رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بوعبد الله غلام الله لـ «الشعب»:

هذه هي الجـذور التّاريخية لجامع الجــزائر

أجرى الحوار: حمزة محصول

 الصّرح الدّيني رمز للاستقلال والأصالة

يؤكّد رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، بوعبد الله غلام الله، في هذا الحوار الذي خصّ به «الشعب ويكاند»، أهمية الأحداث التي عرفتها الجزائر بمناسبة المولد النبوي الشريف وذكرى الفاتح نوفمبر، بدءاً بافتتاح قاعة الصلاة لجامع الجزائر، ووصولا إلى تنظيم الاستفتاء على تعديل الدستور. وبخصوص ثالث أكبر مسجد في العالم، شدّد على أنه «رمز استقلال وأصالة الجزائر»، مستعيدا في ذلك الجذور التاريخية للفكرة وكيفية تجسيدها بنمط عمراني متفرّد.

-  الشعب ويكاند: افتتحت الجزائر، قاعة الصلاة لجامع الجزائر، بالتزامن مع المولد النبوي الشريف، وعشية الاحتفال بذكرى اندلاع ثورة الفاتح نوفمبر 1954، وهذا كلّه مع تنظيم الاستفتاء على مشروع تعديل الدستور؟ ما هي الرسائل والرمزية التي ينبغي استخلاصها من كل هذه الأحداث التاريخية؟
 رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بوعبد الله غلام الله: تلازمت الأحداث هذه الأيام، كالإستفتاء على الدستور وفتح قاعة صلاة جامع الجزائر، وهي الأحداث التي يمكن تأخيرها أو تقديمها، لكن موعد أول نوفمبر لا يمكن تقديمه أو تأخيره، ولهذا كان موعد نوفمبر هو المقصود وبقية الأحداث تزامنت معه.
وذكرى أول نوفمبر تهز مشاعر الجزائريين فيتذكّرون ثورة التحرير والبطولات والتضحيات التي قدّمتها الأجيال من أجل نيل الاستقلال، ويستمد الجيل الجديد الطاقة والقوة من تضحيات أجداده كون هذا الجيل هو المستأمن على الجزائر، وهو الجيل الذي يحمل الطاقات والآمال والتطلعات التي عبّر عنها في الحراك وفي مختلف المناسبات.
وقد حرص رئيس الجمهورية على ذلك التأكيد بأن المواطن اليوم هو من يتحمّل مسؤولية تسيير البلاد، وهي المناسبة التي تزامنت مع انتظار الشعب الجزائري لافتتاح جامع الجزائر، وقد شاهدنا تلك المشاعر القوية والتطلعات العالية لهذا الحدث والإقبال على أداء الصلاة فيه منذ افتتاح قاعة الصلاة، وقد جمعت كل تلك المشاعر في أول نوفمبر الذي يجمع الجزائريين على حب الجزائر والالتفاف حولها.
- أخيرا أصبح للجزائر جامع كبير، هو ثالث أكبر مساجد العالم، تعرض أثناء عملية إنجازه إلى حملات حاقدة من الداخل والخارج، ما الذي سيضيفه هذا الصرح إلى الأبعاد القيمية والحضارية للبلاد؟
 في حقيقة الأمر جامع الجزائر ليس جامعا للصلاة، وقاعة الصلاة ما هي إلا جزء من بين العديد من المرافق الهامة، فجامع الجزائر مشروع كبير جدا، مشروع في مستوى الثورة التحريرية المباركة، وفي مستوى الجمهورية الجزائرية، وهو رسالة وتعبير عن استقلال الجزائر، فجامع الجزائر منذ البداية فكرنا بأن يكون دالا على معنى كلمة الجامع، بأن يكون جامعا ويجمع. يجمع التاريخ ويكون فيه أسلوب جديد في عرض التاريخ الوطني، لأنّ الجزائر لا يوجد بها الابراج العالية، وأنا كنت معجبا ببرج القاهرة، فجعلنا البرج متحفا لتاريخ الجزائر، والجامع لابد أن يكون فيه مرافق للتعليم، ولكن فكرنا ألا يكون التعليم التقليدي، وإنما يكون تعليما حديثا وهو تعليم يكون بعد التدرج (الدراسات العليا المتخصصة)، ولهذا أطلقنا عليها اسم دار القرآن، مثلما استعملنا من قبل دار الإمام، لأن كلمة دار لها دلالة خاصة وهي مستعملة ومتداولة في الثقافة الجزائرية. وإلى جانب دار القرآن فكّرنا في إنشاء مرافق أخرى تكون مرافقة لدار القرآن، ومن هذه المرافق المركز الثقافي الذي يحتوي على قاعة محاضرات كبرى تتناسب مع مكانة وحجم جامع الجزائر، إضافة إلى مكتبة ضخمة تكون ورقية وإلكترونية مع توفير الاجهزة الحديثة المطلوبة، التي تساعد القراء والباحثين الذين يقصدون المكتبة.
ومن المرافق التي فكرت فيها المتحف، وقد استوحيت الفكرة من متحف قرطبة خلال إحدى زيارتي إلى إسبانيا، ومتحف قرطبة متحف إسلامي متميز، ولكنا أردنا أن يكون عندنا متحف يشبه متحف قرطبة، ولكن إضافتنا تكون بأن نجعل المتحف في المأذنة عبر طبقات (صومعة جامع الجزائر)، فالسائح عندما يزور جامع الجزائر، يصعد إلى أعلى المنارة، فإذا نزل مشيا على الأقدام، فيجد في كل طبقة من طبقات المنارة عصرا من عصور تاريخ الجزائر، فيكون الهدف من المتحف هو تقديم تاريخ الجزائر للزائر بطريقة جيدة وذواقة وبأسلوب حديث، من خلال نزوله من أعلى المنارة إلى أسفلها دون أن يشعر بالوقت أو الجهد.
ثم فكرنا في توفير المرافق والإمكانيات التي تلبّي حاجة السائح، الذي يزور جامع الجزائر يجب أن يجد ما يبهجه ويشده إلى المكان، ويترك في ذهنه الأثر الجميل بعد الزيارة، ونظرا لسعة الجامع واتساع رقعته، فقد تدوم الزيارة يوما كاملا، ولذا فكرنا في توفير ما يلزم من الامكانيات والمرافق التي تلبي حاجات وخدمات تناسب يوما كاملا من الزيارة.
فكرنا في الجانب الجمالي لجامع الجزائر وخاصة المتعلق بالبيئة ولذا كانت الحدائق وأحواض المياه، التي تكون في فيناء جامع الجزائر، على أن يتم إنجازها بالطرق والأساليب الفنية المبتكرة لتوفير الاجواء المناسبة، وتبهج الزائر وتمكنه من الحصول على الراحة والبهجة وهو يتمتع بالأجواء الطبيعية والبيئة المريحة التي توفرها له الحدائق والمساحات الخضراء في جامع الجزائر.
وفكّرنا في الخدمات الأخرى التي تجعل الزائر مرتاحا أثناء زيارته إلى جامع الجزائر، مثل توفير ركن السيارات بسهولة ويسر، خاصة ونحن نعاني من زحمة المرور وانعدام أماكن ركن السيارات، ولذا فكرنا في مساحات واسعة تستوعب العدد المتوقع من السيارات، فيوجد مرأب لركن السيارات موجود أسفل جامع الجزائر، وهو يتكون من ثلاث طوابق أرضية.
- هل نجد لديكم، فضيلة الشيخ، معطيات يمكن أن تنير المواطن الجزائري، عن أصل فكرة بناء جامع بهذا الحجم وبهذه الرمزية الدينية والتاريخية؟
 إنّ مدينة الجزائر العاصمة منذ نشأتها الأولى، كانت قائمة على مسجد، وفي كل طور من أطوار الحياة التي مرت بها، كان المسجد المحور الأساس في تاريخها، وإذا أخذنا مرحلة دولة الموحّدين نجد الجامع الكبير، خلال منتصف القرن السابع الهجري، وفي العهد العثماني ظهر الجامع الجديد، وهكذا فالعاصمة كان لها عبر العصور مؤسسة مؤثرة في الحياة وهي مؤسسة (الجامع)، ويؤرخ للمدينة من خلال الجامع.
ومن هنا ففكرة جامع الجزائر لها جذور تاريخية، ذلك أن فرنسا بدأت منذ 1915 تشيد بنايات ومعالم معمارية ذات بعد حضاري وتاريخي معين في عدة مدن جزائرية، مثل البريد المركزي في العاصمة، ومحطة القطار في مدينة وهران، مقر البلدية في ولاية سكيكدة، وبلدية ومحطة القطار في ولاية عنابة، وغيرها من المشاريع في العديد من الولايات الجزائرية، فقد تم تشييد هذه المعالم بنمط هندسي أندلسي وبأسلوب أوروبي، وقد تم الانتهاء من تشييدها قبيل سنة 1930، وهي السنة التي كان الاستعمار الفرنسي قد تجاوز القرن، وكان استكمال وتدشين هذه المعالم إعلان عن دخول الجزائر (الفضاء الجغرافي والثقافي) في ممتلكات الدولة الفرنسية، وقد سموها الاحتفال السنوي بدخول الجزائر في ممتلكات الدولة الفرنسية، وكان الفرنسيون يقولون إن الدولة الفرنسية تمتد من دانكل شمالا إلى تمنراست جنوبا.
ولكن تمّ إعلان استقلال الجزائر سنة 1962، وقد اعترفت فرنسا باستقلال وسيادة الجزائر، ولكن الجزائر أرادت أن تجيب وبنفس الأسلوب على المزاعم والأكاذيب الفرنسية، فأرادت أن يكون هناك رمز معماري في عاصمة الجزائر، رمزيته وخصوصيته التاريخية تكون متشابهة مع النماذج المعمارية في المدن الجزائرية الكبرى، فيكون فيها (جامع قطب) فهذه المساجد الاقطاب مع جامع الجزائر برهان على أن الجزائر دولة أصيلة لا يمكن أن تكون تابعة أو مملوكة لأي أحد، فيمكن احتلالها بحكم الظروف التاريخية ولكن لا يمكن إمتلاكها، وهذه الفكرة كان قد عبّر عنها الشيخ عبد الحميد بن باديس من قبل، وبالذات عندما أعلنت فرنسا أن الجزائر ملك لفرنسا قال (إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت)، لأن الجزائر تاريخا وثقافة وتوجّها كلها تتنافى مع ما هو عليه الوضع في فرنسا، فهذه الفكرة كانت موجودة منذ بداية الاستقلال، لكن لم تتوفر الشروط لانجازها وتجسيدها في الميدان إلا بعد سنة 2000م أين انطلقت فعلا المرحلة التي تجسّد مشروع جامع الجزائر على أرض الواقع.
- تردّدت كثيرا مقترحات إطلاق أسماء شخصيات تاريخية ووطنية على الجامع، ولكنه سيحمل اسم جامع الجزائر..ما هي دلالة هذه التسمية؟
 الذين يقترحون الأسماء لا يعرفون أصل فكرة جامع الجزائر والوظيفة التي وجد من أجلها، فالفكرة هي رمزية استقلال الجزائر، وما دامت القضية تتعلق برمزية استقلال الجزائر، فلا يمكن أن يحتكره اسم شخصية وطنية مهما كانت، ولا تتناسب أن يطلق عليه اسم مكان معين أو تاريخ محدد، ولهذا فهو جامع الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية كلها، فكل جزائري مهما كان موقعه فهو جامعه يمثله، وبقية المساجد في مختلف مناطق الوطن تسمى بأسماء الشخصيات والأماكن والأحداث، ثم إن الجزائر العاصمة جزائر بني مزغنة ارتبط تاريخها بالمساجد، فهناك جامع سيدي عبد الرحمن ففي العهد الموحدي الجامع الكبير وفي العهد العثماني يوجد مسجد كتشاوة، وفي عهد الاستقلال جامع الجزائر، فتاريخ الجزائر بهذه المعالم الدينية التي لا يمكن أن تفصل عنها.
- ما هي الطريقة المثلى للحفاظ على هذا الصرح الديني وجعله منارة للإسلام المعتدل والإشعاع الثقافي؟
 المحافظة على هذه المؤسسة العظيمة في عاصمة الجزائر لها جانبان، أولهما الحفاظ المادي لأن هذه المؤسّسة لها خصائص عمرانية مادية، فالجامع يحتوي على الكثير من الهياكل ويتطلب توفر الكفاءة في التحكم في التقنيات والمهارات التي تتطلبها الهياكل والمواد والأجهزة التي يحتويها الجامع، وهو ما يتطلب متخصّصون ماهرون يحافظون ديمومة صيانة هذه التحفة المعمارية، وثانيهما هو الجانب الوظيفي لجامع الجزائر، الذي يجب أن تتوفر الإمكانيات الكافية لتنفيذ الوظيفة التي من أجلها وجد جامع الجزائر، وهو ما يجب أن يتوفر فرق من المسيرين أصحاب الكفاءة العالية الذين لهم مهارات جيدة في إدارة الهياكل التي يتكون منها جامع الجزائر (قاعة الصلاة - المتحف - دار القرآن - المكتبة - ...) لأن المحافظة على جامع الجزائر مثل المحافظة على استقلال الجزائر والمحافظة على العلم الوطني، لأنه رمز لاستقلال الجزائر، ومن هنا من الضروري أن تؤسّس له أوقاف لتمويله وتضمن أداء وظيفته واستمراريتها، وفي أساس المشروع يتضمن تأسيس أوقاف في كل الولايات يكون نفعها في تلك الولايات ويعود ريعها إلى جامع الجزائر، وهذا الأسلوب ليس جديدا بل هو تقليد متوارث في مساجد الجزائر.
- ظلّت الجزائر لسنوات رهينة ثلاثة معالم كبرى من زمن الاستعمار، فمن يدخلها من الوسط تقابله كنيسية السيدة الإفريقية، ومن يدخلها شرقا تقابله كنيسة القس أوغستين، ومن يدخلها غربا يرى سانتا كروز، هل نقول اليوم إنه وببناء الجامع تكون الجزائر قد استعادت بعدها الحضاري الإسلامي الأصيل؟
 الدول تعرف بآثارها وتتميز بما تتركه من المعالم التي تدل على حضارتها ومكانتها في التاريخ، فدولة الموحدين آثارها الجامع الكبير في العاصمة وآثار تلمسان شاهدة على دولة الزيانيين ومعلم السيدة الافريقية تمثل رمزية القوة الاستعمارية الفرنسية التي كانت تحرص على تأكيد امتلاكها للبلاد، ولكن كنيسية السيدة الإفريقية، تعد من الآثار المهمة في تاريخ الجزائر، أما قوة شخصية القس أوغستين جعلت القوة الاستعمارية تقيم له كنيسة ذات أهمية كبيرة كما أقامت له كنيسة أخرى في تونس، لكن هذه المعالم تمثل فترات مرور القوى الأجنبية على الجزائر، ولكن ولا واحد من هذه المعالم يعبر عن أصالة الشعب الجزائري، وقبل هذه المعالم وبعدها كانت الجزائري وهي التي ستبقى وهي الرسالة التي تعبر عنها هذه التحفة الكبيرة المتمثلة في جامع الجزائر.
- عاد مؤخرا النقاش حول ثوابت وعناصر الهوية الوطنية، وذهب البعض للترويج بأنّ الدستور الجديد قدّم تنازلات في هذا الجانب، ما رأي المجلس الإسلامي الأعلى في هذه المسألة؟
 إنّ هويّة الشعب الجزائري ليست بدلة يلبسها الناس ويغيرونها متى شاؤوا، فنحن شعب له أصوله وتاريخه وثقافته وهويته، والشيخ ابن باديس كان يوقّع أحيانا (الصنهاجي) نسبة إلى صنهاجة القبيلة الأمازيغية، وهو الذي يردّد (نحن أمازيغ عرّبنا الإسلام)، فعندما نقول نحن عرب فنحن عرب بالقرآن ولسنا عربا بالدم والعرق، وكما يقول أحد أصدقائي المثقفين إن الاحتجاج بالدم ينسب إلى الخيل فيقال (حصان عربي وحصان بربري وحصان أصيل)، ولكن الحقيقة عند العقلاء تقوم على المعاني والثقافة والحضارة، وقد منح القرآن المعاني الأبعاد الإنسانية، فالقيم والمعاني التي يعتمدها الشعب الجزائري هي القيم الأمازيغية الأصلية التي أعطاها القرآن الأبعاد الإنسانية، ليتجاوز بها الحدود المحلية والعرقية الضيقة، لأن الإسلام لا يعترف بالأعراق والناس في منطق الإسلام (سواسية كأسنان المشط)، ولهذا فإن معاني وقيم الوحدة الوطنية ومقاومة الاستعمار التي تجسدت في ماسينيسا ويوغرطة وغيرهم من القادة الكبار، هي نفس المعاني والقيم التي تجسدت في بن بولعيد وعميروش وبن مهيدي ولطفي وغيرهم من قادة الثورة التحريرية، ولكنها روح أخرى تناسبت مع الظرف لأن ثورة نوفمبر كانت ثورة إنسانية وعالمية، أما الذين يطلقون المقولات التي تريد أن تفرق بين القرآن وتاريخ الجزائر فإن هؤلاء غير متواجدين خارج الجزائر، وتجد كتاباتهم وأفكارهم ومقولاتهم خارج الجزائر، فالشعب الجزائري أمازيغي بأصالته وعربي بالقرآن.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19634

العدد 19634

الأربعاء 27 نوفمبر 2024
العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024