- الخـــــــــــــــوف مـــــــــــــن الرياضيــــــــــــــــــــات ظاهـــــــــــــــــــــرة عالميـــــــــــــــــــة
- إلغــــاء المنطــــق والمجموعــــات كـــان لـــه مفعـــــول سلبـــي عميــــق
صدر مؤخرا للباحث نذير طيّار مقالان في الرياضيات بمجلات محكمة. الأول عن العلاج الكيميائي للسرطان (بالتعاون مع عبد اللطيف بالطيب)، والثاني عن الخليل ابن أحمد مبتكر علم العروض، ويتناول عبقريته في ميزان الرياضيات المعاصرة.
البروفيسور نذير طيّار، هو أستاذ الرياضيات بجامعة قسنطينة، وإضافة إلى جهوده الأكاديمية، فله كثير من الإسهامات في الترجمة وفي مختلف الحقول المعرفية وفي إطار تبسيط العلوم.
وفي هذا الحوار مع «الشعب ويكاند»، يتحدث طيّار عن سبب نفور الناس من الرياضيات، ومشكلات تدريس هذا العلم في مختلف الأطوار التعليمية وفي بعض القضايا ذات الصلة.
الشعب ويكاند: صورة الناس العاديين عن علماء الرياضيات لا تختلف عن صورة «جون ناش» العبقري المجنون في فيلم «عقل جميل» لراسل كرو، أين الحقيقة من الخيال في الأمر؟
البروفيسور نذير طيّار: أشاهد بشغف خاص الأفلام التي تصور حياة العباقرة عبر العصور، ومن أحب الأفلام إلى عقلي وقلبي فيلم «نظرية كل شيء» theoryofeverything عن حياة عالم الفيزياء الفلكية ستيفان هاوكينغ.
وفيلم «الرجل الذي عرف اللانهاية» the man whoknewinfinity
المأخوذ عن قصة عالم الرياضيات الهندي سرينيفاسا رامنوجان، الذي توفي شابا في عمر الثانية والثلاثين، مخلفا - رغم مشواره القصير - إرثا هائلا في مجال الرياضيات البحتة. وكذلك فيلم «عقل جميل» الذي صور حياة جورج ناش عالم الرياضيات العبقري الذي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1994، عن نظريته التي تعرف بنظرية التوازن، وتملك النظرية وما تزال أهمية كبيرة وتطبيقات واسعة تشمل مجالات الاقتصاد والإدارة وغيرهما.
ويستخدمها علماء الاقتصاد في تفسير الأحداث السابقة والتنبؤ بالمستقبل، من خلال حسابات رياضية دقيقة، وهم يطبقون هذه النظرية أيضاً في التنبؤ بأسعار منتجات الشركات المنافسة، وكذلك تستخدم عند طرح المزادات بغرض الحصول على أفضل العروض. لكن جورج ناش العبقري كان أيضا فُصاميا schizophrénien (منفصم الشخصية) ولهذا قال الشاعر والكاتب المسرحي الكبير وليم شكسبير:
المجنون والعاشق والشاعر جميعهم في الخيال سواء. وللتوضيح فإن كل العلماء، الذين نالوا جائزة نوبل في الاقتصاد كانوا بارعين جدا أولا في الرياضيات. هناك إجماع علمي وسياسي واقتصادي عالمي بمركزية الرياضيات في كل تقدم تكنولوجي أو اقتصادي، فالرياضيات موجودة في كل مكان،
في العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة والعلوم البيولوجية، وحتى في موسيقى الشعر من خلال الإيقاع المتكرر، الرياضيات حاضرة في نظام تحديد الموقع العالمي GPS من خلال حل جملة أربع معادلات وحساب تقاطع ثلاث سطوح كروية، في محرك البحث الأشهر عالميا غوغل من خلال خوارزمية أساسها سلاسل ماركوف، وفي علم رسم الخرائط، وفي نصب صحون البرابول..إلخ. والمختصون في الرياضيات في الولايات المتحدة هم أصحاب المهن الأعلى أجرا..هذا هو واقع الرياضيات في العالم قبل كورونا، وسيزداد الاهتمام بها بعده، فهي حاضرة في التمثيلات الأسية للبيانات، وحاضرة في التنبؤ بمستقبل الإصابات، وحاضرة كذلك في دراسة كل العوامل المؤثرة على انتشار الفيروس عبر العالم.
هذا لا يعني أن كل العباقرة مجانين، لكن الإبداع العبقري الخارج عن حدود السائد والمألوف يتطلب عقلا متفردا وخاصا، يتجاوز الأطر السائدة في التفكير والبحث، ويؤسّس لبراديغمات paradigmes جديدة في التفكير العلمي، وهذا هو أساس الثورات العلمية كما يفصل ذلك توماس كون في كتابه الشهير»بنية الثورات العلمية»
The structure of scientific revolutions كما لا يعني هذا أن كل العباقرة يشبهون جورج ناش في حياته النفسية كما صورها بدقة فيلم «عقل جميل» beautiful mind.
عالم الرياضيات، الباحث في اختصاص صغير جدا ضمن كون رياضياتي واسع جدا، هو إنسان متميز فعلا من حيث ذكاؤه، فالتخصص في الرياضيات يتطلب حاصل ذكاء عال نسبيا، بحكم تجريديتها وتعاملها مع الرموز أكثر من الوقائع المجسدة. هو رجل طبيعي بحالة نفسية عادية، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
* ألا ترى أن الرياضيات هي وريثة الفلسفة في نفور الناس منها؟ ولماذا الرياضيات دون غيرها من العلوم؟
** لهذا النفور سببان رئيسيان، الأول ذاتي يتعلق بطبيعة الرياضيات التجريدية نفسها، والثاني موضوعي وهو الأهم لأنه في نطاق قدراتنا وأساليب تفكيرنا وقابل للتحكم فيه.
هناك عدة عوامل تتحكم في هذا السبب الموضوعي، وقد كشفت ذلك تفصيلا، التجربة العالمية الأولى في تدريس الرياضيات، وهي التجربة السنغافورية.
العامل الجوهري الأول: غياب الاهتمام الكافي بالموارد البشرية، وبالكادر التعليمي تحديدا، فقد أثبتت التجربة السنغافورية المتفوقة على معظم التجارب التعليمية الرياضيات في أروبا والعالم، أن تكوين معلمي الأطوار التعليمية (الابتدائي خصوصا والمتوسط) مهم جدا، من خلال رفع الحجم الساعي التربصات وسد الثغرات في المستوى العلمي للمعلمين القادمين من اختصاصات أدبية. وقد أثبتت الدراسات والتجارب أن ضعف مستوى هؤلاء في الرياضيات من الأسباب الرئيسية لضعف مستوى التلاميذ في هذه المادة، كما أكد ذلك عالم الرياضيات الفرنسي سيدريك فيلاني الحاصل على ميدالية فيلدز المكافئة لجائزة نوبل في الاختصاصات الأخرى، في تقرير له بعد عودته من سنغافورة.
العامل الجوهري الثاني: حل مشكلة التجريد منذ مرحلة الابتدائي، وإذا لم تحل في هذه المرحلة، سيواجه التلميذ مشكلة في فهم مادة الرياضيات في المتوسط والثانوي. في سنغافورة كيف حلت هذه المشكلة؟ عبر جعل التجريد آخر مرحلة في الدرس التعليمي الرياضياتي. إذا أراد المعلم تقديم درس ترتيب الأعداد، أي أكبر وأصغر، يصطحب معه مكعبات (توفرها الوزارة لهذا الغرض، هناك موارد مالية يجب أن تصرف في اتجاه الأدوات والوسائل التعليمية)، ويضع سبعة مكعبات يمينا، وسبعة مكعبات يسارا، بعدها التلاميذ، وبعد تأكدهم من عددها، يسألهم أيهما أكبر سبعة أم أربعة. ويجيب التلاميذ: سبعة أكبر من أربعة، يلمسون تلك المكعبات يتداولونها، وفي النهاية تأتي مرحلة التجريد والترميز: 7>4. هي تقنيات بسيطة لكنها فعالة جدا في حل كل العقد الممكنة نحو التجريد والترميز.
العامل الجوهري الثالث: هو إعطاء أهمية قصوى للمناهج البيداغوجية والتعليمية didactics، في المدارس العليا للأساتذة عبر الوطن، وفي التعليم الجامعي عموما، لأن نسبة كبيرة من الجامعيين تتوجه نحو التعليم في واحد من الأطوار الثلاثة. ومن غير المعقول أن يتصدى لتعليم أطفالنا من لا يعلم شيئا عن علم التدريس (التعليمية) والمناهج البيداغوجية الحديثة في التدريس.
* هل كان تغيير رموز الرياضيات من العربية إلى اللاتينية في المنظومة التربوية منذ سنوات الدراسة الأولى صائبا؟ وهل حُلّت مشكلة تدريسها بهذا الشكل؟
** بداية أؤكّد استحالة الفصل بين الرياضيات وأدوات الكتابة والحساب.
تغيير الرموز الرياضياتية من العربية إلى اللاتينية كان قرارا مهما جدا وفي الاتجاه الصحيح، إذ لا يعقل أن نستمر في استعمال س وع وتا والعالم كله يستعمل x وy و.f
الانتقال إلى الترميز اللاتيني صاحبه الانتقال إلى اعتماد كتابة الرموز من اليسار إلى اليمين، ومعها قراءة كتابات جداول الأرقام منذ المرحلة الابتدائية، في ترتيب الأرقام تصاعديا وتنازليا مثلا.
قبل هذا كان الطالب يعاني الأمرين (وأستاذه معه في هذه المعاناة) عند انتقاله إلى الجامعة. حيث الرموز كلها باللاتينية وكتابتها من اليسار إلى اليمين؛ خلافا لما تعوّد عليه في الأطوار السابقة. ولزم وقت لتعويده على ذلك، ف 1 - x تقرأ x ناقص واحد وليس 1 ناقص .x
وهذا مرحلة مهمة جدا تهيء الطالب لفهم المقالات العلمية العالمية المستعملة لهذه الرموز اللاتينية، مع توجيهه إلى امتلاك ناصية اللغة الإنجليزية بوصفها لغة العلم والتكنولوجيا حاليا.
اليوم لا يواجه الأستاذ الجامعي مشكلة مع طلبته بهذا الشأن، لكن هناك مشكلات من مستويات أخرى.
* بالمقابل، لماذا اختفت «المجموعات» التي كانت مدخلا إلى هذا العلم، وهل يمكن فهم الرياضيات دون استيعاب «المجموعات»، والأمر نفسه ينطبق على المنطق الرياضي الذي اختفى هو الآخر؟
** كل الذي تأسّفت لغيابه عن المنظومة التعليمية الرياضياتية أخي الخير في هذه الأسئلة من مجموعات ومنطق وغيرهما، وقع بعد قرار التخلي في التعليم قبل الجامعي عما سمي «الرياضيات الحديثة» les mathématiques modernes، التي انطلقت نهاية الستينيات ضمن موجة إصلاحات بتأثير كبير من المدرسة البورباكية الفرنسية، التي سعت إلى التركيز على البنى les structures، وبعثت المجموعات والزمر والحلقات والحقول والمنطق الرياضي، لأجل تشكيل عقل رياضياتي عميق وصارم وفاعل... ووصل الحد بأحد رواد هذه المدرسة وهو جون ديدوني إلى القول: «يسقط إقليدس...وتسقط المثلثات».
وقد انطلقت إصلاحات الستينيات على الصعيد العالمي لأسباب كثيرة، أحدها نجاح السوفيات سنة 1957 في إطلاق أول قمر صناعي سبوتنيك 1، الذي جعل العالم كله يقول: مهندسوهم أحسن المهندسين، وذلك بسبب تفوق تكوينهم في العلوم وخاصة الرياضيات.
لكن بعد سنة 1985 اختفت المجموعات والمنطق من المتوسط والثانوي، وذلك لعدة أسباب:
تشكل جبهة معارضة للرياضيات الحديثة في التعليم قبل الجامعي، أسّسها معلمون قدامى لم يكن بإمكانهم مسايرة المستوى التقعيدي للرياضيات الجديدة، وأولياء أصبحوا عاجزين عن متابعة أبنائهم في دراستهم بسبب عجزهم عن فهم ما يدرس لهم.
عجز أغلبية التلاميذ عن استيعاب المنهج الجديد والتأقلم معه بسبب اختلافه عما تعودوه من حساب وهندسة إقليدية، وقصور تكوين المعلمين في هذا الجانب.
غلبة الاقتصادي على العلمي في هذه المسألة، وبروز طروحات جسدت لاحقا، تؤخر هذه المضامين إلى المرحلة الجامعية، وهو ما يحصل حاليا. فالمجتمع كما قالوا: بحاجة إلى مهندسين وحرفيين...وهؤلاء لا يحتاجون البنى الجبرية والمنطق في حركتهم العملية.
ووجهة نظري هي استحالة تدريس الرياضيات ابتداء من الثانوي دون فهم المجموعات والمنطق والبنى الجبرية. كل النظريات الرياضياتية هي استلزامات أو تكافؤات، كيف لطالب مثلا أن يفهمها بعمق إذا لم يدرس المنطق الذي يشرح له معنى الاستلزام والتكافؤ؟ وأساس الرياضيات كلها هو المجموعات، كيف يستقيم فهم بإلغائها من البرامج التعليمية!!
* كيف أثّر هذا على مستوى الطلبة الجدد في الجامعات مقارنة مع سابقيهم في زمن مضى؟
** كان لهذا مفعول سلبي عميق، خاصة عند الذين سيتخصّصون في الرياضيات، يأتون إلى الجامعة وهم جاهلون بأبسط مبادئ المنطق والمجموعات. لا يعرفون متى تكون القضية صحيحة؟ ومتى تكون خاطئة؟
حتى مجموعة تعريف الدالة التي كان على جيلنا تعيينها بنفسه، أصبحت تقدم جاهزة على طبق من ذهب في بداية التمرين مع الجيل الجديد!!!
ربما أخطأ من أدخلوا هذه الأشياء في التعليم نهاية الستينيات، فقد كانت شحنة التجريد عالية جدا، ممّا أحدث نفورا حادا منها.
*كانت شعبة الرياضيات، أساسية في كل الثانويات، وكان المتفوقون في التعليم المتوسط يُوجّهون تلقائيا إليها، لكنها تراجعت لصالح شعب متعددة تحت عنوان مشترك هو «تقني رياضي»، هل ساهم هذا الأمر في كسر حاجز خوف التلاميذ من هذا العلم؟
** الخوف من الرياضيات ظاهرة عالمية، وهناك اليوم ما يسمى «فوبيا الرياضيات» la mathématophobie ، خاصة عند النساء، والأمر يتعلق بالقوة التصورية كما تشير إلى ذلك بعض البحوث النسوية.
للقضاء على هذا الخوف يجب معالجة الظاهرة في أسبابها الموضوعية الجوهرية المذكورة سالفا.
أما شعبة «تقني رياضي» فقد سعى من أوجدها أول مرة إلى توفير تكوين يجمع بين التقنية والرياضيات، بما يؤهل أصحابه إلى حياة عملية ناجحة، وإلى كسر التصورات المغلوطة السائدة عن القطيعة بين الهندسة والرياضيات.
* وهل يكفي تأسيس ثانوية الرياضيات للمتفوقين لإعادة الاعتبار لها؟
** لا يكفي مطلقا، وسيظل إجراء متخلفا جدا عن متطلبات الواقع وعن طموحات المتفوقين وتغربهم عن ديارهم، لأنه لا يقدم لهم أي امتيازات مستقبلية. ولهذا رفضت تسجيل ابني في هذه الثانوية رغم حصوله على 20 في الرياضيات بشهادة التعليم المتوسط سنوات.
المتفوّقون في الجزائر مظلومون لأن أهل العلم الحقيقيين عموما غير محترمين البتة، ويتم تلميع محسوبين على العلم في غالب الأحيان.
وفي الأخير أشكرك جزيل الشكر على الاستضافة وعلى هذه الأسئلة العميقة جدا أخي الخير.