يكتسب الإنسان الخبرة من خلال المشاركة في عمل معين أو حدث معين، وغالبا ما يؤدي تكرار هذا العمل أو الحدث إلى تعميق هذه الخبرة وإكسابها عمقا أكبر وعفوية أكبر، لذلك تترافق كلمة خبرة غالبا مع كلمة تجربة، «فالخبير الذي يعرف بواطن الأمور ويسبر أغوارها. أما المحتال في هذا المجال، من يستنسخ تجارب غيره يلخص كتابا ويقدمه كدورة وهو لم يقرأ كثيرا في هذا المجال، بل القراءة غير كافية أن تكون قدوة في حياتك، فكيف لمدرب يقدم دورة في «السعادة الأسرية» وهو أعزب ومدرب يقدم دورة «عقلية المليونير» وهو يأتي عن طريق النقل العمومي ليتسول مبلغا زهيدا من دورة يقطع عشرات الكيلومترات لتقديمها.
- بعض المحللين النفسانيين يؤكدون أن تدريبات «التنمية البشرية» مجرد مسكّنات لآلام دفينة. لكن المشكلة سرعان ما تطفو على السطح، إلى أي مدى تتفق مع هذا الرأي؟
«دع التنمية البشرية لتنعم بالحياة»، هكذا استهلت الطبيبة المصرية «أميرة مفيد» أحد مقالاتها. وقالت أيضا، «هذا ليس كافياً خدعة إبليس الأولى وغوايته المفضلة، فبدءاً من وعد الكذوب الكاذب لآدم بالخلد ومُلك لا يبلى، لا يكل من استخدام نفس الآلية المحكمة التي تسقط أمامها أعتى دفاعات البشر، إنها شهوة الهروب من العادية. فأنت لا ترغب بأن تكون عادياً، تريد أن تترك بصمة كبرى في هذا العالم تقض مضجعك، تلك الفكرة بأنك عادي ووظيفتك عادية تداعب خيالك حياة الناجحين وإنجازاتهم تجعلك نهماً لأي طريقة تغير واقعك».
فمن خلال هذا الكلام الصريح، فكثير من الدورات التنموية تملأ عقل الإنسان وقلبه بالتحفيز الكاذب «أنت تستطيع، لا يوجد مستحيل» وهو كذب على المتدربين، فيتخيلون أنهم بمجرد حضور دورة أو دورتين تتغير حياتهم ويحاطون بالمال والشهرة وبعد اكتشاف الواقع يخرجون من أوهامهم وأحلام اليقظة ويفقهون أن الحياة عمل وجهد وكفاح وعرق وتعب وليس كلاما معسولا للبيع، فأنا أتفق مع طرحك فما أكثر الفاشلين في الحياة توجهوا إلى هذه الدورات لملء فراغ في شخصيتهم.
- بعض المحللين في منطقتنا حاولوا «تأصيل» الموضوع وأعطوه صبغة إسلامية، هل أصبحت التنمية البشرية بديلا عن «الإسلام السياسي»؟
على الرغم من أن مصطلح التنمية لم يرد في المصادر الإسلامية، فإن المفهوم حملته مصطلحات أخرى وردت في القرآن الكريم والسنّة النبوية ومن ذلك:
ـ التزكية، في قوله تعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) - الشمس: 7ـ10.
قال الطبري: (قد أفلح من زكاها) قد أفلح من زكى نفسه فكثر تطهيرها من الكفر والمعاصي وأصلحها بالصالحات من الأعمال... قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة (من زكاها) من أصلحها.
وقال الشيخ السعدي، «أي طهّر نفسه من الذنوب ونقاها من العيوب ورقاها بطاعة الله وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح».
وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر.
اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» (رواه مسلم).
فجوهر التنمية البشرية لا يتناقض مع الإسلام، إلا في بعض المواضيع التي جذورها بوذية ومن معتقدات أسيوية كالبرمجة اللغوية العصبية التي حذر منها كثير من العلماء. فلنقلب الموضوع ونقول، الإسلام السياسي والحركات الإسلامية ما يسمى بالتيار الوسطي المعتدل يربي أتباعه على مهارات التنمية البشرية. فالسيطرة على الساحة تتطلب فنون التواصل والإلقاء وقد برعوا في ذلك.
- على ذكر التأصيل تؤكد دراسات أن المنطق الأساسي لهذا الميدان هو «مذهب وحدة الوجود» القريب من الإلحاد، كيف نؤصل ما لا يؤصل؟
كثير من العلماء الكبار رفضوا بعض علوم هذا الميدان ونذكر منهم د.يوسف القرضاوي، حيث قال: «البرمجة اللغوية العصبية تغسل دماغ المسلم وتلقنه أفكارًا في اللاواعي ثم في عقله الواعي من بعد ذلك. مفاد هذه الأفكار، أن هذا الوجود وجود واحد، ليس هناك رب ومربوب، وخالق ومخلوق، هناك وحدة وجود، إنها الأفكار القديمة التي قال بها دعاة وحدة الوجود، يقول بها هؤلاء عن طريق هذه البرمجة التي تقوم على الإيحاء والتكرار، وغرس الأفكار في النفوس.
إن برامجهم التي يعلمون بها الناس، تقف وراءها أهداف خبيثة ومقاصد بعيدة، وكل هذه ألوان من الغزو ويقصدون بها غزو العقل المسلم، وهو ما ينبغي أن نحرص على أن يظل بعيدا عن هذا الغزو».
وأيضا للدكتور العلامة السوري «وهبة الزحيلي» رأي في هذا الميدان، قال مجيبا عن سؤال يخص هذا الفن:
«هل علوم الميتافيزيقيا حرام؟ هل علوم ما وراء الطبيعة والخوارق حلال أو حرام؟ وهل التلبثة (التواصل عن بعد)، قراءة الأفكار telepathic، الخروج الأثيري عن الجسد out of body experience، تحريك الأشياء بالنظر، النظر المغناطيسي، اليوجا، والتنويم الإيحائي، التاي شي، الريكي، التشي كونغ، المايكروبيوتك، الشكرات، الطاقة الكونية، مسارات الطاقة، الين واليانغ...
فأجاب د.وهبة «هذه وسائل وهمية وإن ترتب عليها أحياناً بعض النتائج الصحيحة، ويحرم الاعتماد عليها وممارستها، سواء بالخيال أو الفعل. فإن مصدر العلم الغيبي هو الله وحده، ومن اعتمد على هذه الشعوذات كفر بالله وبالوحي، كما ثبت في صحاح الأحاديث النبوية الواردة في العرَّاف والكاهن ونحوهما». فنقول إن ليس كل علم التنمية البشرية أساسه وحدة الوجود وإنما جزء منه وحتى هذا الجزء فيه اختلاف.